خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ
٢
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ
٣
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ
٤
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
٥
إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
٦
فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ
٧
وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩
أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ
١٠
ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١١
-المؤمنون

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أخرج الإمام أحمد والترمذى والنسائى عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، نسمع عند وجهه كدوى النحل، فأنزل عليه يوماً، فمكثنا ساعة فسرى عنه، فاستقبل القبلة، فرفع يديه فقال: "اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا.
ثم قال: لقد أنزلت على عشر آيات، من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ: { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } إلى قوله: { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }"
.
وأخرج النسائى عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة: يا أم المؤمنين، كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان خلقه القرآن، ثم قرأت: { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } حتى انتهت إلى قوله - تعالى -: { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } وقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والفلاح: الظفر بالمراد، وإدراك المأمول من الخير والبر مع البقاء فيه.
والخشوع: السكون والطمأنينة، ومعناه شرعاً: خشية فى القلب من الله - تعالى - تظهر آثارها على الجوارح فتجعلها ساكنة مستشعرة أنها واقفة بين يدى الله - سبحانه -.
والمعنى: قد فاز وظفر بالمطلوب، أولئك المؤمنون الصادقون، الذين من صفاتهم أنهم فى صلاتهم خاشعون، بحيث لا يشغلهم شىء وهم فى الصلاة عن مناجاة ربهم، وعن أدائها بأسمى درجات التذلل والطاعة.
ومن مظاهر الخشوع: أن ينظر المصلى وهو قائم إلى موضع سجوده، وأن يتحلى بالسكون والطمأنينة، وأن يترك كل ما يخل بخشوعها كالعبث بالثياب أو بشىء من جسده، فقد أبصر النبى صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته فى الصلاة فقال:
"لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" .
قال القرطبى: "اختلف الناس فى الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو مكملاتها على قولين، والصحيح الأول ومحله القلب، وهو أول عمل يرفع من الناس...".
وقوله - سبحانه -: { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ } بيان لصفة ثانية من صفات هؤلاء المؤمنين.
واللغو: ما لا فائدة فيه من الأقوال والأعمال. فيدخل فيه اللهو والهزل وكل ما يخل بالمروءة وبآداب الإسلام.
أى: أن صفات هؤلاء المؤمنين أنهم ينزهون أنفسهم عن الباطل والساقط من القول أو الفعل، ويعرضون عن ذلك فى كل أوقاتهم لأنهم لحسن صلتهم بالله - تعالى - اشتغلوا بعظائم الأمور وجليلها: لا بحقيرها وسفسافها، وهم كما وصفهم الله - سبحانه - فى آية أخرى:
{ وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } ) ( { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } أما الصفة الثالثة من صفاتهم فقد بينها - سبحانه - بقوله: { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ }.
ويرى أكثر العلماء: أن المراد بالزكاة هنا: زكاة الأموال. قالوا: لأن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة، وما فرض بعد ذلك فى السنة الثانية من الهجرة هو مقاديرها، ومصارفها، وتفاصيل أحكامها أى: أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يخرجون زكاة أموالهم عن طيب نفس.
ويرى بعض العلماء: أن المراد بالزكاة هنا: زكاة النفس. أى: تطهيرها من الآثام والمعاصى. فهى كقوله - تعالى -
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } أى: أن من صفات هؤلاء المؤمنين، أنهم يفعلون ما يطهر نفوسهم ويزكيها.
قال ابن كثيررحمه الله : ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال، فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذى يتعاطى هذا وهذا".
ثم بين - سبحانه - الصفة الرابعة من صفاتهم فقال: { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ }.
أى: أن من صفات هؤلاء المؤمنين - أيضاً - أنهم أعفاء ممسكون لشهواتهم لا يستعملونها إلا مع زوجاتهم التى أحلها الله - تعالى - لهم، أو مع ما ملكت أيمانهم من الإماء والسرارى، وذلك لأن من شأن الأمة المؤمنة إيماناً حقاً، أن تصان فيها الأعراض، وأن يحافظ فيها على الأنساب، وأن توضع فيها الشهوات فى مواضعها التى شرعها الله - تعالى - وأن يغض فيها الرجال أبصارهم والنساء أبصارهن عن كل ما هو قبيح.
وما وجدت أمة انتشرت فيها الفاحشة، كالزنا واللواط وما يشبههما، إلا وكان أمرها فرطاً، وعاقبتها خسرا، إذ فاحشة الزنا تؤدى إلى ضياع الأنساب، وانتشار الأمراض، وفساد النفوس من كل قيمة خلقية مقبولة.
