خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٧٥
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٧٦
أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٧
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٧٨
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ
٧٩
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الآيات الكريمة التى معنا قد افتتحت بتيئيس المؤمنين من دخول اليهود فى الإِسلام ولكن هذا التيئيس قد سبق بما يدعمه ويؤيده، فقد بينت الآيات السابقة عليها "موقف اليهود الجحودى من نعم الله - عز وجل - كما بينت تنطعهم فى الدين، وسوءه إدراكهم لمقاصد الشريعة، وقساوة قلوبهم من بعد أن رأوا من الآيات البينات ما رأوا، وبعد هذا البيان الموحى بالقنوط من استجابتهم للحق، خاطب الله المؤمنين بقوله:
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }.
ومعنى الآية الكريمة: أفتطمعون - أيها المؤمنون - بعد أن وصفت لكم من حال اليهود ما وصفت من جحود ونكران، أن يدخلوا فى الإِسلام. والحال أنه كان فريق من علمائهم وأحبارهم يسمعون كلام الله ثم يميلونه عن وجهه الصحيح من بعد ما فهموه، وهم يعلمون أنهم كاذبون بهذا التحريف على الله تعالى، أو يعلمون ما يستحقه محرفه من الخزى والعذاب الأليم.
فالخطاب فى الآية الكريمة للمؤمنين، والاستفهام يقصد به الإِنكار عليهم، إذ طمعوا فى استجابة اليهود لدعوة الحق، بعد أن علموا سوء أحوالهم، وفساد نفوسهم. والنهى عن الطمع فى إيمانهم لا يقتضى عدم دعوتهم إلى الإِيمان، فالمؤمنون مأمورون بدعوتهم إليه، لإِقامة الحجة عليهم فى الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم، ولقطع عذرهم فى الآخرة وقد تصادف الدعوة إلى الإِسلام نفوساً منصفة تستجيب لدعوة الحق، وتهتدى إلى الطريق المستقيم، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم هو وأصحابه من بعده. ولكن اليهود صموا آذانهم عن الحق بعد ما عرفوه فأصبحت دعوتهم إلى الإِسلام غير مجدية، وهنا يأتى النهى عن الطمع فى إيمانهم بهذه الآية وأمثالها.
وجملة { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } حالية، مشتملة على بيان أحد الأسباب الداعية إلى القنوط من إيمانهم، وبذلك يكون التقنيط من إيمانهم قد علل بعلتين:
إحداهما: ما سبق هذه الآية من تصوير لأحوالهم السيئة.
والثانية: ما تضمنته هذه الجملة الكريمة من تحريفهم لكلام الله عن علم وتعمد.
والمراد بالفريق فى قوله تعالى: { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } أحبارهم وعلماؤهم الذين عاصروا الرسل الكرام، فسمعوا منهم، أو الذين أتوا بعدهم فنقلوا عنهم.
والتحريف أصله انحراف الشىء عن جهته وميله عنها إلى غيرها. والمراد به هنا: إخراج الوحى والشريعة عما جاءت به، بالتغيير والتبديل فى الألفاظ، أو بالكتمان والتأويل الفاسد، والتفسير الباطل.
وقوله تعالى: { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } زيادة تشنيع عليهم، حيث إنهم حرفوا كلام الله بعد فهمهم له عن تعمد وسوء نية، وارتكبوا هذا الفعل الشنيع، رغم علمهم بما يستحقه مرتكبه من عقوبة دنيوية وأخروية.
ففى هذين القيدين من النعى عليهم مالا مزيد عليه، حيث أيطل بهما عذر الجهل والنسيان، وسجل عليهم تعمد الفسوق والعصيان.
