خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ
١٦
وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
١٧
حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٨
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ
١٩
-النمل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - سبحانه -: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } كلام مستأنف مسوق لتقرير قوله - تعالى -: { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } إذ القرآن الكريم هو الذى قص الله - تعالى - فيه أخبار السابقين، بالصدق والحق.
وداود هو ابن يسى، من سبط يهوذا من بنى إسرائيل، وكانت ولادته فى بيت لحم سنة 1085 ق.م - تقريباً -، وهو الذى قتل جالوت، كما قال - تعالى -:
{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ.. } وكانت وفاته سنة 1000 ق م تقريباً.
وسليمان هو ابن داود - عليهما السلام - ولد بأورشليم حوالى سنة 1043 ق م وتوفى سنة 975 ق م.
وقد جاء ذكرهما فى سورتى الأنبياء وسبأ وغيرهما.
ويعتبر عهدهما أزهى عهود بنى إسرائيل، فقد أعطاهما الله - تعالى - نعما جليلة.
والمعنى: والله لقد أعطينا داود وابنه سليمان علما واسعا من عندنا، ومنحناهما بفضلنا وإحساننا معرفة غزيرة بعلوم الدين والدنيا.
أما داود فقد أعطاه - سبحانه - علم الزبور، فكان يقرؤه بصوت جميل، كما علمه صناعة الدروع.. قال - تعالى -:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } وأما سليمان فقد آتاه - سبحانه - ملكا لا ينبغى لأحد من بعده، وعلمه منطق الطير، ورزق الحكم السديد بين الناس. قال - تعالى -: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } وقوله - سبحانه - { وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بيان لموقفهما من نعم الله - تعالى - عليهما، وهو موقف يدل على حسن شكرهما لخالقهما.
والواو فى قوله { وَقَالاَ } للعطف على محذوف، أى: آتيناهما علما غزيراً فعملا بمقتضاه وشكرا الله عليه، وقالا: الحمد لله الذى فضلنا بسبب ما آتانا من علم ونعم، على كثير من عباده المؤمنين، الذين لم ينالوا ما نلنا من خيره وبره - سبحانه -.
قال صاحب الكشاف: "وفى الآية دليل على شرف العلم، وإنافة محله. وتقدم حَمَلَتهِ وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم، وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلاً على كثير من عباد الله..".
وفى التعبير بقوله - تعالى -: { فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ .. } دلالة على حسن أدبهما، وتواضعهما، حيث لم يقولا فضلنا على جميع عباده.
والمراد بالوراثة فى قوله - تعالى -: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ... } وراثة العلم والنبوة والملك. أى: وورث سليمان داود فى نبوته وعلمه وملكه.
قال ابن كثير: "وقوله: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ }: أى: فى الملك والنبوة وليس المراد وراثة المال، إذ لو كان كذلك، لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود... ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة فإن الأنبياء لا تورث أموالهم، أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله سليمان على سبيل التحدث بنعم الله عليه، فقال - تعالى -: { وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ.. }.
أى: وقال سليمان - عليه السلام - على سبيل الشكر لله - تعالى -: يأيها الناس: علمنا الله - تعالى - بفضله وإحسانه فهم ما يريده كل طائر إذا صوت أو صاح، وأعطانا - سبحانه - من كل شىء نحتاجه وننتفع به فى ديننا أو دنيانا.
وقدم نعمة تعليمه منطق الطير، لأنها نعمة خاصة لا يشاركه فيها غيره، وتعتبر من معجزاته - عليه السلام -.
وقيل: إنه علم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير لأنه أظهر فى النعمة، ولأن الطير كان جندا من جنده، يسير معه لتظليله من الشمس.
قال الآلوسى: "والجملتان - علمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شىء - كالشرح للميراث.
وعن مقاتل: أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإِنس والشياطين والريح.
وعن ابن عباس: هو ما يريده من أمر الدنيا والآخرة".
وعبر عن نعم الله - تعالى - عليه بنون العظمة فقال { أُوتِينَا } ولم يقل أوتيت، للإِشعار بأنه عبد من عباد الله المطاعين، الذين سخر لهم جنوداً من الجن والإِنس والطير، ليكونوا فى خدمته، وليستعملهم فى وجوه الخير لا فى وجوه الشر، فهو لم يقل ذلك على سبيل التباهى والتعالى، وإنما قاله على سبيل التحدث بنعمة الله.
وإسم الإِشارة فى قوله - تعالى -: { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } يعود إلى ما أعطاه الله - تعالى - إياه من العلم والملك وغيرهما.
أى: إن هذا الذى أعطانا إياه من العلم والملك، وكل شىء تدعو إليه الحاجة، لهو الفضل الواضح، والإِحسان الظاهر منه - عز وجل -.
ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر ملك سليمان - عليه السلام - فتقول: { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ }.