وفاحشة اللواط وما يشبهها تؤدى إلى شيوع الفاحشة فى الأمة، وإلى تحول من يأتى تلك الفاحشة من أفرادها إلى مخلوقات منكوسة، تؤثر الرذيلة على الفضيلة.
وجملة: { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } تعليل للاستثناء.
أى: هم حافظون لفروجهم، فلا يستعملون شهواتهم إلا مع أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فإنهم غير مؤاخذين على ذلك، لأن معاشرة الأزواج أو ما ملكت الأيمان، مما أحله الله تعالى.
وقوله { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ } أى: فمن طلب خلاف ذلك الذى أحله الله - تعالى - { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } أى: المعتدون المتجاوزون حدوده - سبحانه -، الوالغون فى الحرام الذى نهى الله - تعالى - عنه. يقال: عدا فلان الشىء يعدوه عدوا، إذا جاوزه وتركه.
أما الصفة الخامسة من صفات هؤلاء المفلحين، فقد عبر عنها - سبحانه - بقوله: { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }.
والأمانات: جمع أمانة، وتشمل كل ما استودعك الله - تعالى - إياه، وأمرك بحفظه.
فتشمل جميع التكاليف التى كلفنا الله بأدائها كما تشمل الأموال المودعة، والأيمان والنذور والعقود وما يشبه ذلك.
والعهود: جمع عهد. ويتناول كل ما طلب منك الوفاء به من حقوق الله - تعالى - وحقوق الناس.
قال القرطبى: والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه، قولاً وفعلاً، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك. وغاية ذلك حفظه والقيام به. والأمانة أعم من العهد وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد".
وراعون: من الرعى بمعنى الحفظ يقال: رعى الأمير رعيته رعاية، إذا حفظها واهتم بشئونها.
أى: أن من صفات هؤلاء المفلحين. أنهم يقومون بحفظ ما ائتمنوا عليه من أمانات، ويوفون بعهودهم مع الله - تعالى - ومع الناس، ويؤدون ما كلفوا بأدائه بدون تقصير أو تقاعس.
وذلك لأنه لا تستقيم حياة أمة من الأمم. إلا إذا أديت فيها الأمانات، وحفظت فيها العهود، واطمأن فيها كل صاحب حق إلى وصول هذا الحق إليه.
أما الصفة السادسة والأخيرة من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين، فهى قوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }.
أى: أن من صفاتهم أنهم يحافظون على الصلوات التى أمرهم الله بأدائها محافظة تامة، بأن يؤدوها فى أوقاتها كاملة الأركان والسسن والآداب والخشوع، ولقد بدأ - سبحانه - صفات المؤمنين المفلحين بالخشوع فى الصلاة وختمها بالمحافظة عليها للدلالة على عظم مكانتها، وسمو منزلتها.
وبعد أن بين - سبحانه - تلك الصفات الكريمة التى تحلى بها أولئك المؤمنون المفلحون، وهى صفات تمثل الكمال الإنسانى فى أنقى صوره.
بعد ذلك بين - سبحانه - ما أعد لهم من حسن الثواب فقال: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
والفردوس: أعلى الجنات وأفضلها وهو لفظ عربى يجمع فى فراديس.
وقيل: هو لفظ معرب معناه: الذى يجمع ما فى البساتين من ثمرات.
وفى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة".
أى: أولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة، هم الجديرون بالفلاح فإنهم يرثون أعلى الجنات وأفضلها، وهم فيها خالدون خلوداً أبديًّا لا يمسهم فيها نصب، ولا يمسهم فيها لغوب.
وعبر - سبحانه - عن حلولهم فى الجنة بقوله { يَرِثُونَ } للإشعار بأن هذا النعيم الذى نزلوا به، قد استحقوه بسبب أعمالهم الصالحة، كما يملك الوارث ما ورثه عن غيره، ومن المعروف أن ما يملكه الإنسان عن طريق الميراث يعتبر أقوى أسباب الملك.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وقوله - سبحانه -: { وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وحذف مفعول اسم الفاعل الذى هو { ٱلْوَارِثُونَ } لدلالة قوله: { ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ } عليه.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت المؤمنين الصادقين مدحاً عظيماً ووعدتهم بالفوز بأعلى الجنات وأفضلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وبعد الحديث عن صفات المؤمنين المفلحين، انتقلت السورة إلى الحديث عن أطوار خلق الإنسان، وأطوار نموه، ونهاية حياته، وبعثه للحساب يوم القيامة، - فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا... }.