خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ
٦٨
أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
٦٩
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
٧٠
وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ
٧١
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٧٢
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٧٣
وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
٧٤
-المؤمنون

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الجمل: قوله - تعالى -: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ... } شروع فى بيان أسباب حاملة لهم على ما سبق من قوله - تعالى -: { فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُون... } إلخ.
والهمزة لإنكار ما هم فيه من عدم التدبر واستقباحه، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام: والمراد بالقول: القرآن الكريم وما اشتمل عليه من هدايات.
والمعنى: أفعلوا ما فعلوا من النكوص على الأعقاب، ومن الغرور ومن الهذيان بالباطل من القول، فلم يتدبروا هذا القرآن، ولم يتفكروا فيما اشتمل عليه من توجيهات حكيمة...
إنهم لو تدبروه لوجدوا فيه من العظات والآداب والأحكام، والقصص، والعقائد، والتشريعات.... ما يسعدهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
فالجملة الكريمة تحضهم على تدبر هذا القرآن، لأنهم إن تدبروه تدبرا صادقاً. لعلموا أنه الحق الذى لا يحوم حوله باطل.
وشبيه بهذه الجملة قوله - تعالى -:
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } وقوله - سبحانه -: { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } وبعد أن وبخهم - سبحانه - على تركهم الانتفاع بالقرآن. أتبع ذلك بتقريعهم على أن ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم يتفق فى أصوله مع ما جاء به الرسل السابقون لآبائهم الأولين.
أى: أكذبوا رسولهم لأنه جاءهم بما لم يأت به الرسل لآبائهم؟ كلا، فإن ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم يطابق - فى جوهره - ما جاء به إبراهيم وإسماعيل وغيرهما، من آبائهم الأولين.
قال - تعالى -
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ.. } وقال - سبحانه -: { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ... } ويجوز أن يكون المعنى: أكذب هؤلاء الجاهلون رسولهم صلى الله عليه وسلم لأنهم فى أمان من العذاب، وهذا الأمان لم يكن فيه آباؤهم الأولون؟
كلا، وإن من شأن العقلاء أنهم لا يأمنون مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
قال الآلوسى: وأم فى قوله - تعالى - { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ } منقطعة، وما فيها من معنى بل، للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر. والهمزة فإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع. أى: بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين، حتى استبعدوه فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال، بمعنى أن مجىء الكتب من جهته - تعالى - إلى الرسل قديمة له - تعالى - وأن مجىء القرآن جار على هذه السنة فلماذا ينكرونه؟
وقيل المعنى: أفلم يدبروا القرآن ليخافوا عند تدبر آياته، ما نزل بمن قبلهم من المكذبين، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم الأولين، حين خافوا الله - تعالى - فآمنوا به وبكتبه ورسله، فالمراد بآبائهم: "المؤمنون" منهم كإسماعيل - عليه السلام -....
ثم انتقلت السورة إلى توبيخهم - ثالثاً - على كفرهم مع علمهم بصدق الرسول وأمانته، فقال - تعالى - { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ }.
أى: أيكون سبب كفرهم أنهم لم يعرفوا رسولهم محمداً صلى الله عليه وسلم؟ كلا فإن هذا لا يصلح سبباً، إذ هم يعرفون حسبه ونسبه، وأمانته، وصدقه، وكانوا يلقبونه بالصادق الأمين قبل بعثته، وأبو سفيان - قبل أن يدخل فى الإسلام - شهد أمام هرقل ملك الروم، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معروفا بصدقه وأمانته قبل البعثة.
ثم انتقلت السورة - للمرة الرابعة - إلى توبيخهم على أمر آخر، فقال - تعالى -: { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ... }.
أى: أيكون سبب إصرارهم على كفرهم اتهامهم للرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون؟ كلا، فإنهم يعلمون حق العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أكمل الناس عقلا، وأرجحهم فكرا، وأثقبهم رأيا، وأوفرهم رزانة.
وقوله - تعالى - { بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } إضراب عما يدل عليه ما سبق من اتهامات باطلة دارت على ألسنة المشركين.
أى: ليس الأمر كما زعموا من أنه صلى الله عليه وسلم به جنة أو أنه أتاهم بما لم يأت آباءهم الأولين، بل الأمر الصدق، أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بالحق الثابت الذى لا يحوم حوله باطل ولكن هؤلاء القوم أكثرهم كارهون للحق، لأنه يتعارض مع أنانيتهم وشهواتهم، وأهوائهم.
وقال - سبحانه -: { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } لأن قلة من هؤلاء المشركين كانت تعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بالحق، وتحب أن تدخل فى الإسلام، ولكن حال بينهم وبين ذلك، الخوف من تعيير أقوامهم لهم بأنهم فارقوا دين آبائهم وأجدادهم، كأبى طالب - مثلا - فإنه مع دفاعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقى على كفره.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: قوله { وَأَكْثَرُهُمْ } فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق؟ قلت: كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه، وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبى طالب.
فإن قلت: يزعم بعض الناس أن أبا طالب صح إسلامه؟ قلت: يا سبحان الله. كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس - رضى الله عنهما - ويخفى إسلام أبى طالب".
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما كان سينزل بالعالم من فساد. فيما لو اتبع الحق - على سبيل الفرض - أهواء هؤلاء المشركين، فقال - تعالى -: { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ... }.
والمراد بالحق هنا - عند كثير من المفسرين - هو الله - عز وجل - إذ أن هذا اللفظ من أسمائه - تعالى -.
