خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ
٨٣
قَالَ هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ
٨٤
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ
٨٥
فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ يٰقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي
٨٦
قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ
٨٧
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ
٨٨
أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً
٨٩
-طه

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

هذه الآيات الكريمة تحكى قصة ملخصها: أن موسى عليه السلام بعد أن أهلك الله - تعالى - فرعون وجنوده، سار ببنى إسرائيل متجها ناحية جبل الطور، ثم تركهم مستخلفا عليهم أخاه هارون، وذهب لمناجاة ربه ومعه سبعون من وجهائهم، ثم عجل من بينهم شوقا للقاء ربه، فأخبره - سبحانه - بما أحدثه قومه فى غيبته عنهم. وجملة { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ } مقول لقول محذوف.
والمعنى: وقلنا لموسى: أى شىء جعلك تتعجل المجىء إلى هذا المكان قبل قومك وتخلفهم وراءك، مع أنه ينبغى لرئيس القوم أن يتأخر عنهم فى حالة السفر، ليكون نظره محيطا بهم ونافذا عليهم؟.
فأجاب معتذرا لربه - تعالى - بقوله: { هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي } أى: على مقربة منى، وسيلحقون بى بعد زمن قليل { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ } أى: وقد حملنى على أن أحضر قلبهم، شوقى إلى مكالمتك - يا إلهى - وطمعى فى زيادة رضاك عنى.
فموسى - عليه السلام - قد علل تقدمه على قومه فى الحضور بعلتين، الأولى: أنهم كانوا على مقربة منه. والثانية: حرصه على استدامة رضى ربه عنه.
قال صاحب الكشاف: فأن قلت: { مَآ أَعْجَلَكَ } سؤال عن سبب العجلة، فكان الذى ينطبق عليه من الجواب أن يقال: طلب زيادة رضاك أو الشوق فى كلامك. وقوله: { هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي } كما ترى غير منطبق عليه؟.
قلت: قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين: أحدهما: إنكار العجلة فى نفسها، والثانى: السسؤال عن سببها الحامل عليها، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر، وتمهيد العلة فى نفس ما أنكر عليه، فاعتل بأنه لم يوجد منى إلا تقدم يسير، مثله لا يعتد به فى العادة، ولا يحتفل به، وليس بينى وبين من سبقته إلا مسافة قريبة، يتقدم بمثلها الوفْدَ رئيسُهم ومقدمُهم. ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ }.
وقوله - تعالى -: { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ } إخبار منه - سبحانه - بما فعله قومه بعد مفارقته لهم.
وكلمة { فَتَنَّا } من الفَتْن ومعناه لغة: وضع الذهب فى النار ليتبين أهو خالص أز زائف.
والفتنة تطلق فى القرآن بإطلاقات متعددة منها: الدخول فى النار كما فى قوله - تعالى -:
{ يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } ومنها الحجة كما فى قوله - تعالى -: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ومنها: الاختبار والامتحان، كما فى قوله - سبحانه -: { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } ومنها الاضلال والاشراك، كما فى قوله - تعالى -: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } وقوله - سبحانه -: { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً.. } ويبدو أن المراد بالفتنة هذا المعنى الأخير وهو الإضلال والشرك، لأن فتنتهم كانت بسبب عبادتهم للعجل فى غيبه موسى - عليه السلام -.
ويدل على هذا قوله - تعالى -:
{ وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ.. } والسامرى: اسم للشخص الذى كان سببا فى ضلال بنى إسرائيل، قيل: كان من زعماء بنى إسرائيل وينسب إلى قبيلة تعرف بالسامرة.
وقيل: إنه كان من قوم يعبدون البقر، وقيل غير ذلك من أقوال مظنونة غير محققة.
أى: قال الله - تعالى - لموسى: فإنا قد أضللنا قومك من بعد مفارقتك لهم، وكان السبب فى ضلالهم السامرى، حيث دعاهم إلى عبادة العجل فانقادوا له وأطاعوه.