وإنما كان قيام الفريق من أحبار اليهود بتحريف الكتاب سبباً فى اليأس من إيمان عامتهم، لأن هؤلاء العامة المقلدون، قد تلقوا دينهم عن قوم فاسقين، دون أن يلتفتوا إلى الحق، أو يتجهوا إلى النظر فى الأدلة الموصلة إليه، وأمثال هؤلاء الذين شبوا على عماية التقليد، وغواية الشيطان، لا يرجى منهم الوصول إلى نور الحق، وجلال الصدق، ولأن أمة بلغ الحال بعلمائها - وهم مظهر محامدهم - أن يجرؤوا على كلام الله فيحرفوه لا تنتظر من دهمائها أن يكونوا خيراً منهم حالا أو أسعد مآلا.
ثم أخبر القرآن الكريم عن بعضهم، بأنهم قد ضموا إلى رذيلة التحريف رذيلة النفاق والتدليس فقال تعالى: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }.
والمعنى: وإذا ما تلافى المنافقون من اليهود مع المؤمنين، قالوا لهم نفاقاً وخداعاً. صدقنا أن ما أنتم عليه هو الحق. وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، وإذا ما انفرد بعض اليهود ببعض قال الذين لم ينافقوا لإخوانهم الذين نافقوا معاتبين: أتخبرون المؤمنين بما بينه الله لكم فى كتابكم مما يشهد بحقية ما هم عليه، لتكون لهم الحجة عليكم يوم القيامة، أفلا تعقلون أن هذا التحديث يقيم الحجة لهم عليكم؟
فالآية الكريمة فيها بيان لنوع آخر من مساوئ اليهود ومخازيهم التى تدعو إلى اليأس من إيمانهم وتكشف النقاب عما كانوا يضمرونه من تدليس.
قال الإِمام الرازى: "وإنما عذلوهم على ذلك لأن اليهودى إذا اعترف بصحة التوراة، واعترف بشهادتها على صدق النبى صلى الله عليه وسلم كانت الحجة قوية عليه، فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضاً من الاعتراف بذلك أمام المؤمنين".
والاستفهام فى قوله تعالى: { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } للإِنكار والتوبيخ والفتح يطلق على القضاء ومنه قوله تعالى:
{ رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } أى: افض بيننا وبين قومنا بالحق.
قال ابن جرير: "أصل الفتح فى كلام العرب القضاء والحكم والمعنى أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم؟ ومن حكمه - تعالى - وقضائه فيهم أخذه ميثاقهم بأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد بشرت به التوراة".
وقوله تعالى: { لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } متعلق بالحديث ومرادهم تأكيد النكير على إخوانهم الذين أظهروا إيمانهم نفاقاً، فكأنهم يقولون لهم: أتحدثون المؤمنين بما يفضحكم يوم القيامة أمام الخالق - عز وجل - وفى حكمه وقضائه، لأنهم سيقولون لكم. ألم تحدثونا فى الدنيا بما فى كتابكم من حقيقة ديننا وصدق نبينا؟ فيكون ذلك زائداً فى ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رءوس الخلائق يوم الموقف العظيم، لأنه ليس من اعترف بالحق ثم كتم كمن ثبت على الإِنكار.
وجملة { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } من بقية مقولهم لمن نافق منهم، وقد أتوا بها لزيادة توبيخهم لهم حتى لا يعودوا إلى التحدث مع المؤمنين.
والمعنى: أليست لكم عقول تحجزكم عن أن تحدثوا المؤمنين بما يقيم لهم الحجة عليكم يوم القيامة؟
ثم وبخهم الله على جهلهم بحقيقة علمه فقال تعالى: { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أى: أيقول الذين لم ينافقوا من اليهود لإِخوانهم الذين نافقوا ما قالوا، ويكتمون من صفات النبى صلى الله عليه وسلم ما كتموا، ويحرفون من كتاب الله ما حرفوا، ولا يعلمون أن الله يعلم. ما يخفون من كفر وحقد، وما يظهرون من إيمان وود؟
فالآية الكريمة فيها توبيخ وتجهيل لليهود الذين عاتبوا المنافقين منهم على تحديث المؤمنين بما فى توراتهم مما يؤيد صدق النبى صلى الله عليه وسلم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيماناً صادقاً بإحاطة علمه بسرهم وعلانيتهم، لما نهوا إخوانهم عن تحديث المؤمنين بما فيها فإن ما فيها من صفات للنبى صلى الله عليه وسلم من الحقائق التى أمرهم الله ببيانها ونهاهم عن كتمانها.
