خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٤٦
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٧
وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ
٤٨
وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ
٤٩
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٥٠
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٥١
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُون
٥٢
وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
٥٣
قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٥٤
-النور

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - سبحانه -: { مُّبَيِّنَاتٍ } قرأها بعض القراء السبعة، بفتح الياء المشددة - بصيغة اسم المفعول - فيكون المعنى: بالله لقد أنزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم آيات بيناها ووضحناها، وجعلناها خالية من اللبس والغموض.
وقرأها الباقون بكسر الياء المشددة - بصيغة اسم الفاعل - فيكون المعنى: لقد أنزلنا آيات مبينات للأحكام والحدود والآداب التى شرعها الله - تعالى - فعلى هذه القراءة يكون المفعول محذوفا.
وقوله - تعالى -: { وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أى: والله - تعالى - بفضله وإحسانه يهدى من يشاء هدايته إلى الصراط المستقيم، الذى هو طريق الإسلام. وسبيل الحق والرشاد.
والضمير فى قوله - تعالى -: { وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا } يعود على طائفة من الذين لم يهدهم - سبحانه - إلى الصراط المستقيم، وهم المنافقون.
أى: أن هؤلاء المنافقين يقولون بألسنتهم فقط: آمنا بالله وبالرسول، وأطعنا الله والرسول فى كل أمر أو نهى.
ثم بين - سبحانه - أنهم كاذبون فى دعواهم الإِيمان والطاعة فقال: { ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ }.
أى: يدعون أنهم يؤمنون بالله وبالرسول، ويطيعون أحكامهما، وحالهم أن عددا كبيرا منهم يعرضون عما يقتضيه الإِيمان والطاعة، من أدب مع الله - تعالى - ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن انقياد لأحكام الإِسلام.
وقوله - سبحانه -: { وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } نفى لدعواهم الإِيمان، وتوبيخ لهم على أقوالهم التى يكذبها واقعهم، أى: وما أولئك المنافقون الذى يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، بالمؤمنين على الحقيقة، لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم، ولأنهم لو كانوا يؤمنون حقا. لما أعرضوا عن أحكام الله - تعالى -، وعن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم ين - سبحانه - حالة أخرى من أحوالهم الذميمة فقال: { وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ }.
أى: أن هؤلاء المنافقين من صفاتهم - أيضا - أنهم إذا ما دعاهم داع إلى أن يجعلوا شريعة الله - تعالى - هى الحكم بينهم وبين خصومهم، إذا فريق كبير منهم يعرض عن هذا الداعى، ويسرع إلى التحاكم إلى الطاغوت. كما فى قوله - تعالى -:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } والتعبير عنهم بقوله { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } إشعار بأنهم بمجرد دعوتهم إلى الحق، ينفرون من الداعى نفورا شديدا بدون تدبر أو تمهل، لأنهم يعلمون علم اليقين أن الحق عليهم لا لهم، أما إن لاح لهم أن الحق لهم لا عليهم، فإنهم يهرولون نحو الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبون حكمه، ولذا قال - تعالى - { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ }.
والإِذعان: الانقياد والطاعة، يقال: أذعن فلان لفلان، إذا انقاد له وخضع لأمره.
أى: وإن يكن لهؤلاء المنافقين الحق على غيرهم، يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم منقادين طائعين راضين بحكمه، لأنهم واثقون من أنه صلى الله عليه وسلم لن يبخسهم شيئا من حقوقهم لا يأتون إليه مذعنين فى كل الأحوال، وإنما يأتون إليه صلى الله عليه وسلم مذعنين لحكمه عندما يكونون أصحاب حق فى قضية من القضايا الدنيوية التى تحصل بينهم وبين غيرهم.
ثم يعقب القرآن الكريم على تصرفاتهم القبيحة بإثبات نفاقهم، وبالتعجيب من ترددهم وريبهم، وباستنكار ما هم عليه من خلق ذميم فيقول: { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ... }؟!
وقوله: { يَحِيفَ } من الحيف، وهو الميل إلى أحد الجانبين، يقال: حاف فلان فى قضائه، إذا جار وظلم.
أى: ما بال هؤلاء المنافقين يعرضون عن أحكام الإسلام ولا يقبلون على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا كانت لهم حقوق عند غيرهم أسبب ذلك أنهم مرضى القلوب بالنفاق وضعف الإيمان؟ أم سبب ذلك أنهم يشكون فى صدق نبوته صلى الله عليه وسلم؟ أم سببه أنهم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟
لا شك أن هذه الأسباب كلها قد امتلأت بها قلوبهم الفاسدة، وفضلا عن ذلك فهناك سبب أشد وأعظم، وهو حرصهم على الظلم ووضع الأمور فى غير مواضعها، ولذا ختم - سبحانه - الآية الكريمة - بقوله: { بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }.
أى: بل أولئك المنافقون هم الظالمون لأنفسهم ولغيرهم، حيث وضعوا الأمور فى غير موضعها، وآثروا الغى على الرشد، والكفر على الإِيمان.
