خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَمِ ٱتَّخَذُوۤاْ آلِهَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ
٢١
لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
٢٢
لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
٢٣
أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ
٢٤
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ
٢٥
-الأنبياء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى: اعلم أن الكلام من أول السورة إلى هنا كان فى النبوات وما يتصل بها من الكلام سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها فى بيان التوحيد ونفى الأضداد والأنداد..".
والاستفهام فى قوله { أَمِ ٱتَّخَذُوۤا }.. للإِنكار والتوبيخ. وقوله: { يُنشِرُونَ } من النشر بمعنى الإِحياء والبعث. يقال: أنشر الله - تعالى - الموتى: إذا بعثهم بعد موتهم.
والمعنى: إن هؤلاء الضالين قد أشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة، فهل هذه الآلهة التى اتخذوها تستطيع أن تعيد الحياة إلى الأموات؟
كلا إنها لا تستطيع ذلك بإقرارهم ومشاهدتهم، وما دام الأمر كذلك فكيف أباحوا لأنفسهم أن يتخذوا آلهة لا تستيطع أن تفعل شيئا من ذلك أو من غيره؟
إن اتخاذهم هذا لمن أكبر الأدلة وأوضحها على جهالاتهم وسفاهاتهم وسوء تفكيرهم.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر. وما كانوا يدّعون ذلك لآلهتهم، لأنهم كانوا ينكرون البعث أصلا ويقولون: من يحيى العظام وهى رميم؟ قلت: الأمر كما ذكرت ولكنهم بادعائهم لها الإِلهية، يلزمهم أن يدعوا لها الإِنشار، لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور، والإِنشار من جملة المقدورات. وفيه باب من التهكم بهم، والتوبيخ والتجهيل، وإشعار بأن ما استبعدوه من الله - تعالى - لا يصح استبعاده، لأن الإِلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإِبداء والإِعادة.
وقوله - سبحانه - { مِّنَ ٱلأَرْضِ } متعلق باتخذوا، و "من" ابتدائية، أى: اتخذوها من أجزاء الأرض كالحجارة وما يشبهها، ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة للآلهة، أى: اتخذوا آلهة كائنة من الأرض.. وعلى كلا التقديرين فالمراد بهذا التعبير التحقير والتجهيل..
ثم ساق - سبحانه - دليلا عقليا مستمدا من واقع هذا الكون فقال: { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا }.
أى: لو كان فى السماوات والأرض آلهة أخرى سوى الله - تعالى -، تدبر أمرهما، لفسدتا ولخرجتا عن نظامهما البديع، الذى لا خلل فيه ولا اضطراب.
وذلك لأن تعدد الآلهة يلزمه التنازع والتغالب بينهم.. فيختل النظام لهذا الكون، ويضطرب الأمر، ويعم الفساد فى هذا العالم.
ولما كان المشاهد غير ذلك إذ كل شىء فى هذا الكون يسير بنظام محكم دقيق دل الأمر على أن لهذا الكون كله، إلها واحداً قادرا حكيما لا شريك له.
قال صاحب الكشاف: "والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذى هو فاطرهما لفسدتا.
وفيه دلالة على أمرين: أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحداً.
الثانى: أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده، لقوله { إِلاَّ ٱللَّهُ }.
فإن قلت: لم وجب الأمران؟ قلت: لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف.
قال عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق: كان والله أعز على من دم ناظرى. ولكن لا يجتمع فحلان فى شَوْل - أى: فى عدد مع النياق -.
وقوله - تعالى -: { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } تنزيه لله - تعالى - عما قاله الجاهلون فى شأنه - عز وجل -.
أى: فتنزيها لله وتقديسا وتبرئة لذاته عن أن يكون له شريك فى ألوهيته، وجل عما وصفه به الجاهلون.
وقوله - تعالى : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } تأكيد لوحدانيته وقدرته - سبحانه - أى: لا يسأله سائل - سبحانه - عما يفعله بعباده من إعزاز وإذلال. وهداية وإضلال، وغنى وفقر، وصحة ومرض، وإسعاد وإشقاء.. لأنه هو الرب المالك المتصرف فى شئون خلقه، وهم يسألون يوم القيامة عن أعمالهم وأقوالهم لأنهم عبيده، وقد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، فمنهم من اتبع الرسل فسعد وفاز، ومنهم من استحب العمى قال الهدى فشقى وهلك.
وبعد أن ساق - سبحانه - دليلا عقليا على وحدانيته، أتبعه بدليل آخر نقلى، فقال - تعالى -: { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي.. }.
قال الآلوسى ما ملخصه: هذا إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة، لخلوها من خصائصها التى من جملتها الإِنشار، إلى تبكيتهم ومطالبتهم بالبرهان على دعواهم الباطلة، وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقية التوحيد، وبطلان الإِشراك...
أى: إن هؤلاء الكافرين قد أشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة، بسبب جهلهم وعنادهم وجحودهم للحق.. قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل التبكيت والتوبيخ { هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } على أن مع الله - تعالى - آلهة أخرى تستحق مشاركته فى العبادة والطاعة؟ ولا شك أنهم لا برهان لهم على ذلك.
وقوله - تعالى -: { هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي } زيادة فى تبكيتهم وفى إظهار عجزهم، أى: هذا الوحى الإلهى الناطق بتوحيد الله - تعالى - موجود فى القرآن الكريم المشتمل على ذكر المعاصرين لى من أتباعى، وموجود فى كتب الأنبياء السابقين، كالتوراة التى أنزلها الله على موسى، والإِنجيل الذى أنزله على عيسى، فمن أين أتيتم أنتم بهؤلاء الشركاء، وكيف اتخذتموهم آلهة مع أنهم لا برهان عليهم لا من جهة العقل ولا من جهة النقل؟
فاسم الإِشارة { هَـٰذَا } فى قوله: { هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ } مبتدأ، مشار به إلى الوحى الإِلهى، وقد أخبر عنه - سبحانه - بخبرين - كما يقول الشيخ الجمل -: "فبالنظر للخبر الأول يراد به القرآن، وبالنظر للخبر الثانى يراد به ما عداه من الكتب السماوية".
وقوله - تعالى -: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ } إضراب من جهته - تعالى - عن مناقشتهم ومطالبتهم بالبرهان، وانتقال من الأمر بتبكيتهم إلى الأمر بإهمالهم استصغارا لشأنهم.
أى: دعهم - أيها الرسول الكريم - فى باطلهم يعمهون فإنهم قوم أكثرهم يجهلون الحق، ولا يستطيعون التمييز بينه وبين الباطل. فهم لأجل ذلك منصرفون عن الهدى، ومتجهون إلى الضلال، ومن جهل شيئا عاداه.
ثم بين - سبحانه - أن جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - قد أمروا أقوامهم بإخلاص العبادة لله، ونبذ الشرك والشركاء، فقال - تعالى -: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ }.
أى: وما أرسلنا من قبلك من رسول يا محمد إلا وأفهمناه عن طريق وحينا أنه لا إله يستحق العبادة والطاعة إلا أنا، فعليه أن يأمر قومه بطاعتى وعبادتى والخضوع لى وحدى.
هذا، والمتدبر لهذه الآيات الكريمة، يراها قد أقامت أحكم الأدلة العقلية والنقلية على وجوب إخلاص العبادة لله الواحد القهار، وعلى أن الذين يتخذون معه آلهة أخرى سفهاء جاهلون.
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك شبهة من الشبهات الباطلة التى تفوه بها المشركون، ورد عليهم ردا مفحما، فقال - تعالى -: { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ... }.