ثم بين القرآن الكريم بعد ذلك حال عوام اليهود ومقلديهم، بعد أن بين حال علمائهم ومنافقيهم فقال تعالى: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } أى: ومن اليهود قوم أميون لا يحسنون الكتابة، ولا يعلمون من كتابهم التوراة سوى أكاذيب اختلقها لهم علماؤهم أو أمنيات باطلة يقدرونها فى أنفسهم بدون حق، أو قراءات عارية عن التدبر والفهم، وقصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة اليقين المبنى على البرهان القاطع والدليل الساطع.
فالآية الكريمة فيها زيادة تيئيس للمؤمنين من إيمان كافة اليهود بفرقهم المختلفة. فإنهم قد وصلوا إلى حال من الشناعة لا مطمع معها فى هداية، فعلماؤهم محرفون لكتاب الله على حسب أهوائهم وشهواتهم، وعوامهم لا يعرفون من كتابهم إلا الأكاذيب والأوهام التى وضعها لهم أحبارهم، وأمة هذا شأن علمائها وعوامها لا ينتظر منها أن تستجيب للحق أو أن تقبل على الصراط المستقيم.
و(الأمانى) - بالتشديد - جمع أمنية، مأخوذة من تمنى الشىء أى: أحب أن يحصل عليه، أو من تمنى إذا كذب، أو من تمنى الكتاب أى قرأه.
فإن فسرنا الأمانى بالأول كان قوله تعالى { إِلاَّ أَمَانِيَّ } معناه: إلا ما هم عليه من أمانيهم فى أن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آياءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات.
وإن فسرناها بالكذب، كان قوله تعالى: { إِلاَّ أَمَانِيَّ } معناه: إلا أكاذيب مختلفة، سمعوها من أحبارهم فقبلوها على التقليد.
وإن فسرنا الأمنية بالقراءة كان قوله تعالى: { إِلاَّ أَمَانِيَّ } معناه: إلا ما يقرءونه من قراءات خالية من التدبر، وعارية عن الفهم. من قوله تمنى كتاب الله أول ليله... أى قرأ.
هذا، وقد رجح ابن جرير تفسير (الأمانى) بالأكاذيب فقال: ما ملخصه "وأولى ما روينا فى تأويل قوله تعالى: { إِلاَّ أَمَانِيَّ } بالصواب، أن هؤلاء الأميين لا يفقهون من الكتاب الذى أنزله الله على موسى شيئاً، ولكنهم يتخرصون الكذب، ويتقولون الأباطيل كذباً وزوراً، والتمنى فى هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله بدليل قوله تعالى بعد { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظناً منهم لا يقيناً".
والذى نراه أن المعانى الثلاثة للأمانى تنطبق على اليهود، وكلها حصلت منهم؛ وما دام يصدق عليهم المعانى الثلاثة لغة فجميعها مرادة من الآية، ولا معنى لأن نشتغل بترجيح بعضها على بعض كما فعل ابن جرير وغيره.
وعلى أى تفسير من هذه التفاسير للأمانى، فالاستثناء منقطع، لأن أى واحد من هذه المعانى ليس من علم الكتاب الحقيقى فى شىء.
وفى قوله تعالى: { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } زيادة تجهيل لهم، لأن أمنياتهم هذه من باب الأوهام التى لا تستند إلى دليل أو شبه دليل، أو من باب الظن الذى هو ركون النفس إلى وجه من وجهين يحتملهما الأمر دون أن تبلغ فى ذلك مرتبة القطع واليقين. وهذا النوع من العلم لا يكفى فى معرفة أصول الدين التى يقوم عليها الإِيمان العميق، فهم ليسوا على علم يقينى من أمور دينهم، وإنما هم يظنونها ظناً بدون استيقان، والظن لا يغنى من الحق شيئاً.