وقوله - تعالى -: { فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } بيان لما كان منه - عليه السلام - بعد أن علم بضلال قومه.
وكان رجوع موسى إليهم بعد أن ناجى ربه، وتلقى منه التوراة.
قال الآلوسى ما ملخصه: { فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ } عند رجوعه المعهود أى: بعد ما استوفى الأربعين "ذا القعدة وعشر ذى الحجة" وأخذ التوراة لا عقيب الإخبار المذكور، فسببية ما قبل الفاء لما بعدها إنما هى باعتبار قيد الرجوع المستفاد من قوله { غَضْبَانَ أَسِفاً } لا باعتبار نفسه، وإن كانت داخلة عليه حقيقة، فإن كون الرجوع بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهور لا يذهب الوهم إلى كونه عند الإخبار المذكور...".
والمعنى فرجع موسى إلى قومه - بعد مناجاته لربه وبعد تلقيه التوراة حالة كونه { غَضْبَانَ أَسِفاً } أى: غضبان شديد الغضب.
فالمراد بالأسف شدة الغضب، وقيل المراد به الحزن والجزع.
ثم بين - سبحانه - ما قاله موسى لقومه بعد رجوعه إليهم فقال: { قَالَ يٰقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً.. }.
أى: قال لهم على سبيل الزجر والتوبيخ يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا لا سبيل لكم إلى إنكاره، ومن هذا الوعد الحسن: إنزال التوراة لهدايتكم وسعادتكم، وإهلاك عدوكم أمام أعينكم. فلماذا أعرضتم عن عبادته وطاعته مع أنكم تعيشون فى خيره ورزقه..؟.
ثم زاد فى تأنيبهم وفى الإنكار عليهم فقال: { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي }.
فالاستفهام فى قوله { أَفَطَالَ... } للنفى والإنكار و { أَمْ } منقطعة بمعنى بل.
والمعنى: أفطال عليكم الزمان الذى فارقتكم فيه؟ لا إنه لم يطل حتى تنسوا ما أمرتكم به، بل إنكم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم، فأخلفتم موعدى الذى وعدتمونى إياه وهو أن تثبتوا على إخلاص العبادة لله - تعالى -.
ومعنى إرادتهم حلول الغضب عليهم، أنهم فعلوا ما يستوجب ذلك وهو طاعتهم للسامرى فى عبادتهم للعجل.
قال ابن جرير: كان إخلافهم موعده: عكوفهم على عبادة العجل، وتركهم السير على أثر موسى للموعد الذى كان الله وعدهم، وقولهم لهارون إذ نهاهم عن عبادة العجل ودعاهم إلى السير معه فى أثر موسى:
{ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ } ثم حكى - سبحانه - معاذيرهم الواهية التى تدل على بلادة عقولهم، وانتكاس أفكارهم، وتفاهة شخصيتهم فقال - تعالى -: { قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا.. }.
وقوله { بِمَلْكِنَا } قرأه نافع وعاصم - بفتح الميم وسكون اللام - أى: بأمرنا. وقرأه حمزة والكسائي { بِمِلْكِنَا } بكسر الميم وسكون اللام - أى: بطاقتنا: وقرأه الباقون - بضم الميم وسكون اللام - أى: بسلطاننا، وهو مصدر مضاف لفاعله ومفعوله محذوف، أى: بملكنا أمرنا.
أى: قال بنو إسرائيل لنبيهم موسى على سبيل الاعتذار الذى هو أقبح من ذنب: ما أخلفنا موعدك فعبدنا العجل بأمرنا وطاقتنا واختيارنا، فقد كان الحال أكبر من أن يدخل تحت سلطاننا، ولو خلينا بيننا وبين أنفسنا ولم يسول لنا السامرى ما سول لبقينا على العهد الذى عاهدناك عليه، وهو أن نعبد الله - تعالى - وحده.
وقوله: { وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ } حكاية لبقية ما قالوه من أعذار قبيحة.
