خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً
١
ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
٢
وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً
٣
-الفرقان

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت السورة الكريمة بالثناء على الله - تعالى - ثناء يليق بجلاله وكماله.
ولفظ "تبارك" فعل ماض لا يتصرف. أى: لم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل: وهو مأخوذ من البركة بمعنى الكثرة من كل خير. وأصلها النماء والزيادة. أى: كثرة خيره وإحسانه، وتزايدت بركاته.
أو مأخوذ من البَرْكَة بمعنى الثبوت. يقال: برك البعير، إذا أناخ فى موضعه فلزمه وثبت فيه. وكل شىء ثبت ودام فقد برك. أى: ثبت ودام خيره على خلقه.
والفرقان: القرآن. وسمى بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل.
ونذيرا: من الإنذار، وهو الإعلام المقترن بتهديد وتخويف.
أى: جل شأن الله - تعالى - وتكاثرت ودامت خيراته وبركاته، لأنه - سبحانه - هو الذى نزل القرآن الكريم على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ليكون "للعالمين" أى: للإنس وللجن "نذيرا" أى: منذرا إياهم بسوء المصير إن هم استمروا على كفرهم وشركهم.
وفى التعبير بقوله - تعالى - { تَبَارَكَ } إشعار بكثرة ما يفيضه - سبحانه - من خيرات وبركات على عباده، وأن هذا العطاء ثابت مستقر، وذلك يستلزم عظمته وتقدسه عن كل ما لا يليق بجلاله - عز وجل -.
ولم يذكر - سبحانه - لفظ الجلالة، واكتفى بالاسم الموصول الذى نزل الفرقان، لإبراز صلته - سبحانه - وإظهارها فى هذا المقام، الذى هو مقام إثبات صدق رسالته التى أوحاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
وعبر - سبحانه - بـ { نَزَّلَ } بالتضعيف، لنزول القرآن الكريم مفرقا فى أوقات متعددة، لتثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم.
ووصف الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية، وأضافها لذاته، للتشريف والتكريم والتعظيم. وأن هذه العبودية لله - تعالى - هى ما يتطلع إليه البشر.
واختير الإنذار على التبشير. لأن المقام يقتضى ذلك، إذ أن المشركين قد لجوا فى طغيانهم وتمادوا فى كفرهم وضلالهم، فكان من المناسب تخويفهم من سوء عاقبة ما هم عليه من عناد.
وهذه الآية الكريمة تدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للناس جميعا. حيث قال - سبحانه -: { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } أى: لعالم الإنس وعالم الجن، وشبيه بها قوله - تعالى -:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقوله - سبحانه -: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً.. } ثم وصف - سبحانه - ذاته بجملة من الصفات التى توجب له العبادة والطاعة فقال: { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } فهو الخالق لهما. وهو المالك لأمرهما، لا يشاركه فى ذلك مشارك.
والجملة الكريمة خبر لمبتدأ محذوف. أو بدل من قوله: { ٱلَّذِي نَزَّلَ }.
{ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } فهو - سبحانه - منزه عن ذلك وعن كل ما من شأنه أن يشبه الحوادث.
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } بل هو المالك وحده لكل شىء فى هذا الوجود.
{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } أى: وهو - سبحانه - الذى خلق كل شىء فى هذا الوجود خلقا متقنا حكيما بديعا فى هيئته، وفى زمانه، وفى مكانه، وفى وظيفته، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته. وصدق الله إذ يقول:
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } فجملة { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } بيان لما اشتمل عليه هذا الخلق من إحسان واتقان فهو - سبحانه - لم يكتف بمجرد إيجاد الشىء من العدم، وإنما أوجده فى تلك الصورة البديعة التى عبر عنها فى آية أخرى بقوله: { ... صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ.. } قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فى الخلق معنى التقدير. فما معنى قوله: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }.
قلت: معناه أنه أحدث كل شىء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية، فقدره وهيأه لما يصلح له. مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى الذى تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به فى بابى الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد، جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير...
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن المشركين لم يفطنوا إلى ما اشتمل عليه هذا الكون من تنظيم دقيق، ومن صنع حكيم يدل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته، بل إنهم - لانطماس بصائرهم - عبدوا مخلوقا مثلهم فقال - تعالى -: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ.. }.
والضمير فى قوله { وَٱتَّخَذُواْ.. } يعود على المشركين المفهوم من قوله { وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } أو من المقام.
أى: واتخذ هؤلاء المشركون معبودات باطلة يعبدونها من دون الله - عز وجل -، وهذه المعبودات لا تقدر على خلق شىء من الأشياء، بل هى من مخلوقات الله - تعالى -.
وعبر عن هذه الآية بضمير العقلاء فى قوله { لاَّ يَخْلُقُونَ } جريا على اعتقاد الكفار أنها تضر وتنفع، أو لأن من بين من اتخذوهم آلهة بعض العقلاء كالمسيح والعزير والملائكة....
وأيضا هؤلاء الذين اتخذهم المشركون آلهة: { لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ } فضلا عن غيرهم { ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } فهم لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم، ولا جلب النفع لذواتهم { وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً } أى: ولا يقدرون على إماتة الأحياء. ولا على إحياء الموتى فى الدنيا، ولا على بعثهم ونشرهم فى الآخرة.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف تلك الآلهة المزعومة بسبع صفات، كل صفة منها كفيلة بسلب صفة الألوهية عنها، فكيف وقد اجتمعت هذه الصفات السبع فيها؟!!
إن كل من يشرك مع الله - تعالى - أحدا فى العبادة. لو تدبر هذه الآية وأمثالها من آيات القرآن الكريم لأيقن واعتقد أن المستحق للعبادة والطاعة إنما هو الله رب العالمين.
ثم حكى - سبحانه - بعض الشبهات التى أثارها المشركون حول القرآن الكريم الذى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ.... }.