خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٢٣
فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ
٢٤
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ
٢٥
قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
٢٦
فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٢٧
فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٢٨
وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ
٢٩
إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
٣٠
-المؤمنون

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

تلك هى قصة نوح - عليه السلام - مع قومه، كما وردت فى هذه السورة الكريمة، وقد وردت بصورة أكثر تفصيلاً فى سورتى هود ونوح.
وينتهى نسب نوح - عليه السلام - إلى شيث بن آدم - عليه السلام - وقد ذكر نوح فى القرآن فى ثلاثة وأربعين موضعاً.
قال الجمل فى حاشيته: وعاش نوح من العمر ألف سنة وخمسين، لأنه أرسل على رأس الأربعين ومكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعاش بعد الطوفان ستين سنة. وقدمت قصته هنا على غيره، لتتصل بقصة آدم المذكورة فى قوله:
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } للمناسبة بينهما من حيث إن نوحاً يعتبر آدم الثانى، لانحصار النوع الإنسانى بعده فى نسله.
وقوم الرجل: أقرباؤه الذين يجتمعون معه فى جد واحد. وقد يقيم الرجل بين قوم ليس منهم فى نسبه، فيسميهم قومه على سبيل المجاز، لمجاورته لهم.
وكان قوم نوح يعبدون الأصنام. فأرسل الله - تعالى - إليهم نوحاً لينهاهم عن ذلك، وليأمرهم بإخلاص العبادة لله - تعالى -.
واللام فى قوله - سبحانه -: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ.. } واقعة فى جواب قسم محذوف.
أى: والله لقد أرسلنا نبينا نوحاً - عليه السلام - إلى قومه، ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
وقوله - سبحانه - { فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ... } حكاية لما وجهه إليهم من نصائح وإرشادات.
أى: أرسلنا نوحاً إلى قومه، فقال لهم ما قاله كل نبى: يا قوم اعبدوا الله وحده، فإنكم ليس لكم إله سواه، فهو الذى خلقكم، وهو الذى رزقكم، وهو الذى يحييكم وهو الذى يميتكم، وكل معبود غيره - سبحانه - فهو باطل.
وفى ندائهم بقوله: { يٰقَوْمِ } تلطف فى الخطاب، ليستميلهم إلى دعوته، فكأنه يقول لهم: أنتم أهلى وعشيرتى يسرنى ما يسركم، ويؤذينى ما يؤذيكم، فاقبلوا دعوتى، لأنى لكم ناصح أمين.
وقوله: { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } تحذير لهم من الإصرار على شركهم، بعد ترغيبهم فى عبادة الله - تعالى - وحده بألطف أسلوب.
أى: أفلا تتقون الله - تعالى - وتخافون عقوبته، بسبب عبادتكم لغيره، مع أنه - سبحانه - هو الذى خلقكم فالاستفهام للإنكار والتوبيخ.
ثم حكى - سبحانه - ما رد به قوم نوح عليه فقال: { فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ... }.
والمراد بالملأ: أصحاب الجاه والغنى من قوم نوح. وهذا اللفظ اسم جمع لا واحد له من لفظه - كرهط - وهو مأخوذ من قولهم: فلان ملىء بكذا، إذا كان قادراً عليه. أو لأنهم متمالئون أى: متظاهرون متعاونون، أو لأنهم يملأون القلوب والعيون مهابة....
وفى وصفهم بالكفر: تشنيع عليهم وذم لهم، وإشعار بأنهم عريقون فيه. أى: فقال الأغنياء وأصحاب النفوذ الذين مردوا على الكفر، فى الرد على نبيهم نوح عليه السلام: { مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }.
أى: قالوا لأتباعهم على سبيل التحذير من الاستماع إلى دعوة نبيهم، ما هذا، أى: نوح عليه السلام - إلا بشر مثلكم، ومن جنسكم، ولا فرق بينكم وبينه فكيف يكون نبياًّ؟
ولم يقولوا: ما نوح إلا بشر مثلكم، بل أشاروا إليه بدون ذكر اسمه، لأنهم لجهلهم وغرورهم يقصدون تهوين شأنه - عليه الصلاة والسلام - فى أعين قومه.
وقولهم: { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أى: أن نوحاً جاء بما جاء به بقصد الرياسة عليكم.
ومرادهم بهذا القول: تنفير الناس منه، وحضهم على عداوته.
وقوله: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } استبعاد منهم لكون الرسول من البشر أى: ولو شاء الله أن يرسل رسولاً ليأمرنا بعبادته وحده. لأرسل ملائكة ليفعلوا ذلك، فهم - لانطماس بصائرهم وسوء تفكيرهم - يتوهمون أن الرسول لا يكون من البشر، وإنما يكون من الملائكة.
ومفعول المشيئة محذوف. أى: ولو شاء الله عبادته وحده لأرسل ملائكة ليأمرونا بذلك، فلما لم يفعل علمنا أنه ما أرسل رسولاً، فنوح - فى زعمهم - كاذب فى دعواه.