ولفظ: "حملنا" قرأه ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم - بضم الحاء وتشديد الميم - على أنه فعل ونائب فاعل، وقرأه الباقون - بفتح الحاء والميم - على أنه فعل وفاعل.
قال الآلوسى ما ملخصه: والمراد بالقوم: القبط، والأوزار: الأحمال وتسمى بها الآثام، وقصدوا بذلك ما استعاروه من القبط من الحلى فى عيد لهم قبل الخروج من مصر، وقيل: استعاروه باسم العرس. وقيل: هى ما ألقاه البحر على الساحل مما كان على الذين غرقوا وهم فرعون وجنوده فأخذ بنو إسرائيل ذلك على أنه غنيمة مع أنها لم تكن حلالا لهم.
أى: قال بنو إسرائيل لموسى: ما أخلفنا عهدك بأمرنا ولكنا حملنا أثقالا وأحمالا من زينة القبط التى أخذناها منهم بدون حق { فَقَذَفْنَاهَا } فى النار بتوجيه من السامرى، { فَكَذَلِكَ } أى: فكما ألقينا ما معنا { أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ } ما معه من تلك الزينة.
قال ابن كثير: وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط، فألقوها عنهم، فعبدوا العجل، فتورعوا عن الحقير، وفعلوا الأمر الكبير...
ثم بين - سبحانه - ما صنعه لهم السامرى من تلك الحلى فقال: { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ }.
والخوار: الصوت المسموع.
أى: فكانت نتيجة ما قذفوه من الحلى فى النار، أن أخرج السامرى لهم من ذلك { عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } أى: صوت كصوت البقر.
قيل: إن الله - تعالى - خلق الحياة فى ذلك العجل على سبيل الاختبار والامتحان لهم.
وقيل: لم تكن به حياة، ولكن السامرى صنعه لهم بدقة، وجعل فيه منافذ إذا دخلت فيها الريح أخرجت منه صوتا كصوت خوار البقر.
فقال بنو إسرائيل عندما رأوا العجل الذى صنعه لهم السامرى: هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه، لأن موسى نسى إلهه هنا، وذهب ليبحث عنه فى مكان آخر، فالضمير فى قوله { فَنَسِيَ } يعود لموسى.
وقولهم هذا يدل على بلادتهم وسوء أدبهم مع نبيهم، فهم لم يكتفوا بعبادة العجل، بل زعموا أن نبيهم الداعى لهم إلى توحيد الله، قد كان يعبد العجل وأنه قد نسى مكانه فذهب يبحث عنه.
وقيل: إن الذى حدث منه النسيان هو السامرى، وأن النسيان بمعنى الترك، أى: فترك السامرى ما كان عليه من الإيمان الظاهرى، ونبذ الدين الذى بعث الله - تعالى - به موسى، وحض الناس على عبادة العجل الذى صنعه لهم.
والقول الأول هو أرجح، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة، ولأنه هو المأثور عن السلف.
قال ابن جرير: "وأولى الأقوال بالصواب عندنا أن يكون { فَنَسِيَ } خبرا من الله - تعالى - عن السامرى، وأنه وصف موسى بأنه نسى ربه، وأن ربه الذى ذهب يريده هو العجل الذى أخرجه السامرى، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه، ولأنه عقيب ذكر موسى، وهو أن يكون خبرا من السامرى عنه بذلك أشبه من غيره".
وقوله - تعالى -: { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } تقريع لهم على جهلهم وغبائهم وسوء أدبهم.
والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أى: أبلغ عمى البصيرة عند هؤلاء السفهاء أنهم لم يفطنوا إلى أن هذا العجل الذى اتخذوه إلها، لا يستطيع أن يجيبهم إذا سألوه أو خاطبوه، ولا يرد عليهم قولا يقولونه له، ولا يملك لهم شيئا لا من الضر ولا من النفع.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } ثم بين - سبحانه - موقف هارون - عليه السلام - من هؤلاء الجاهلين الذين عبدوا العجل، فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ... }.