خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ
٤٤
وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
٤٥
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٤٦
وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٧
فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلاۤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
٤٨
قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤٩
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٠
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٥١
-القصص

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الخطاب فى قوله - تعالى -: { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ... } للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد بجانب الغربى: الجانب الغربى لجبل الطور الذى وقع فيه الميقات، وفيه تلقى موسى التوراة من ربه - تعالى -.
أى: وما كنت - أيها الرسول الكريم - حاضرا فى هذا المكان، { إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ } أى، وقت أن كلفناه بحمل رسالتنا، وأنزلنا إليه التوراة، لتكون هداية ونورا له ولقومه.
{ وَمَا كنتَ } أيضا - أيها الرسول الكريم - { مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ } لذلك، حتى تعرف حقيقة ما كلفنا به أخاك موسى، فتبلغه للناس عن طريق المشاهدة.
فالمقصود بالآية بيان أن ما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم للناس عن أخبار الأولين، إنما بلغه عن طريق الوحى الذى أوحاه الله - تعالى - إليه، وليس عن طريق آخر.
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: يقول - تعالى - منبها على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبرا كأن سامعه شاهد وراء لما تقدم، وهو رجل أمى لا يقرأ شيئا من الكتب، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك، كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها، قال - تعالى -:
{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } ثم قال - تعالى - { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ } وقوله - سبحانه -: { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ } بيان للأسباب التى من أجلها قص الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم أخبار الأمم السابقة.
أى: أنت أيها الرسول الكريم - لم تكن معاصرا لتلك الأحداث ولكن أخبرناك بها عن طريق الوحى، والسبب فى ذلك أن بينك وبين موسى وغيره من الأنبياء أزمانا طويلة، تغيرت فيه الشرائع والأحكام، وعميت على الناس الأنباء، فكان من الخير والحكمة أن نقص عليك أخبار السابقين بالحق الذى لا يحوم حوله باطل، حتى يعرف الناس الأمور على وجهها الصحيح.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف يتصل قوله: { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً } بهذا الكلام؟
قلت: اتصاله به وكونه استدراكا له، من حيث إن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحى إلى عهدك قرونا طويلة { فَتَطَاوَلَ } على آخرهم: وهو القرن الذى أنت فيهم { ٱلْعُمُرُ }.
أى: أمد انقطاع الوحى، واندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وأكسبناك - أى: وأعطيناك - العلم بقصص الأنبياء.. فذكر سبب الوحى الذى هو إطالة الفترة ودل به على المسبب، على عادة الله - تعالى - فى اختصاراته.
وقوله - سبحانه -: { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } مؤكدة لمضمون ما قبله. من عدم معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم لأخبار السابقين إلا عن طريق الوحى.
وقوله: { ثَاوِياً } من الثواء بمعنى الإِقامة. يقال: ثوى فلان بالمكان يثوى ثواء فهو ثاو، إذا أقام فيه. والمثوى: المنزل، ومنه الأثر القائل: أصحلوا مثاويكم، أى: منازلكم.
أى: وما كنت - أيها الرسول الكريم - مقيما فى أهل مدين، وقت تلاوتك على أهل مكة المكرمة، قصة موسى والشيخ الكبير وما جرى بينهما، حتى تنقلها إليهم بطريق المشاهدة وإنما أنت أخبرتهم بها عن طريق وحينا الصادق المتمثل فيما أنزلناه عليك من آيات القرآن البينات.
فالضمير فى قوله { تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ } يعود على أهل مكة. والجملة حالية.
ويرى أكثر المفسرين أن الضمير لأهل مدين، أى وما كنت مقيما فى أهل مدين، تقرأ عليهم آياتنا، وتتعلم منهم، والجملة حالية - أيضا - أو خبر ثان.
وعلى كلا التفسيرين فالمقصود بالجملة الكريمة إثبات أن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأولين، إنما هو عن طريق الوحى ليس غير.
وقوله - سبحانه -: { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أى: ولكنا كنا مرسلين لك، وموحين إليك بتلك الآيات وفيها ما فيها عن أخبار الأولين. لإِحقاق الحق وإبطال الباطل.
ثم ساق - سبحانه - ما يؤكد هذه المعانى تأكيدا قويا، حتى يخرس ألسنة الكافرين، فقال - تعالى -: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا }.
أى: وما كنت - أيضا أيها الرسول الكريم - بجانب الجبل المسمى بالطور وقت أن نادينا موسى، وكلفناه بحمل رسالتنا، وأعطيناه التوراة، وأوحينا إليه بما أوحينا من أحكام وتشريعات.
وقوله - تعالى -: { وَلَـٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أى: ولكن فعلنا ما فعلنا، بأن أرسلناك إلى الناس، وقصصنا عليك ما نريده من أخبار الأولين، من أجل رحمتنا بك وبالناس، حتى يعتبروا ويتعظوا بأحوال السابقين، فالعاقل من اتعظ بغيره.
فقوله - تعالى -: { رَّحْمَةً } منصوب على أنه مفعول لأجله، أو على المصدرية.
