خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
٥٦
وَقَالُوۤاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٥٧
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ
٥٨
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
٥٩
وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٦٠
أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ
٦١
-القصص

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

المعنى: { إِنَّكَ } - أيها الرسول الكريم - { لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أى: لا تستطيع بقدرتك الخاصة أن تهدى إلى الإِيمان من تريد هدايته إليه.
{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } أى: ولكن الله - تعالى - وحده، هو الذى يملك هداية من يشاء هدايته إلى الإِيمان، فهو - سبحانه - الخالق لكل شىء، وقلوب العباد تحت تصرفه - تعالى - يهدى من يشاء منها ويضل من يشاء، على حسب مشيئته وحكمته، التى تخفى على الناس.
{ وَهُوَ } - سبحانه - { أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } أى: بالقابلين للهداية المستعدين لها.
فبلغ - أيها الرسول الكريم - ما كلفناك به، ثم اترك بعد ذلك قلوب الناس إلى خالقهم، فهو - سبحانه - الذى يصرفها كيف يشاء.
قال بعض العلماء: وإن للإِنسان ليقف أمام هذا الخبر، مأخوذا بصرامة هذا الدين واستقامته، فهذا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكافله وحاميه والذائد عنه، لا يكتب الله له الإِيمان، على شدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة حب الرسول له أن يؤمن.
ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة، ولم يقصد إلى العقيدة، وقد علم الله منه ذلك فلم يقدر له ما كان يحبه له صلى الله عليه وسلم ويرجوه، فأخرج هذا الأمر - أى الهداية - من خاصة رسوله صلى الله عليه وسلم وجعله خاصا بإرادته - سبحانه - وتقديره. وما على الرسول إلا البلاغ، وما على الداعين بعده إلا النصيحة، والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد، واستعدادهم للهدى والضلال.
ثم حكى - سبحانه - جانبا من الاعتذارات الواهية التى تذرع بها المشركون فى عدم الدخول فى الإِسلام.
فقال - تعالى -: { وَقَالُوۤاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } والتخطف: الانتزاع بسرعة. يقال: فلان اختطفه الموت. إذا أخذه بغتة بدون إمهال.
وقد ذكروا فى سبب نزولها، أن بعض المشركين أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد، نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخشى إن اتبعناك، وخالفنا العرب، أن يتخطفونا من أرضنا، وإنما نحن أكلة رأس - أى: قليلون لا نستطيع مقاومة العرب.
وقد رد الله - تعالى - على تعللهم هذا بقوله: { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }.
وقوله: { يُجْبَىٰ إِلَيْهِ } أى: يحمل إليه، يقال جبى فلان الماء فى الحوض إذا جمعه فيه، وحمله إليه.
والاستفهام لتقريعهم على قولهم هذا الذى يخالف الحقيقة.
أى: كيف قالوا ذلك، مع أننا قد جعلنا لهم حرما ذا أمان يعيشون من حوله، وتأتيهم خيرات الأرض من كل مكان، وقد فعلنا ذلك معهم وهم مشركون، فكيف نعرضهم للخطف وهم مؤمنون.
قال صاحب الكشاف: وكانت العرب فى الجاهلية حولهم - أى حول أهل مكة - يتغاورون ويتناحرون وهم آمنون مطمئنون فى حرمهم، وبحرمة البيت هم قارون بواد غير ذى زرع، والثمرات والأرزاق تجبى إليهم من كل مكان، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها، وهم كفرة عبدة أصنام، فكيف يستقيم أن يعرضهم للتخطف والخوف، ويسلبهم الأمن، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة، الإِسلام...
والتعبير بقوله - سبحانه -: { يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً } للإِشعار بكثرة الخيرات والثمرات، التى تأتى إلى أهل مكة من كل جانب من جوانب الأرض، ومن كل نوع من أنواع ثمارها. والجملة الكريمة صفة من صفات الحرم.
وقوله - تعالى -: { مِّن لَّدُنَّا } أى: من جهتنا ومن عندنا وليس من عند غيرنا الذين تخشون غضبهم أو تخطفهم لكم، إن اتبعتم الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة بيان سعة فضل الله - تعالى -، وأنه هو القادر على كل شىء.
وقوله - تعالى -: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } متعلق بقوله { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً }.
أى: لقد جعلنا لهم حرما ذا أمن، وأفضنا عليهم من خيرات الأرض، ولكن أكثرهم يجهلون هذه الحقيقة، ويجهلون أن اتباعهم للدين الحق، يؤدى إلى سعادتهم فى حياتهم وبعد مماتهم.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } ثم بين - سبحانه - الأسباب الحقيقية التى تؤدى إلى زوال النعم، التى من بينها نعمة الأمان والاطمئنان، فقال - تعالى -: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا }.
وكم هنا خبرية للتكثير، و { بَطِرَتْ } من البطر، بمعنى الأشر والغرور واستعمال نعم الله - تعالى - فى غير ما خلقت له.
أى: وكثيرا من أهل قرى كانت أحوالهم كحال أهل مكة فى الأمن وسعة الرزق، فلما بطروا معيشتهم، واستعملوا نعمنا فى الشر لا فى الخير، وفى الفسوق لا فى الطاعة، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، بأن دمرناهم وقراهم تدميرا.
