خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ
١٩
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ
٢٠
وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
٢١
كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٢٢
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
٢٣
وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ
٢٤
-الحج

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ... } روايات أشار الإِمام ابن كثير إلى معظمها فقال: "ثبت فى الصحيحين عن أبى ذر: أنه كان يقسم قسماً أن هذه الآية { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ } نزلت فى حمزة وصاحبيه. وعتبة وصاحبيه، يوم برزوا فى بدر.
وعن قتادة قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: كتابنا يقضى على الكتب كلها، ونبينا خاتم الأنبياء، فنحن أولى بالله منكم، فأفلج الله الإِسلام على من ناوأه - أى فنصر الله الإِسلام -، وأنزل الآية.
وعن مجاهد فى الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما فى البعث.
وهذا القول يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الإِيمان.
أى: هذا خصمان اختصموا فى ذات ربهم وفى صفاته، بأن اعتقد كل فريق منهم أنه على الحق، وأن خصمه على الباطل.
قال الجمل: والخصم فى الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالبا، وعليه قوله - تعالى -:
{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } ويجوز أن يثنى ويؤنث، ولما كان كل خصم فريقا يجمع طوائف قال: { ٱخْتَصَمُواْ } بصيغة الجمع كقوله - تعالى -: { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } فالجمع مراعاة للمعنى.
وقوله - سبحانه -: { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ... } تفصيل وبيان لحال كل خصم وفريق.
أى: فالذين كفروا جزاؤهم أنهم قطع الله - تعالى - لهم من النار ثيابا، وألبسهم إياها.
قال الآلوسى: أى أعد الله لهم ذلك، وكأنه شبه إعداد النار الحيطة بهم بتقطيع ثياب وتفصيلها لهم على قدر جثثهم. ففى الكلام استعارة تمثيلية تهكمية، وليس هناك تقطيع ثياب ولا ثياب حقيقة. وكأن جميع الثياب للإِيذان بتراكم النار المحيطة بهم، وكون بعضها فوق بعض.. وعبر بالماضى، لأن الإِعداد قد وقع، فليس من التعبير بالماضى لتحققه...
وقوله: { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ } زيادة فى عذابهم، أى: لم تقطع لهم ثياب من نار فحسب، وإنما زيادة على ذلك يصب من فوق رءوسهم "الحميم" أى: الماء البالغ أقصى درجات الشدة فى الحرارة.
وقوله: { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ } بيان للآثار التى تترتب على هذا العذاب.
والفعل "يصهر" مأخوذ من الصهر بمعنى الإِذابة. يقال: صهر فلان الشحم يصهره إذا أذابه.
أى: فذلك الحميم الذى يصب من فوق رءوسهم من آثاره أنه يذاب به ما بطونهم من الشحوم والأحشاء. كما تذاب به جلودهم - أيضا - فقوله: { وَٱلْجُلُودُ } عطف على { مَا } الموصولة فى قوله { مَا فِي بُطُونِهِمْ } أى: يذاب به الذى فى بطونهم وتذاب به أيضا جلودهم.
وقيل: إن لفظ الجلود مرفوع بفعل محذوف معطوف على "يصهر".
والتقدير: يصهر به ما فى بطونهم من أحشاء وشحوم، وتحرق به الجلود. قالوا: وذلك لأن الجلود لا تذاب وإنما تنقبض وتنكمش إذا أصليت بالنار.
والضمير فى قوله - سبحانه -: { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } يعود إلى الكفرة المعذبين بهذا الحميم الذى تصهر به البطون.
والمقامع: جمع مقمعة - بكسر الميم وسكون القاف وفتح الميم الثانية -، وهى آلة تستعمل فى القمع عن الشىء، والزجر عنه، يقال: قمع فلان فلانا إذا قهره وأذله.
أى: وخصصت لهؤلاء الكافرين مضارب من حديد تضربهم بها الملائكة على رءوسهم زيادة فى إذلالهم وقهرهم.
وقيل: إن الضمير فى "لهم" يعود على خزنة النار. أى: ولخزنة النار مضارب من حديد يضربون بها هؤلاء الكافرين.
وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تصور هوان هؤلاء الكافرين أكمل تصوير.
وقوله - سبحانه -: { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا } بيان لما يقابلون به عندما يريدون التزحزح عن النار.
أى: كلما أراد هؤلاء الكافرون أن يخرجوا من النار ومن غمها وكربها وسعيرها: أعيدوا فيها مرة أخرى، كما قال - تعالى -:
{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } وقوله - تعالى -: { وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } مقول لقول محذوف أى: أعيدوا فيها وقيل لهم على لسان خزنة النار: ذوقوا العذاب المحرق لأبدانكم.
هذا هو حال فريق الكافرين. وهو حال يزلزل القلوب ويرهب المشاعر، ويفزع النفوس.
ولكن القرآن كعادته فى قرن الترهيب بالترغيب. لا يترك النفوس فى هذا الفزع، بل يتبع ذلك بما يمسح عنها خوفها ورعبها عن طريق بيان حسن حال المؤمنين فيقول: { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ... }.
وغير - سبحانه - الأسلوب فلم يقل: والذين آمنوا على سبيل العطف على الذين كفروا.. تعظيم لشأن المؤمنين، وإشعار بمباينة حالهم لحال خصمائهم الكافرين.
أى: إن الله - تعالى - بفضله وإحسانه يدخل عباده الذين آمنوا وعملوا فى دنياهم الأعمال الصالحات، جنات عاليات تجرى من تحت أشجارها وثمارها الأنهار.
وقوله { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } بيان لما ينالون فى تلك الجنات من خير وفير، وعطاء جزيل.
أى: يتزينون فى تلك الجنات بأساور كائنة من الذهب الخالص، ومن اللؤلؤ الثمين، أما لباسهم الدائم فيها فهو من الحرير الناعم الفاخر.
قال الآلوسى: وقوله - تعالى -: { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا، للإِيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غنى عن البيان.. ثم إن الظاهر أن هذا الحكم عام فى كل أهل الجنة، وقيل هو باعتبار الأغلب، لما أخرجه النسائى وابن حيان وغيرهما عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"من لبس الحرير فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة. وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه" .
قالوا: ومحله فيمن مات مصرا على ذلك.
وقوله - تعالى -: { وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ } بيان لحسن خاتمتهم، ولعظم النعم التى أنعم الله بها عليهم.
أى: وهدى الله - تعالى - هؤلاء المؤمنين إلى القول الطيب الذى يرضى الله - تعالى - عنهم، كأن يقولون عند دخولهم الجنة:
{ ... ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } وهداهم - أيضا - خالقهم إلى الصراط المحمود، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم بنعمة الإِيمان والإِسلام، فصاروا بسبب هذه النعمة يقولون الأقوال الطيبة، ويفعلون الأفعال الحميدة.
قال الشوكانى: قوله: { وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ... } أى: أرشدوا إليه. قيل: هو لا إله إلا الله. وقيل: القرآن. وقيل: هو ما يأتيهم من الله من بشارات. وقد ورد فى القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله - سبحانه -:
{ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ.. } ) ( { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا... } ) ( { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ.. } ومعنى: { وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ } أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة، أو صراط الله الذى هو دينه القويم وهو الإِسلام.
وبعد هذا الحديث المؤثر عن الخصمين وعن عاقبة كل منهما.. جاء الحديث عن المسجد الحرام، وعن مكانته، وعن الأمر ببنائه، وعن وجوب الحج إليه، وعن المنافع التى تعود على الحجاج، وعن سوء مصير من يصد الناس عن هذا المسجد، جاء قوله - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ... }.