خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ
٣٤
ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلَٰوةِ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ
٣٥
وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٣٦
لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٧
-الحج

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمنسك - بفتح السين وكسرها - مأخوذ من النسك بمعنى العبادة، فيجوز أن يراد به النسك نفسه، ويجوز أن يراد به مكانه أو زمانه.
ويبدو أن المراد به هنا عبادة خاصة وهى الذبح تقربا إلى الله - تعالى -.
قال الآلوسى: والمنسك موضع النسك إذا كان اسم مكان، أو النسك إذا كان مصدرا. وفسره مجاهد هنا بالذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه - تعالى - فجعله مصدرا، وحمل النسك على عبادة خاصة، وهو أحد استعمالاته وإن كان فى الأصل بمعنى العبادة مطلقا، وشاع فى أعمال الحج..
وجملة { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ... } معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك:
{ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } والمعنى: جعلنا لكم - أيها المؤمنون - منافع كثيرة فى هذه الأنعام إلى وقت معين، ثم تكون نهايتها وذبحها عند البيت الحرام، كما جعلنا وشرعنا لمن قبلكم من الأمم شعيرة الذبح ليتقربوا بها إلينا، وأرشدناهم إلى المكان الذى يذبحون فيه، وإلى أفضل الطرق التى تجعل، ذبائحهم مقبولة عندنا.
وفى هذه الجملة الكريمة { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً }، تحريك لنفوسهم نحو الإِقدام على إراقة الدم تقربا إلى الله، لأن هذه الذبائح ليست من شعائر هذه الأمة وحدها، وإنما هى من شعائرها ومن شعائر الأمم التى سبقتها.
وقوله - تعالى -: { لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } بيان للعلة التى من أجلها شرعت تلك الذبائح.
أى: شرعناها لكم وللأمم السابقة عليكم للإِكثار من ذكر الله عند ذبحها فهو - سبحانه - الذى رزقكم إياها بفضله وإحسانه، فعليكم أن تكثروا من ذكره وشكره، ليزيدكم من خيره ورزقه.
وفى هذه الجملة الكريمة تقريع وتوبيخ لمن يذكرون غير اسم الله - تعالى - عند الذبح، وتأكيد لوجوب ذكر اسمه - تعالى -، حتى لكأن المقصود الأعظم من ورائ ذبح هذه الأنعام، هو المداومة على ذكر اسم الله - عز وجل - و على شكره - سبحانه - على نعمه، أما ما سوى ذلك كالأكل منها، والانتفاع بها.. فهى مقاصد فرعية.
ثم عقب - سبحانه - على ذلك بتقرير وحدانيته، وبوجوب إسلام الوجه إليه، فقال: { فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ }.
أى: شرعنا لكم ذلك لأن إلهكم إله واحد لا شريك له لا فى ذاته ولا فى صفاته، فله وحده أسلموا وجوهكم، وأخلصوها لعبادته وطاعته.
فجملة { فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } بمثابة العلة لما قبلها من تخصيص اسمه الكريم بالذكر عند الذبح، لأن تفرده - سبحانه - بالألوهية يستلزم هذا التخصيص.
وقوله - تعالى -: { فَلَهُ أَسْلِمُواْ } مرتب على ما قبله، لأنه متى ثبت أن المستحق للعبادة والطاعة هو الله الواحد الأحد، فعليهم أن يسلموا وجوههم إليه.
ثم أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر المخبتين برضاه - سبحانه - وبمثوبته فقال: { وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ } أى: المتواضعين لله - تعالى - المطمئنين إلى عدالة قضائه فيهم، ولفظ { ٱلْمُخْبِتِينَ } من الإِخبات. وهو فى الأصل نزول الخَبْت - بفتح الخاء وسكون الباء.
أى: المكان المنخفض، ثم استعمل فى اللين والواضع. يقال: فلان مخبت، أى: متواضع خاشع لله رب العالمين.
وحذف - سبحانه - المبشر به لتهويله وتعظيمه ، أى: وبشر - أيها الرسول الكريم - هؤلاء المتواضيعن لله - تعالى - بالثواب العظيم، والأجر الكبير الذى لا تحيط بوصفه عبارة.
ثم مدحهم - سبحانه - بأربع صفات فقال: { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.. }.
أى: بشر هؤلاء المخبتين الذين من صفاتهم أنهم إذا سمعوا ذكر الله - تعالى - وصفاته، وحسابه لعباده يوم القيامة، خافت قلوبهم، وحذرت معصيته - تعالى -.
والذين من صفاتهم كذلك: الصبر على ما يصيبهم من مصائب ومحن فى هذه الحياة، والمداومة على أداء الصلاة فى مواقيتها بإخلاص وخشوع، والإِنفاق مما رزقهم الله - تعالى - على الفقراء والمحتاجين.
فإن قيل: كيف نجمع بين هذه الاية التى وصفت المؤمنين الصادقين بأنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم. وبين قوله - تعالى - فى آية أخرى:
{ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } فالجواب: أنه لا تنافى بين الآيتين، لأن من شأن المؤمن الصادق أنه إذا استحضر وعيد الله وحسابه لعباده يوم القيامة، امتلأ قلبه بالخشية والخوف والوجل.
فإذا ما استحضر بعد ذلك رحمته - سبحانه - وسعة عفوه، اطمأن قلبه وسكن روعه، وثبت يقينه، وانشرح صدره، استسلم لقضاء الله وقدره بدون تردد أو تشكك أو جزع.
فالوجل والاطمئنان أمران يجدهما المؤمن فى قلبه، فى وقتين مختلفين. وفى حالتين متمايزتين.
