خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ
١٢٤
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً
١٢٥
قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ
١٢٦
وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ
١٢٧
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ
١٢٨
وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى
١٢٩
-طه

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله: { ضَنكاً } أى: شديدة الضيق. وكل شىء ضاق فهو ضنك.
وهو مصدر يستوى فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع يقال: ضنك - ككرم - عيش فلان ضنكا وضناكة إذا ضاق.
والمعنى أن من اتبع هداى الذى جاءت به رسلى فلن يضل ولن يشقى، أما من أعرض عن { ذِكْرِي } أى: عن هداى الذى جاءت به رسلى، واشتملت عليه كتبى { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً }.
أى: فإن لهذا المعرض معيشة ضيقة مليئة بالهم والغم والأحزان وسوء العاقبة، حتى ولو ملك المال الوفير، والحطام الكثير.. فإن المعيشة الطيبة لا تكون إلا مع طاعة الله، وامتثال أمره، واجتناب نهيه...
قال - تعالى -:
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } قال الإمام ابن كثير: قوله - تعالى -: { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } أى: فى الدنيا فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى. فهو فى قلق وحيرة وشك، فلا يزال فى ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة...
وقال سفيان بن عيينة، عن أبى حازم، عن أبى سلمة، عن ابى سعيد فى قوله { مَعِيشَةً ضَنكاً } قال: يضيق عليه قبره. حتى تختلف أضلاعه.
والمراد بالعمى فى قوله - سبحانه -: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ }: عمى البصر، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً }.
وقوله - سبحانه - فى آية أخرى:
{ وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } وقيل: المراد بالعمى: هنا أنه لا حجة له يدافع بها عن نفسه، وقيل: المراد به: العمى عن كل شىء سوى جهنم.
والذى يبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الحق، لأنه هو الظاهر من الآية الكريمة، ولا قرينة تمنع من إرادة هذا الظاهر.
ويجمع بين هذه الآية وما يشبهها وبين الآيات الأخرى التى تدل على أن الكفار يبصرون ويسمعون ويتكلمون يوم القيامة، والتى منها قوله - تعالى -:
{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا.. } أقول: يجمع بين هذه الآية وما يشبهها، وبين الآيات الأخرى بوجوه منها: أن عماهم وصممهم فى أول حشرهم، ثم يرد الله - تعالى - عليهم بعد ذلك أبصارهم وسمعهم، فيرون النار، ويسمعون ما يحزنهم.
قال الجمل: قوله: { أَعْمَىٰ } حال من الهاء فى نحشره، والمراد عمى البصر وذلك فى المحشر، فإذا دخل النار زال عنه عماه ليرى محله وحاله، فهو أعمى فى حال وبصير فى حال أخرى.
ومنها: تنزيل سمعهم وبصرهم وكلامهم منزلة العدم لعدم انتفاعهم بذلك فقد قال - تعالى - فى شأن المنافقين:
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } بتنزيل سماعهم وكلامهم وإبصارهم منزلة العدم، حيث إنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس.
وقوله - سبحانه -: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } استئناف مسوق لبيان ما يقوله ذلك المعرض عن طاعة الله يوم القيامة.
أى: قال ذلك الكافر الذى حشره الله - تعالى - يوم القيامة أعمى: يا رب لماذا حشرتنى على هذه الحال مع أنى كنت فى الدنيا بصيرا؟.
وهنا يأتيه الجواب الذى يخرسه، والذى حكاه الله - تعالى - فى قوله: { قَالَ كَذٰلِكَ } أى: قال الله - تعالى - فى الرد عليه: الأمر كذلك، فإنك { أَتَتْكَ آيَاتُنَا } الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا { فَنَسِيتَهَا } أى: فتركتها وأعرضت عنها { وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } أى: كما تركت آياتنا فى الدنيا وأعرضت عنها، نتركك اليوم فى النار وفى العمى جزاء وفاقا.
ثم ساق - سبحانه - سنة من سننه التى لا تختلف فقال: { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ }.
أى: ومثل ذلك الجزاء الأليم الذى أنزلناه بهؤلاء المعرضين عن ذكرنا نجازى كل من أسرف فى ارتكاب السيئات والموبقات، وكل من لم يؤمن بآيات ربه بل كذب بها وأعرض عنها، لعذاب الآخرة اشد من عذاب الدنيا، و{ وَأَبْقَىٰ } منه أى: وأكثر بقاء، وأطول زمانا من عذاب الدنيا.
ثم وبخ - سبحانه - أولئك الذين لم ينتفعوا بآياته فقال: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ.. }.
والهمزة للاستفهام الإِنكارى التوبيخى، والفاء للعطف على مقدر..
والمعنى: أبلغت الغفلة والجهالة بهؤلاء المشركين، أنهم لم يتبين لهم، أننا أهلكنا كثيرا من أهل القرون الماضية، الذين كانوا يمشون آمنين لاهين فى مساكنهم...
وكان إهلاكنا لهم بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان، والغى على الرشد، والعمى على الهدى...
فالآية الكريمة تقريع وتوبيخ لكفار مكة الذين لم يعتبروا بما أصاب أمثالهم من الأمم السابقة، كقوم نوح وعاد وثمود...
قال الآلوسى: وقوله: { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } حال من { ٱلْقُرُونِ } أو من مفعول { أَهْلَكْنَا } أى: أهلكناهم وهم فى حال آمن وتقلب فى ديارهم. واختار بعضهم كونه حالا من الضمير فى { لَهُمْ } مؤكدا للإِنكار والعامل فيه { يَهْدِ }. أى: أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين فى مساكنهم من أهلكنا من القرون السالفة من أصحاب الحجر، وثمود، وقوم لوط، مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى بلاد الشام وغيرها...
وقوله - سبحانه -: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } تذييل قصد به تعليل الإِنكار، أى: إن فى ذلك الذى أخبرناهم به، وأطلعناهم عليه من إهلاك المكذبين السابقين، { لآيَاتٍ } عظيمة، وعبر كثيرة، ودلائل واضحة لأصحاب العقول السليمة، التى تنهى أصحابها عن القبائح والآثام.
والنهى: جمع نُهية - بضم النون وإسكان الهاء - سمى العقل بها لنهيه عن القبائح.
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على هؤلاء المشركين الذين أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لإنقاذهم من الكفر والضلالة فقال - تعالى -: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى }.
والمراد بالكلمة السابقة، ما تفضل الله - تعالى - به من تأخير عذاب الاستئصال عن هذه الأمة التى بعث فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكريما له كما قال - تعالى -
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ... } أو لأن من نسلهم من يؤمن بالله حق الإِيمان، أو لحكم أخرى يعلمها - سبحانه - ولزاما: مصدر بمعنى اسم الفاعل، وفعله لازم كقاتل.
وقوله: { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } معطوف على { كَلِمَةٌ }.
والمعنى: ولولا الوعد السابق منا بتأخير العذاب عن هؤلاء المشركين إلى يوم القيامة. ولولا الأجل المسمى المحدد فى علمنا لانتهاء أعمارهم، لما تأخر عذابهم أصلا، بل لكان العذاب لازما لهم فى الدنيا، ونازلا بهم كما نزل بالسابقين من أمثالهم فى الكفر والضلال.
ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمداومة على الصبر، وعلى الإِكثار من ذكره - تعالى - ونهاه عن التطلع إلى زينة الحياة الدنيا.
فقال - تعالى -: { فَٱصْبِرْ.... }.