خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨٠
بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨٢
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات آثاراً، منها ما روى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: "إن اليهود كانوا يقولون إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً فى النار، وإنما هى سبعة أيام معدودة"، فأنزل الله تعالى: { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ... } الآيات.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: "حدثنى أبى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لليهود أنشدكم بالله وبالتوراة التى أنزلها الله على موسى يوم طور سيناء، من أهل النار الذين أنزلهم الله فى التوراة؟ قالوا: إن ربنا غضب علينا غضبة، فنمكث فى النار أربعين ليلة، ثم نخرج فتخلفوننا فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبتم والله لا نخلفكم فيها أبداً، فنزل القرآن تصديقاً لقول النبى صلى الله عليه وسلم وتكذيباً لهم - نزل قوله تعالى - { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً... } إلى قوله تعالى: { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
وأخرج ابن جرير - أيضاً - عن ابن عباس أنه قال فى قوله تعالى: { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } ذلك أعداء الله اليهود، قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم. الأيام التى أصبنا فيها العجل أربعين يوماً، فإذا انقضت عنا تلك الأيام انقطع عنا العذاب والقسم.
هذه بعض الآثار التى وردت فى سبب نزول الآيات الكريمة، والمعنى:
وقالت اليهود - يا محمد - إن النار لن تصيبنا، ولن نذوق حرها، إلا أياماً قلائل - قل لهم - يا محمد - رداً على دعواهم الكاذبة هل اتخذتم من الله عهداً بذلك حتى يكون الوفاء به متحققاً؟ أم تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه؟
ثم أبطل القرآن الكريم دعواهم بأصل عام يشملهم ويشمل غيرهم فقال. ليس الأمر كما تدعون، بل الحق أنه من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ومات عليها دون أن يتوب إلى الله - تعالى - منها { فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
وقوله تعالى: { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } بيان لضرب من ضروب غرورهم وكذبهم، معطوف على رذائلهم السابقة التى حكاها القرآن الكريم، إذ الضمير فى قوله تعالى (وقالوا) يعود على اليهود الذين مر الحديث عنهم ولما ينته بعد.
والمس: اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإِحساس والإِصابة.
والمراد من النار: نار الآخرة. والمراد من المعدودة: المحصورة القليلة، يقال: شىء معدود أى قليل. وشىء غير معدود أى كثير فهم يدعون أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة قد تكون سبعة أيام، وقد تكون أربعين يوماً، وبعدها يخرجون إلى الجنة لأن كل معدود منقض.
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فيما زعموه فقال تعالى: { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أى: قل لهم - يا محمد - إن مثل هذا الإِخبار الجازم بأن النار لن تمسكم إلا أياماً معدودة، لا يكون إلا ممن اتخذ عهداً من الله بذلك، فهل تقدم لكم من الله عهد بأن النار لن تمسكم إلا أياماً معدودة، فكان الوفاء متحققاً، لأن الله - تعالى - لا يخلف وعده، أم تقولون على الله شيئاً لا علم لكم به.
فالاستفهام للإِنكار، وهو متوجه إلى زعمهم أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، فكأنه - سبحانه - يقول لهم. إن قولكم هذا يحتمل أمرين لا ثالث لهما: إما اتخاذ عهد عند الله به، وإما القول عليه - سبحانه - بدون علم، وما دام قد ثبت أن اتخاذ العهد لم يحصل، إذا أنتم - يا معشر اليهود - كاذبون فيما تدعون من أن النار لن تمسكم إلا أياماً معدودة.
قال الإِمام الرازى: قوله تعالى: { أَتَّخَذْتُمْ } ليس باستفهام بل هو إنكار؛ لأنه لا يجوز أن يجعل الله - تعالى - حجة رسوله فى إبطال قولهم أن يستفهمهم بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال، وهى أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع، فلما لم يوجد الدليل السمعى وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير.
وإنما ساق القرآن الكريم الرد عليهم فى صورة الاستفهام، لما فيه من ظهور القصد إلى تقريرهم بأنهم قالوا على الله ما لا يعلمون، إذ هم لا يستطيعون أن يثبتوا أن الله وعدهم بما ادعوه من أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، ولا يوجد عندهم نص صحيح من كتابهم يؤيد مدعاهم.
وبذلك تكون الآية الكريمة قد أبطلت مدعاهم إبطالا يحمل طابع الإِنكار والتوبيخ.
ثم ساق - سبحانه - آية أبطلت مدعاهم عن طريق إثبات ما نفوه فقال تعالى: { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
بلى حرف جواب يجىء لإِثبات فعل ورد قبلها منفياً، والفعل المنفى هنا هو قول اليهود { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } فجاءت "بلى" لإِثبات أن النار تمسهم أكثر مما زعموا فهم فيها خالدون جزاء كفرهم وكذبهم.
ومعنى الآية الكريمة: ليس الأمر كما تدعون أيها اليهود، من أن النار لن تمسكم إلا أياماً معدودة، بل الحق أنكم ستخلدون فيها. فكل من كسب شركاً مثلكم، واستولت عليه خطاياه، وأحاطت به كما يحيط السرادق بمن فى داخله، ومات على ذلك دون أن يدخل الإِيمان قلبه ويتوب إلى ربه فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
فالآية الكريمة فيها إبطال لمدعاهم، وإثبات لما نفوه، على وجه يشملهم ويشمل جميع من يقول قولهم، ويكفر كفرهم.
هذا والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله كما قال جمهور المفسرين لورود الآثار عن السلف بذلك، وفائدة الإِنيان بقوله تعالى { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ } بعد ذلك، الإِشعار بأن الخطيئة إذا أحاطت بصاحبها أخذت بمجامع قلبه فحرمته الإِيمان، وأخذت بلسانه فمنعته عن أن ينطق به.
وقوله تعالى { فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بيان لما أعد لهم من عقوبات جزاء كفرهم وكذبهم على الله، فهم يوم القيامة سيكونون أصحاباً للنار ملازمين لها على التأييد لإِيثارهم فى الحياة الدنيا ما يوردهم سعيرها، وهو الكفر وسوء الأفعال على ما يدخلهم الجنة وهو الإِيمان وصالح الأعمال.
وبعد أن ذكر - سبحانه - ما أعد لهؤلاء اليهود وأمثالهم من الكافرين الذين يفترون على الله الكذب، عقب ذلك ببيان ما أعده - سبحانه - لأهل الإِيمان والتقوى فقال تعالى: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أى: والذين آمنوا بالله ورسوله، وأطاعوا الله فأقاموا حدوده، وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه، فأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون خلوداً أبدياً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ردت على اليهود أبلغ رد. حيث كذبتهم فى دعواهم أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة، وأخبرتهم بخلودهم وخلود كل كافر فى النار، وأما الجنة فهى لمن آمن وعمل صالحاً واتبع سبيل المرسلين فهؤلاء أصحابها وهم فيها خالدون.
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن رذيلة من أبرز الرذائل التى طبع عليها بنو إسرائيل، وهى رذيلة نقضهم للعهود والمواثيق فقال تعالى:
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ... }