والمعنى: ولو أجاب الله - تعالى - هؤلاء المشركين إلى ما يهوونه ويشتهونه من باطل وقبيح. لفسدت السموات والأرض ومن فيهن؛ لأن أهواءهم الفاسدة من شرك. وظلم، وحقد، وعناد...، لا يمكن أن يقوم عليها نظام هذا الكون البديع، الذى أقمناه على الحق والعدل.
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالحق هنا ما يقابل الباطل ويدل على ذلك قوله - تعالى -: { بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }.
فيكون المعنى: ولو اتبع الحق الذى جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم أهواء المشركين، لفسدت السموات والأرض ومن فيهن، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بالتوحيد وهم يريدون الشرك، وجاءهم بمكارم الأخلاق، وهم يريدون ما ألفوه من شهوات، وجاءهم بالتشريعات العادلة الحكيمة، وهم يريدون التشريعات التى ترضى غرورهم وأوضاعهم الفاسدة، والتى منها تفضيل الناس بحسب أحسابهم وغناهم، لا بحسب إيمانهم وتقواهم...
ومع وجاهة الرأيين، إلا أننا نميل إلى الرأى الثانى، لأنه أقرب إلى سياق الآيات، كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى -: { بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }.
وقوله سبحانه: { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } انتقال من توبيخهم على كراهيتهم للحق، إلى توبيخهم على نفورهم مما فيه عزهم وفخرهم.
والمراد بذكرهم: القرآن الذى هو شرف لهم، كما قال - تعالى -:
{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أى: كيف يكرهون الحق الذى جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم مع أنه قد أتاهم بالقرآن الكريم الذى فيه شرفهم ومجدهم؟ إن إعراضهم عن هذا القرآن ليدل دلالة قاطعة، على غبائهم، وجهلهم، لأن العاقل لا يعرض عن شىء يرفع منزلته، ويكرم ذاته.
ثم انتقلت السورة الكريمة - للمرة الخامسة - إلى توبيخهم على كفرهم، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسألهم أجراً على ما ينقذهم من ظلمات هذا الكفر إلى نور الإيمان. فقال - تعالى - { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً... } أى: أجراً وجعلا وجزاء...
أى: أيكون السبب فى عدم إيمانهم بك - أيها الرسول الكريم - أنك تسألهم أجرا على دعوتك لهم إلى إخلاص العبادة لنا؟
لا: ليس الأمر كما يتوهمون، فإنك لم تسألهم أجراً على دعوتك إياهم إلى الدخول فى الإسلام.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ... } وما بينهما اعتراض وقوله - سبحانه -: { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } تعليل لنفى سؤالهم إياهم الأجر على دعوتهم إلى الحق.
أى: أنت - أيها الرسول الكريم - ما طالبتهم بأجر على دعوتك إياهم إلى الإيمان بالله - تعالى - وحده، لأن ما أعطاك الله - تعالى - من خير وفضل أكبر وأعظم من عطاء هؤلاء الضعفاء الذين لا يستغنون أبداً عن عطائنا. والله - تعالى - هو خير الرازقين، لأن رزقه دائم ورزق غيره مقطوع، ولأنه هو المالك لجميع الأرزاق، وغيره لا يملك معه شيئاً.
قال بعض العلماء: المراد بالخرج والخراج هنا: الأجر والجزاء والمعنى: أنك لا تسألهم على ما بلغتهم من الرسالة المتضمنة لخيرى الدنيا والآخرة أجرا وأصل الخرج والخراج: هو ما تخرجه إلى كل عامل فى مقابلة أجرة أو جعل.
وقرأ ابن عامر: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرْجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } - بإسكان الراء فيهما معاً وحذف الألف-.
وقرأ حمزة والكسائى: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرَاجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } بفتح الراء بعدها ألف فيهما معاً -.
وقرأ الباقون: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } بإسكان الراء وحذف الألف فى الأول وفتح الراء وإثبات الألف فى الثانى.
والتحقيق: أن معنى اللفظين واحد، وأنهما لغتان فصيحتان، وقراءتان سبعيتان، خلافاً لمن زعم أن بين معناهما فرقاً زاعماً أن الخرج ما تبرعت به، وأن الخراج ما لزمك أداؤه".
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة، ببيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعو إلا إلى الحق، وأن المعرضين عن دعوته عن طريق الحق خارجون، فقال - تعالى - { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.. }.
أى: وإنك - أيها الرسول الكريم - لتدعو هؤلاء المشركين إلى طريق واضح قويم، تشهد العقول باستقامته وسلامته من أى عوج.
{ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } ككفار قريش ومن لف لفهم { عَنِ ٱلصِّرَاطِ } المستقيم { لَنَاكِبُونَ } أى: لمائلون وخارجون.
يقال: نكب فلان عن الطريق ينكب نكوباً - من باب دخل - إذا عدل عنه. ومال إلى غيره.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة، قد شهدت للرسول صلى الله عليه وسلم بالبراءة من كل تهمة تفوه بها المشركون، وقطعت معاذيرهم، وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم، حيث حكت شبهاتهم بأمانة ثم كرت عليها بالإبطال، وأثبتت أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاءهم ليدعوهم إلى الصراط المستقيم.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك، أن هؤلاء المشركين، قد قست قلوبهم، وفسدت نفوسهم، وماتت ضمائرهم، وصاروا لا يؤثر فيهم الابتلاء بالخير أو الشر، فقال - تعالى -: { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا... }.