قال الجمل: وقوله: { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ... } إلخ استنكار واستقباح لإِعراضهم المذكور، وبيان لمنشئه بعد استقصاء عدة من القبائح المحققة فيهم، والاستفهام للإِنكار لكن النفى المستفاد به لا يتسلط على هذه الأمور الثلاثة، لأنها واقعة لهم، وقائمة بهم، والواقع لا ينفى، وأنما هو متسلط على منشئتها وسببيتها لإِعراضهم...
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما هو واجب على المؤمنين إذا ما دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، أن يقولوا سمعنا وأطعنا.
ولفظ "قول" منصوب على أنه خبر "كان" واسمها أن المصدرية مع ما فى حيزها، وهو: أن يقولوا سمعنا وأطعنا.
والمعنى: أن من صفات المؤمنين الصادقين، أنهم إذا ما دعوا إلى حكم شريعة الله - تعالى - التى أوحاها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا عندما يدعون لذلك: سمعنا وأطعنا، بدون تردد أو تباطؤ...
{ وأولئك } الذين يفعلون ذلك { هم المفلحون } فلاحا تاما فى الدنيا والآخرة.
ثم بين - سبحانه - ما يترتب على طاعة الله ورسوله فقال: { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ } - تعالى - فى السر والعلن { وَيَتَّقْهِ } فى كل الأحوال { فَأُوْلَـٰئِكَ } الذين يفعلون ذلك { هُمُ ٱلْفَآئِزُون } بالنعيم المقيم، والرضوان العظيم.
ثم عادت السورة الكريمة إلى استكمال الحديث عن المنافقين، فقال - تعالى - { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ }.
والجهد: الوسع والطاقة، من جهد نفسه يجهدها - بفتح الهاء فيهما - إذا اجتهد فى الشىء، وبذل فيه أقصى وسعه.
أى: وأقسم هؤلاء المنافقون بالأيمان الموثقة بأشد وسائل التوثيق، بأنهم متى أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج معه للجهاد ليخرجن سراعا تلبية لأمره.
وهنا يأمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ردا كله تهكم وسخرية بهم، بسبب كذبهم فيقول: { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ }.
أى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل السخرية والزجر، لا تقسموا على ما تقولون، فإن طاعتكم معروف أمرها، ومفروغ منها، فهى طاعة باللسان فقط. أما الفعل فيكذبها.
وذلك كما تقول لمن اشتهر بالكذب: لا تحلف لى على صدقك، فأمرك معروف لا يحتاج إلى قسم أو دليل.
ثم عقب - سبحانه - على هذه السخرية منهم بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أى: إن الله - تعالى - مطلع اطلاعا تاما على ظواهركم وبواطنكم فلا يحتاج منكم إلى قسم أو توكيد لأقوالكم، وقد علم - سبحانه - أنكم كاذبون فى حلفكم.
ثم يأمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم إلى الطاعة الصادقة، لا طاعتهم الكاذبة فيقول: { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } طاعة ظاهرة وباطنة، طاعة مصحوبة بصدق الاعتقاد، وكمال الإِخلاص، فإن هذه الطاعة هى المقبولة منكم.
وقوله - سبحانه - { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } تحذير لهم من التمادى فى نفاقهم وكذبهم.
أى: مرهم - أيها الرسول الكريم - بالطاعة الصادقة، فإن توليتم - أيها المنافقون - عن دعوة الحق وأعرضتم عن الصراط المستقيم، فإن الرسول الكريم ليس عليه سوى ما حملناه إياه. وهو التبليغ والإِنذار والتبشير، وأما أنتم فعليكم ما حملتم، أى: ما أمرتم به من الطاعة له صلى الله عليه وسلم وهو قد فعل ما كلفناه به، أما أنتم فحذار أن تستمروا فى نفاقكم.
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى طريق الفوز والفلاح فقال: { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ }. أى: وإن تطيعوا أيها المنافقون - رسولنا صلى الله عليه وسلم فى كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه، تهتدوا إلى الحق، وتظفروا بالسعادة.
وقوله - تعالى -: { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } تذييل مقرر لما قبله، من أن مغبة الإِعراض عائدة عليهم. كما أن فائدة الطاعة راجعة لهم.
أى: وما على الرسول الذى أرسلناه لإِرشادكم إلى ما ينفعكم إلا التبليغ الواضح، والنصح الخالص، والتوجيه الحكيم.
وبذلك ترى هذه الآيات الكريمة قد كشفت عن رذائل المنافقين، وحذرتهم من التمادى فى نفاقهم، وأرشدتهم إلى ما يفيدهم ويسعدهم، كما وضحت ما يجب أن يكون عليه المؤمنون الصادقون من طاعة لله - تعالى - ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم تركت السورة الكريمة الحديث عن المنافقين، لتسوق وعد الله الذى لا يتخلف للمؤمنين الصادقين، قال - تعالى -: { وَعَدَ ٱللَّهُ... }.