والحشر: الجمع. يقال: حشر القائد جنده إذا جمعهم لأمر من الأمور التى تهمه.
وقوله: { يُوزَعُونَ } من الوزع بمعنى الكف والمنع. يقال: وزعه عن الظلم وزعا، إذا كفه عنه.
ومنه قول عثمان بن عفان - رضى الله عنه -: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآ،".
ومنه قول الشاعر:

ولا يزَعُ النفسَ اللجوجَ عن الهوىمن الناس، إلا وافرُ العقل كامِلهُ

والمعنى: وجمع لسليمان - عليه السلام - عساكره وجنوده من الجن والإنس والطير { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أى: فهم محبوسون ومجموعون بنظام وترتيب، بحيث لا يتجاوز أحدهم مكانه أو منزلته أو وظيفته المسئول عنها.
فالتعبير بقوله { يُوزَعُونَ } يشعر بأن هؤلاء الجنود مع كثرتهم، لهم من يزعهم عن الفوضى والاضطراب، إذ الوازع فى الحرب، هو من يدير أمور الجيش، وينظم صفوفه، ويرد من شذ من أفراده إلى جادة الصواب.
ولقد ذكر بعض المفسرين هنا أقوالاً فى عدد جيش سليمان، رأينا أن نضرب عنها صفحا، لضعفها ويكفينا أن نعلم أن الله - تعالى - قد سخر لسليمان جندا من الجن والإِنس والطير، إلا أن عدد هؤلاء الجنود مرد علمه إلى الله - تعالى- وحده، وإن كان التعبير القرآنى يشعر بأن هؤلاء الجند المجموعين، يمثلون موكبا عظيما، وحشدا كبيرا.
ثم حكى - سبحانه - ما قالته نملة عندما رأت هذا الجيش العظيم المنظم، فقال - تعالى -: { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }.
و { حَتَّىٰ } هنا ابتدائية. أى: يبتدأ بها الكلام، وقوله { قَالَتْ نَمْلَةٌ } جواب إذا.
وقوله: { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } من الحطم، وأصله: كسر الشىء.. يقال: حطم فلان الشىء إذا كسره، والمراد به هنا: الإِهلاك والقتل.
والمعنى: وحشر لسليمان جنوده، فسار هؤلاء الجنود فى قوة ونظام، { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ } أى: على مكان يعيش فيه النمل فى مملكة سليمان { قَالَتْ نَمْلَةٌ } على سبيل النصح والتحذير بعد أن رأت سليمان وجنوده: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ } أى: ادخلوا أماكن سكناكم، وابتعدوا عن طريق هذا الجيش الكبير، وانجوا بأنفسكم، كى لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بكم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم عدى { أَتَوْا } بعلى؟ قلت: يتوجه على معنين: أحدهما: أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء... والثانى: أن يراد قطع الوادى وبلوغ آخره، من قولهم أتى على الشىء إذا أنفذه وبلغ آخره...
فإن قلت: { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وأن يكون نهيا بدلاً من الأمر. والذى جوز أن يكون بدلاً منه: أنه فى معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم، على طريقة: لاأرينك ههنا".
أى: لا تحضر ها هنا بحيث أراك.
ثم بين - سبحانه - ما فعله سليمان بعد أن أدرك ما قالته النملة لأفراد جنسها، فقال - تعالى -: { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا } أى: فسمع قولها السابق فاهتزت نفسه، وتبسم ضاحكاً من قولها، لفظنتها إلى تحذير أبناء جنسها، ولسروره بما قالته عنه وعن جيشه، حيث وصفتهم بأنهم لا يقدمون على إهلاك النمل، إلا بسبب عدم شعورهم بهم.
وقوله { ضَاحِكاً } حال مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم. وقيل: هو حال مقدرة؛ لأن التبسم أول الضحك.
ثم حكى - سبحانه - ما نطق به سليمان بعد ذلك فقال: { وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ... }.
أى: وقال سليمان: يا رب ألهمنى المداومة على شكرك والامتناع عن جحود نعمك، والكف عن كل ما يؤدى إلى كفران مننك التى أفضتها على وعلى والدى.
ووفقنى كذلك لأن { أَعْمَلَ } عملاً { صَالِحاً تَرْضَاهُ } عنى وتقبله منى { وَأَدْخِلْنِي } يا إلهى { بِرَحْمَتِكَ } وإحسانك { فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } الذين رضيت عنهم ورضوا عنك.
وهكذا جمع سليمان - عليه السلام - فى هذا الدعاء البليغ المؤثر، أسمى ألوان الخشية من الله - تعالى - والشكر له - سبحانه - على نعمه، والرجاء فى رضاه وعطائه الجزيل.
ثم تحكى السورة الكريمة بعد ذلك ما دار بين سليمان - عليه السلام - وبين جندى من جنود مملكته وهو الهدهد، فقال - تعالى -: { وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ.... }.