وقولهم: { مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } أى ما سمعنا بهذا الكلام الذى جاءنا به نوح فى آباءنا الأولين، الذين ندين باتباعهم، ونقتدى بهم فى عبادتهم لهذه الأصنام.
ثم هم لا يكتفون بهذا الجمود والتحجر، بل يصفون نبيهم بما هو برىء منه فيقولون: { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ }.
والجِنَّة: الجنون، يقال جُنًّ: فلان إذا أصيب بالجنون، أو إذا مسه الجن فصار فى حالة خبل وجنون.
والتربص: الانتظار والترقب، أى: ما نوح - عليه السلام - الذى يدعى النبوة، إلا رجل به حالة من الجنون والخبل، فانتظروا عليه إلى وقت شفائه من هذا الجنون أو إلى وقت موته، وعندئذ تستريحون منه، ومن دعوته التى ما سمعنا بها فى آبائنا الأولين.
فأنت ترى أن القوم قد واجهوا نبيهم نوحاً - عليه السلام - بأقبح مواجهة حيث وصفوه بأنه يريد من وراء دعوته لهم السيادة عليهم، وأنه ليس نبيًّا لأن الأنبياء لا يكونون من البشر - فى زعمهم - وأنه قد خالف ما ألفوه عن آبائهم، ومن خالف ما كان عليه آباؤهم لا يجوز الاستماع إليه، وأنه مصاب بالجنون وأنه عما قريب سيأخذه الموت، أو يشفى مما هو فيه.
وهكذا الجهل والغرور والجحود... عندما يستولى على الناس، يحول فى نظرهم الإصلاح إلى إفساد، والإخلاص إلى حب للرياسة، والشىء المعقول المقبول. إلى أن شىء غير معقول وغير مقبول، وكمال العقل ورجحانه، إلى جنونه ونقصانه.
وصدق الله إذ يقول:
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً... } ثم يحكى القرآن بعد ذلك أن نوحاً - عليه السلام - بعد أن استمع إلى ما قاله قومه فى شأنه من ضلالات وسفاهات، لجأ إلى ربه - عز وجل - يشكو إليه ما أصابه منهم ويلتمس منه النصر عليهم. فقال: كما حكى القرآن عنه: { رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ }.
أى: قال نوح فى مناجاته لربه: يا رب أنصرنى على هؤلاء القوم الكافرين بسبب تكذيبهم لى وتطاولهم على. وسخريتهم منى، وإصرارهم على عبادة غيرك.
وقد أجاب الله - تعالى - دعاء عبده نوح فقال: { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } أى: فأوحينا إليه فى أعقاب دعائه وتضرعه.
{ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أى: أوحينا إليه أن ابتدىء يا نوح فى صنع السفينة وأنت تحت رعايتنا وحفظنا، وسنرسل إليك وحينا ليرشدك إلى ما أنت فى حاجة إليه من إتقان صنع السفينة، ومن غير ذلك من شئون.
وفى التعبير بقوله - سبحانه - { أَنِ ٱصْنَعِ } إشارة إلى أن نوحاً - عليه السلام - قد باشر بنفسه صنع السفينة التى هى وسيلة النجاة له وللؤمنين معه.
وقى قوله - تعالى -: { بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } إشارة إلى أن نوحاً بجانب مباشرته للصنع بنفسه، كان مزوداً من الله - تعالى - بالعناية والرعاية وبحسن التوجيه والإرشاد عن طريق الوحى الأمين.
وذلك لأن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن لا يضيع عمل عباده المخلصين، الذين يبذلون أقصى جهدهم فى الوصول إلى غاياتهم الشريفة.
والباء فى قوله { بِأَعْيُنِنَا } للملابسة، والجار والمجرور فى موضع الحال من ضمير "اصنع".
والفاء فى قوله - سبحانه - { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع السفينة.
والمراد بالأمر هنا: العذاب الذى أعده الله - تعالى - لهؤلاء الظالمين من قوم نوح - عليه السلام -. ويشهد لذلك قوله - سبحانه - فى آية أخرى:
{ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ } أى: من عذابه { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } والمراد بمجىء هذا الأمر: اقتراب وقته، ودنو ساعته، وظهور علاماته وقوله - تعالى: { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } بيان وتفسير لمجىء هذا الأمر، وحلول وقت إهلاكهم.
وقوله: { فَارَ } من الفوران: بمعنى شدة الغليان للماء وغيره. يقال للماء فار إذا اشتد غليانه. ويقال للنار فارت إذا عظم هيجانها. ومنه قوله - تعالى -
{ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ } وللمفسرين فى المراد بلفظ { ٱلتَّنُّورُ } أقوال منها: أن المراد به الشىء الذى يخبز فيه الخبز، وهو ما يسمى بالموقد أو الفرن.
ومنها أن المراد به وجه الأرض. أو موضع اجتماع الماء فى السفينة، أو طلوع الفجر... وقد رجح الإمام ابن جرير القول الأول فقال: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: وهو التنور الذى يخبز فيه، لأن هذا هو المعروف من كلام العرب...
ويبدو أن فوران التنور كان علامة لنوح على أن موعد إهلاك الكافرين من قومه قد اقترب.