وقوله - سبحانه -: { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } متعلق بالفعل المعلل بالرحمة، والمراد بالقوم: أهل مكة وغيرهم ممن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم.
وجملة { مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } صفة لقوله { قَوْماً } و { مَّآ } موصولة مفعول ثان لتنذر، وقوله: { مِّن نَّذِيرٍ } متعلق.
أى: أرسلناك رحمة، لتنذر قوما العقاب الذى أتاهم من نذير من قبلك، وكما قال - تعالى -:
{ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } ويصح أن تكون { مَّآ } نافية و { مِّن } فى قوله { مِّن نَّذِيرٍ } للتأكيد، فيكون المعنى: أرسلناك رحمة لتنذر هؤلاء المشركين من أهل مكة الذين لم يأتهم نذير من قبلك منذ أزمان متطاولة. إذ الفترة التى بينك وبين أبيهم إسماعيل تزيد على ألفى سنة.
ورسالة إسماعيل إليهم قد اندرست معالمها، فكانت الحكمة والرحمة تقتضيان إرسالك إليهم لتنذرهم سوء عاقبة الشرك.
أما معظم الرسل من قبلك - كموسى وعيسى وزكريا ويحيى وداود وسليمان فكانت مع تباعد زمانها عنك - أيضا - إلى غيرهم من بنى إسرائيل، ومن الأمم الأخرى، المتناثرة فى طراف الجزيرة العربية.
فالمراد بالقوم على هذا الرأى: العرب المعاصرون له صلى الله عليه وسلم كما قال - تعالى -:
{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } ولعل هذا الرأى أقرب إلى سياق الآيات، وإلى إقامة الحجة على مشركى قريش، الذين وقفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم موقف المكذب لرسالته، المعادى لدعوته.
وقوله - سبحانه -: { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } تذيبل قصد به حضهم على التذكر والاعتبار.
أى: أرسلناك إليهم كى يتذكروا ما ترشدهم إليه، ويعتبروا بما جئتهم به، ويخشوا سوء عاقبة مخالفة إنذارك لهم.
ثم أبطل - سبحانه - ما يتعللون به من معاذير فقال: { وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
و { وَلَوْلاۤ } الأولى: امتناعية، تدل على امتناع الجواب لوجود الشرط، وجوابها محذوف لدلالة الكلام عليه، و "أن" وما فى حيزها فى محل رفع بالابتداء.
و { لَوْلاۤ } الثانية: تحضيضية، وجوابها قوله { فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ.. } وجملة { فَيَقُولُواْ } عطف على { أَن تُصِيبَهُم } ومن جملة ما فى حيز { لَوْلاۤ } الأولى.
والمعنى: ولولا أن تصيب هؤلاء المشركين { مُّصِيبَةٌ } أى عقوبة شديدة. بسبب اقترافهم الكفر والمعاصى { فَيَقُولُواْ } على سبيل التعلل عند نزول العقوبة بهم { رَبَّنَا } أى: يا ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا من عندك { فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } الدالة على صدقه { وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } به وبما جاء به من آيات من عندك.
أى: ولولا قولهم هذا، وتعللهم بأنهم ما حملهم على الكفر، إلا عدم مجىء رسول إليهم يبشره وينذرهم.. لولا ذلك لما أرسلناك إليهم، ولكنا أرسلناك إليهم لنقطع حجتهم، ونزيل تعللهم، ونثبت لهم أن استمرارهم على كفرهم - بعد إرسالك إليهم، كان بسبب عنادهم وجحودهم، واستحواذ الشيطان عليهم.
قال الإِمام ابن كثير: قوله - تعالى -: { وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ } أى: وأرسلناك إليهم - يا محمد لتقيم عليهم الحجة، ولتقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بسبب كفرهم، فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير، كما قال - تعالى - بعد ذكره إنزال كتابه المبارك وهو القرآن:
{ أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك موقفهم بعد مجىء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: { فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلاۤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ }.
أى: ظل مشركو قريش أزمانا متطاولة دون أن يأتيهم رسول ينذرهم ويبشرهم { فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا } متمثلا فى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وفيما أيدناه به من معجزات دالة على صدقه، وعلى رأسها القرآن الكريم.
لما جاءهم هذا الرسول الكريم { قَالُواْ } على سبيل التعنت والجحود: هلا أوتى هذا الرسول مثل ما أوتى موسى، من توراة أنزلت عليه جملة واحدة ومن معجزات حسية منها العصا واليد والطوفان، والجراد... إلخ.
وقوله - عز وجل - { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ.. } رد عليهم لبيان أن ما قالوه هو من باب العناد والتعنت، والاستفهام لتقرير كفرهم وتأكيده.
أى: قالوا ما قالوا على سبيل الجحود، والحال أن هؤلاء المشركين كفروا كفرا صريحا بما أعطاه الله - تعالى - لموسى من قبلك - يا محمد - من معجزات، كما كفروا بالمعجزات التى جئت بها من عند ربك، فهم ديدنهم الكفر بكل حق.
ثم حكى - سبحانه - بعض أقوالهم الباطلة فقال: { قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ }.