وبعد أن بين القرآن الكريم فرق اليهود، توعد الذين يحرفون الكلم عن مواضعه بسوء المصير فقال تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }:
والمعنى: فهلاك وفضيحة وخزى لأولئك الأحبار من اليهود الذين يكتبون الكتابات المحرفة والتأويلات الفاسدة بأيديهم، بدلا مما اشتملت عليه الكتب من حقائق، ثم يقولون لجهالهم ومقلديهم كذباً وبهتاناً هذا من عند الله، ومن نصوص التوراة التى أنزلها الله على موسى، ليأخذوا فى نظير ذلك عرضاً يسيراً من حطام الدنيا، فعقوبة عظيمة لهم بسبب ما قاموا به من تحريف وتبديل لكلام الله، وخزى كبير لهم من أجل ما اكتسبوه من أموال بغير حق.
فالآية الكريمة فيها تهديد شديد لأحبار اليهود الذين تجرءوا على كتاب الله بالتحريف والتبديل، وباعوا دينهم بدنياهم، وزعموا أن ما كتبوه هو من عند الله.
وصرح - سبحانه - بأن الكتابة بـ { أَيْدِيهِمْ } ليؤكد أنهم قد باشروها عن تعمد وقصد، وليدفع توهم أنهم أمروا غيرهم بكتابتها، ولتصور حالتهم فى النفوس كما وقعت، حتى ليكاد السامع لذلك أن يكون مشاهداً لهيئتهم.
وقوله تعالى: { ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ } كشف عن كذبهم وفجورهم، فهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ثم يزعمون أنه من عند الله ليتقبله أتباعهم بقوة واطمئنان.
ثم بين - سبحانه - العلة التى حملنهم على التحريف والكذب فقال تعالى: { لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أى كتبوا الكتابة بأيديهم، ونسبوها إلى الله زوراً وبهتاناً؛ ليحصلوا على عرض قليل من أعراض الدنيا، كاجتلاب الأموال الحرام، وانتحال العلم لأنفسهم والطمع فى الرئاسة والجاه، وإرضاء العامة بما يوافق أهواءهم.
وعبر - سبحانه - عن الثمن بأنه قليل، لأنه مهما كثر فهو قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب، وحرموه من الثواب المقيم.
وقوله تعالى: { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } تهديد لهم مرتب على كتابة الكتاب المحرف، وعلى أكلهم أموال الناس بالباطل، فهو وعيد لهم على الوسيلة - وهى الكتابة - وعلى الغاية - وهى أخذ المال بغير حق -.
قال الشيخ القاسمى: قال الراغب: فإن قيل: لم ذكر { يَكْسِبُونَ } بلفظ المستقبل، و{ كَتَبَتْ } بلفظ الماضى؟ قيل: تنبيهاً على ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم،
"من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" فنبه بالآية إلى أن ما أثبتوه من التأويلات الفاسدة التى يعتمدها الجهلة هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا، وعبر بالكتابة دون القول لأنها متضمنة له وزيادة، فهى كذب باللسان واليد. وكلام اليد يبقى رسمه، أما القول فقد يضمحل أثره".
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد دمغت اليهود برذيلة التحريف لكلام الله عن تعمد وإصرار ووصفتهم بالنفاق والخداع، ووبختهم على بلادة أذهانهم وسوء تصورهم لعلم الله - تعالى - وتوعدتهم بسوء المصير جزاء كذبهم على الله.
ثم حكى القرآن بعد ذلك لوناً من ألوان دعاواهم الباطلة، وأقاويلهم الفاسدة، ورد عليهم بما يخرس ألسنتهم ويقطع حجتهم، فقال تعالى:
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ... هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.