ويؤخذ من هاتين الآيتين: أن التواضع لله - تعالى -، والمراقبة له - سبحانه - والصبر على بلائه، والمحافظة على فرائضه.. كل ذلك يؤدى إلى رضاه - عز وجل -، وإلى السعادة الدنيوية والأخروية.
ثم أكد سبحانه - ما سبق الحديث عنه من وجوب ذكر اسمه - تعالى - عند الذبح، ومن وجوب شكره على نعمه فقال: { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ }.
والبدن: جمع بدنة. وهى الإِبل خاصة التى تهدى إلى البيت الحرام للتقرب بها إلى الله - تعالى - وقيل: البدن تطلق على الإِبل والبقر.
وسميت بهذا الإسم لبدانتها وضخامتها. يقال: بدن الرجل - بوزن كرم - إذا كثر لحمه، وضخم جسمه.
أى: وشرعنا لكم - أيها المؤمنون - التقرب إلينا بالإِبل البدينة السمينة وجعلنا ذلك شعيرة من شعائر ديننا، وعلامة من العلامات الدالة على قوة إيمان من ينفذ هذه الشعيرة بتواضع وإخلاص.
وقوله - تعالى - { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } جملة مستأنفة مقررة لما قبلها. أى: لكم فيه خير فى الدنيا عن طريق الانتفاع بألبانها ووبرها.. ولكم فيها خير فى الآخرة عن طريق الثواب الجزيل الذى تنالونه من خالقكم بسبب استجابتكم لما ارشدكم إليه.
وقوله - تعالى -: { فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ } إرشاد لما يقوله الذابح عند ذبحها.
وصواف: جمع صافة. أى: قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن استعدادا للذبح!.
أى: إذا ما هيأتم هذه الإِبل للذبح، فاذكروا اسم الله عليها، بأن تقولوا عند نحرها: بسم الله والله أكبر، الله منك وإليك.
وقوله - سحبانه -: { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ } بيان لما ينبغى عليهم فعله بعد ذبحها.
ووجبت بمعنى سقطت: وهو كناية عن موتها. يقال: وجب الجدار إذا سقط، ووجبت الشمس إذا غابت.
والقانع: هو الراضى بما قدره الله - تعالى - له، فلا يتعرض لسؤال الناس مأخوذ من قنع يقنع - كرضى يرضى - وزنا ومعنى.
والمعتر: هو الذى يسأل غيره ليعطيه. يقال: فلان يعترى الأغنياء، أى: يذهب إليهم طالبا عطاءهم.
وقيل: القانع هو الطامع الذى يسأل غيره، والمعتر: هو الذى يتعرض للعطاء من غير سؤال وطلب.
أى: فإذا ما سقطت جنوب هذه الإِبل على الأرض، وأعددتموها للأكل فكلوا منها، وأطعموا الفقير القانع الذى لا يسألكم، والفقير المعتر الذى يتعرض لكم بالسؤال والطلب.
ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله عليهم، حيث ذلل هذه الأنعام لهم فقال: { كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
وقوله { كَذٰلِكَ } نعت لمصدر محذوف. أى: مثل ذلك التسخير البديع سخرنا لكم هذه الأنعام، وذللناها لكم، وجعلناها منقادة لأمركم، لعلكم بعد أن شاهدتم هذه النعم، وانتفعتم بها، تكونون من الشاكرين لنا، والمستجيبين لتوجيهاتنا وإرشادنا.
قال صاحب الكشاف: منَّ الله على عباده واستحمد إليهم، بأن سخر لهم البدن مثل التسخير الذى رأوا وعلموا. يأخذونها منقادة للأخذ طيعة، فيعقلونها ويحبسونها صافة قوائمها، ثم يطعنون فى لبانها. ولولا تسخير الله لم تطعن، ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التى هى أصغر منها جرما، وأقل قوة، وكفى بما يتأبد من الإِبل شاهدا على ذلك.
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن شعائر الحج، بتوجيه عباده إلى وجوب الإِخلاص له، والاستجابة لأمره، وشكره على نعمه، فقال - تعالى -: { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ... }.
أى: لن يصل إلى الله - تعالى - لحم هذه الأنعام ودماؤها، من حيث هى لحوم ودماء، ولكن الذى يصل إليه - سبحانه - ويثيبكم عليه، هو تقواكم ومراقبتكم له - سبحانه - وخوفكم منه، واستقامتكم على أمره وإخلاصكم العبادة له.
قالوا: وفى هذا إشارة إلى قبح ما كان يفعله المشركون، من تقطيعهم للحوم الأنعام، ونشرها حول الكعبة، وتلطيخها بالدماء، وتحذير للمسلمين من أن يفعلوا فعل هؤلاء الجهلاء، إذ رضا الله - تعالى - لا ينال بذلك، وإنما ينال بتقوى القلوب.
ثم كرر - سبحانه - تكذيره إياهم بنعمه، ليكون أدعى إلى شكره وطاعته فقال: { كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ }.
أى: كهذا التسخير العجيب الذى ترونه سخرنا لكم هذه الأنعام لكى تكبروا الله وتعظموه وتقدسوه بسبب هدايته لكم إلى الإِيمان.
وبشر - أيها الرسول الكريم - المحسنين لأقوالهم وأفعالهم، بثوابنا الجزيل وبعطائنا الواسع.
وبذلك ترى أن سورة الحج قد سبحت بنا سبحا طويلا فى حديثها عن البيت الحرام، وعن آداب الحج ومناكسه وأحكامه، وعن الجزاء الحسن الذى أعده - تعالى - للمستجيبين لأمره.
وبعد هذا الحديث عن الشعائر والمناسك، أذن - سبحانه - للمؤمنين بالقتال فى سبيله، للدفاع عن دينه وشعائره، ووعدهم - عز وجل - بالنصر متى نصروه وحافظوا على فرائضه... فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱللَّه.... }.