وقوله: { سِحْرَانِ } خبر لمبتدأ محذوف. أى: قالوا ما يقوله كل مجادل بغير علم: هما - أى ما جاء به موسى وما جاء به محمد - عليهما الصلاة والسلام، { سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } أى: تعاونا على إضلالنا، وإخراجنا عن ديننا، وقالوا - أيضا - { إِنَّا بِكُلٍّ } أى بكل واحد مما جاءوا به { كَافِرُونَ } كفرا لا رجوع معه إلى ما جاء به هذان النبيان - عليهما الصلاة والسلام -.
قال الآلوسى: وقوله: { قَالُواْ } استئناف مسوق لتقرير كفرهم المستفاد من الإِنكار السابق، وبيان كيفيته، و { سِحْرَانِ }، يعنون بهما ما أوتى نبينا وما أوتى موسى.. { تَظَاهَرَا } أى: تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر، وتأييده إياه، وذلك أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود فى عيد لهم، فسألوهم عن شأنه صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نجده فى التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود. قالوا ذلك.
وقرأ الأكثرون { قَالُواْ ساحْرَانِ تَظَاهَرَا } وأرادوا بهما محمد وموسى - عليهما الصلاة والسلام -.
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم، وأن يفحمهم بما يخرس ألسنتهم فقال: { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاحدين: لقد أنزل الله - تعالى - على موسى التوراة. وأنزل القرآن على، وأنا مؤمن بهما كل الإِيمان، فإن كنتم أنتم مصرون على كفركم { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ } أى هو أوضح منهما وأبين فى الإِرشاد إلى الطريق المستقيم.
وقوله { أَتَّبِعْهُ } مجزوم فى جواب الأمر المحذوف، أى: إن تأتوا به أتبعه.. { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فى زعمكم أن القرآن والتوراة نوع من السحر.
فالآية الكريمة تتهكم بهم، وتسخر منهم، بأسلوب بديع معجز، لأنه من المعروف لكل عاقل أنهم ليسوا فى استطاعتهم - ولا فى استطاعة غيرهم - أن يأتوا بكتاب، أهدى من الكتابين اللذين أنزلهما - سبحانه - على نبيين كريمين من أنبيائه، هما موسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام -.
ولذا قال صاحب الكشاف ما ملخصه: وهذا الشرط يأتى به المدل بالأمر المتحقق لصحته، لأن امتناع الإِتيان بكتاب أهدى من الكتابين. أمر معلوم متحقق. لا مجال فيه للشك، ويجوز أن يقصد بحرف الشك التهكم بهم.
وقوله - سبحانه -: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } زيادة فى تثبيت قلب النبى صلى الله عليه وسلم وتسليته عما أصابه منهم من أذى.
أى: فإن لم يفعلوا ما تحديتهم به، من الإِتيان بكتاب هو أهدى من الكتابين.
{ فَٱعْلَمْ } - أيها الرسول الكريم - { أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } الباطلة، وشهواتهم الزائفة، عندما يجادلونك فى شئون دعوتك.
والاستفهام فى قوله: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ.. } للنفى والإِنكار.
أى: ولا أحد أضل ممن اتبع هواه وشيطانه، دون أن تكون معه هداية من الله - تعالى - تهديه إلى طريق الحق، لأن هذا الضال قد استحب العمى على الهدى. وآثر الغواية على الرشد.
وقوله - سبحانه -: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } تذييل مبين لسنة الله - تعالى - فى خلقه.
أى: إنه - سبحانه - جرت سنته أن لا يهدى القوم الظالمين إلى طريق الحق بسبب إصرارهم على الباطل، وتجاوزهم لكل حدود الحق والخير.
ثم أكد - سبحانه - قطع أعذارهم وحججهم بقوله: { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }.
وقوله: { وَصَّلْنَا } من الوصل الذى هو ضد القطع، والتضعيف فيه للتكثير.
أى: ولقد أنزلنا هذا القرآن عليك - أيها الرسول الكريم - متتابعا، وأنت أوصلته إليهم كذلك، ليتصل تذكيرك لهم، عن طريق ما اشتمل عليه من عقائد وآداب وأحكام وقصص.
{ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أى: ليكون ذلك أقرب إلى تذكرهم وتعقلهم وتدبرهم، لأن استماعهم فى كل يوم. أو بين الحين والحين إلى جديد منه، أدعى إلى تذكرهم واعتبارهم.
فالمقصود بالآية الكريمة. قطع كل حجة لهم، وبيان أن القرآن الكريم قد أنزله - سبحانه - متتابعا ولم ينزله جملة واحدة، لحكم من أعظمها اتصال التذكير بهداياته بين حين وآخر، على حسب ما يجد فى المجتمع من أحداث.
وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد أقامت ألوانا من الحجج والبراهين، على صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن هذا القرآن من عند الله، كما حكت جانبا من شبهات المشركين، وردت عليها بما يبطلها.
ثم تمدح السورة الكريمة بعد ذلك، طائفة من أهل الكتاب، استقامت قلوبهم، وخلصت نفوسهم من العناد، فاستقبلوا آيات الله - تعالى - ومن جاء بها استقبالا يدل على صدق إيمانهم - فقال - تعالى -: { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ... }.