أى: فإذا اقترب موعد إهلاك قومك الظالمين يا نوح، ومن علامة ذلك أن ينبع الماء من التنور ويفوز فوراناً شديداً { فَٱسْلُكْ فِيهَا } فأدخل فى السفينة { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } ولفظ { زَوْجَيْنِ } تثنية زوج. والمراد به هنا: الذكر والأنثى من كل نوع.
وقراءة الجمهور: { مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } بدون تنوين للفظ كل، وبإضافته إلى زوجين..
وقرأ حفص { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } بتنوين كل، وهو تنوين عوض عن مضاف إليه. والتقدير: فأدخل فى السفينة من كل نوع من أنواع المخلوقات التى أنت فى حاجة إليها ذكراً وأنثى، ويكون لفظ { زَوْجَيْنِ } مفعولاً لقوله { فَٱسْلُكْ } ولفظ اثنين: صفة له.
والمراد بأهله فى قوله - تعالى - { وَأَهْلَكَ }: أهل بيته كزوجته وأولاده المؤمنين، ويدخل فيهم كل من آمن به - عليه السلام - سواء أكان من ذوى قرابته أم من غيرهم، بدليل قوله - تعالى - فى سورة هود:
{ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } وجملة: { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ } استثناء من الأهل. والمراد بمن سبق عليه القول منهم: من بقى على كفره ولم يؤمن برسالة نوح - عليه السلام - كزوجته وابنه كنعان.
أى: أدخل فى السفينة ذكراً وأنثى من أنواع المخلوقات، وأدخل فيها - أيضاً - المؤمنين من أهلك ومن غيرهم، إلا الذين سبق منا القول بهلاكهم بسبب إصرارهم على الكفر. فلا تدخلهم فى السفينة، بل اتركهم خارجها ليغرقوا مع المغرقين.
قال الآلوسى: وجىء بعلى فى قوله: { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ } لكون السابق ضارا، كما جىء باللام فى قوله:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } لكون السابق نافعاً.
وقوله - تعالى -: { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } نهى منه - سبحانه - لنوح - عليه السلام - عن الشفاعة لهؤلاء الكافرين، أو عن طلب تأخير العذاب المهلك لهم.
أى: اترك يا نوح هؤلاء الظالمين، ولا تكلمنى فى شأنهم، كأن تطلب الشفاعة لهم أو تأخير العذاب عنهم، فإنهم مقضى عليهم بالإغراق لا محالة. ولا مبدل لحكمى أو إرادتى.
ويبدو - والله أعلم - أن هذه الجملة الكريمة، كانت نهيا من الله - تعالى - لنوح عن الشفاعة فى ابنه الذى غرق مع المغرقين، والذى حكى القرآن فى سورة هود أن نوحاً قد قال فى شأنه:
{ رَبِّ إِنَّ ٱبُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } ثم أرشد الله - تعالى - نبيه نوحاً إلى ما يقوله بعد أن يستقر فى السفينة فقال - سبحانه -: { فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ } من أهلك وأتباعك المؤمنين { عَلَى ٱلْفُلْكِ }.
أى: السفينة التى علمناك عن طريق وحينا كيفية صنعها بإحكام وإتقان { فَقُلِ } يا نوح على سبيل الشكر لنا، والتقدير لذاتنا { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا } بفضله وكرمه { مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } الذين استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الضلالة على الهداية، وتطاولوا على نبيهم الذى جاء لسعادتهم.
{ وَقُل } - أيضاً - يا نوح { رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } أى: أنزلنى إنزالاً، أو مكان إنزال مباركاً - أى مليئاً بالخيرات والبركات، خالياً مما حل بالظالمين من إغراق وإهلاك. { وَأَنتَ } يا إلهى { خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ } بفضلك وكرمك فى المكان الطيب المبارك.
ثم عقب - سبحانه - على ما اشتملت عليه قصة نوح من حكم وآداب بقوله: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ }.
أى: إن فى ذلك الذى ذكرناه لك - أيها الرسول الكريم - عن نوح وقومه { لآيَاتٍ } بينات، ودلالات واضحات، على أن هذا القرآن من عندنا لا من عند غيرنا، وعلى أن العاقبة للمؤمنين، وسوء المنقلب للكافرين.
و"إن" فى قوله { وَإِن كُنَّا } هى المخففة من الثقيلة، واللام فى قوله { لَمُبْتَلِينَ } هى الفارقة بينها وبين إن النافية، والجملة حالية، والابتلاء: الاختبار والامتحان...
أى: إن فى ذلك الذى ذكرناه عن نوح وقومه لآيات واضحات على وحدانيتنا وقدرتنا، والحال والشأن أن من سنتنا أن نبتلى الناس بالنعم وبالنقم، وبالخير والشر. ليتبين من يعتبر ويتعظ، وليتميز الخبيث من الطيب، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حى عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
ثم تمضى السورة فى حديثها عن قصص الأولين، فتحكى لنا قصة أقوام آخرين مع نبى من أنبيائهم فتقول: { ثُمَّ أَنشَأْنَا... }.