إذاً فبطر النعمة وعدم الشكر عليها، هو السبب الحقيقى فى الهلاك، وليس اتباع الهدى، كما زعم أولئك المشركون الجاهلون.
قال القرطبى: "بين - سبحانه - لمن توهم، أنه لو آمن لقاتلته العرب وتخطفته، أن الخوف فى ترك الإِيمان أكثر، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار. والبطر: الطغيان بالنعمة".
و { مَعِيشَتَهَا } أى: فى معيشتها، فلما حذف "فى" تعدى الفعل، كما فى قوله - تعالى -:
{ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً } ثم بين - سبحانه - مآل مساكن هؤلاء الطاغين فقال: { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً }.
أى: فتلك مساكن هؤلاء الطغاة ترونها يا أهل مكة فى أسفاركم - إنها لم تسكن من بعدهم إلا زمانا قليلا، كالذى يرتاح بها وهو مسافر ثم يتركها إلى غير عودة إليها، لأنها صارت غير صالحة لذلك لشؤمها.
{ وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ } أى: وكنا نحن وحدنا الوارثين لها منهم، لأنهم لم يتركوا أحدا يرث منازلهم وأموالهم، أو لأنها صارت خرابا لا تصلح للسكن.
ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر عدالته، وسنة من سننه التى كتبها على نفسه فقال - تعالى -: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا }.
والمراد بـ { أُمِّهَا } أكبرها وأعظمها كمكة بالنسبة للجزيرة العربية.
أى: إن حكمة الله - تعالى - وعدالته قد اقتضت، أن لا يهلك قرية من القرى التى كفر أهلها، حتى يبعث فى كبرى تلك القرى وأصلها رسولا من رسله الكرام، يتلو على أهلها آياته، ويبلغهم دعوته، ويلين لهم الحق من الباطل.
وحكمة إرسال الرسول فى كبرى تلك القرى، لأنها المركز والعاصمة، التى تبلغ الرسالة إلى القرى التابعة لها، ولأنها فى العادة - المكان المختار لسكنى وجهاء القوم ورؤسائهم.
قال ابن كثير ما ملخصه: وفى هذه الآية دلالة على أن النبى صلى الله عليه وسلم المبعوث من أم القرى - وهى مكة -، رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام، كما قال - تعالى -:
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا.. } وقال - تعالى: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } وثبت فى الصحيحين أنه قال: "بعثت إلى الأحمر والأسود" ، ولذا ختم به الرسالة والنبوة، فلا نبى بعده، ولا رسول، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة.
وقوله - سبحانه -: { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } معطوف على ما قبله. وهو قوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ } ومؤكد له.
أى: وما كنا فى حال من الأحوال بمهلكى هذه القرى، إلا فى حال ظلم أهلها لأنفسهم، عن طريق تكذيبهم لرسلنا وإعراضهم عن آياتنا، وإيثارهم الكفر على الإِيمان.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ثم بين - سبحانه - أن هذه الدنيا وما فيها من متاع، هى شىء زهيد وضئيل بالنسبة لما ادخره - عز وجل - لعباده الصالحين من خيرات، فقال: { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا }.
أى: وما أعطيتموه - أيها الناس - من خير، وما أصبتموه من مال فهو متاع زائل من أعراض الحياة الدنيا الزائلة وحطامها الذى لا دوام له، ومهما كثر فهو إلى نفاد، ومهما طال فله نهاية، فأنتم تتمتعون بزينة الحياة الدنيا ثم تتركونها لغيركم.
{ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } - تعالى - من ثواب وعطاء جزيل فى الآخرة، هو فى نفسه { خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } لأن لذته خالصة من الشوائب والأكدار وبهجته لا تنتهى ولا تزول.
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } هذه التوجيهات الحكيمة، وتعملون بمقتضاها، فإن من شأن العقلاء أن يؤثروا الباقى على الفانى، والذى هو خير على الذى هو أدنى.
ثم نفى - سبحانه - التسوية بين أهل الجنة وأهل النار بأبلغ أسلوب فقال: { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا }.
فالاستفهام للإِنكار ونفى المساواة بين الفريقين، والمراد بالوعد: الموعود به وهو الجنة ونعيمها.
أى: أنه لا يستوى فى عرف أى عاقل، حال المؤمنين الذين وعدناهم وعدا حسنا بالجنة ونعيمها، وهم سيظفرون بما وعدناهم به لا محالة، وحال أولئك الكافرين والفاسقين الذين متعناهم إلى حين بمتاع الدنيا الزائلة.
وقوله - سبحانه -: { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } معطوف على { مَّتَّعْنَاهُ } وداخل معه فى حيز الصلة، ومؤكد لإِنكار المساواة.
أى: ثم هو هذا الذى متعناه بمتاع الحياة الدنيا الزائل، من المحضرين لعذابنا فى النار، والمحضرين: جمع محضر. اسم مفعول من أحضره.
وهذا التعبير يشعر بإحضاره إلى النار وهو مكره خائف، من العذاب المهين الذى أعدّ له، فالآية الكريمة قد نفت بأبلغ أسلوب - المساواة بين المؤمنين والكافرين.
ثم حكى - سبحانه - جانبا من أقوال المشركين يوم القيامة، ومن أحوالهم السيئة، ورد أمرهم وأمر غيرهم إليه وحده - عز وجل- فقال: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ... }.