خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
١٨
أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١٩
قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ
٢١
وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٢٢
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٣
-العنكبوت

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال صاحب الكشاف: وهذه الآية - وهى قوله - تعالى - { وَإِن تُكَذِّبُواْ } والآيات التى بعدها إلى قوله: { { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ.. } محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم - صلوات الله عليه - لقومه، وأن تكون آيات وقعت معترضة فى شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش، بين أول قصة إبراهيم وآخرها.
فإن قلت: إذا كانت من قول إبراهيم، فما المراد بالأمم من قبله؟ قلت: المراد بهم قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وكفى بقوم نوح أمة فى معنى أمم جَمة مكذبة...".
وقال الإِمام ابن كثير: والظاهر من السياق أن كل هذه الآيات، من كلا إبراهيم الخليل - عليه السلام -، يحتج عليهم لإِثبات المعاد، لقوله بعد هذا كله:
{ { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } }. وقوله - سبحانه -: { وَإِن تُكَذِّبُواْ... } معطوف على محذوف، والتقدير: إن تطيعونى - أيها الناس - فقد فزتم ونجوتم، وإن تكذبونى فيما أخبرتكم به، فلستم بدعا فى ذلك، فقد كذب أمم من قبلكم رسلهم، فكانت عاقبة المكذبين خسرا.
ثم بين لهم إبراهيم - عليه السلام - وظيفة فقال: { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } أى: لقد بلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم، وتلك هى وظيفتى التى كلفنى بها ربى، وليس على سواها، أما الحساب والجزاء فمرده إلى الله تعالى وحده.
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على أن البعث حق، وأنه - تعالى - لا يعجزه شئ، فقال: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }.
والاستفهام لتوبيخهم على إنكارهم هذه الحقيقة، وعدم تعلقهم لما يدل عليها دلالة واضحة، والواو للعطف على مقدر.
والمعنى: ألم ينظر هؤلاء المشركون المنكرون للبعث، ويعلموا كيف خلق الله - تعالى - الخلق ابتداء، ليستدلوا بذلك على قدرته على الإِعادة، وهى أهون عليه.
إنهم ليرون كيف يبدئ الله الخلق فى النبتة النامية، وفى الشجرة الباسقة، وفى كل ما لم يكن، ثم بعد ذلك يكون، فكيف أنكروا إعادة هذا المخلوق إلى الحياة مرة أخرى، مع أنه من المسلم عند كل ذى عقل، أن الإِعادة أيسر من الخلق ابتداء؟
فالآية الكريمة تقرعهم على إنكارهم البعث، وتسوق لهم الأدلة الواضحة على إمكانيته.
واسم الإِشارة فى قوله { إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } يعود إلى ما ذكر من الأمرين وهما: بدء الخلق، وإعادته إلى الحياة مرة أخرى.
أى: إن ذلك الذى ذكرناه لكم من خلقكم ابتداء، ثم إعادتكم إلى الحياة بعد موتكم، يسير وهين على الله، لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ.
ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يلفت أنظار قومه إلى التأمل والتدبر فى أحوال هذا الكون، لعل هذا التأمل يديهم إلى الحق فقال: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ.. }.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنكرين للبعث: سيحوا فى الأرض، وتتبعوا أحوال الخلق، وتأملوا كيف خلقهم الله - تعالى - ابتداء على أطوار مختلفة، وطبائع متمايزة. وأحوال شتى... ثم قل لهم بعد كل ذلك، الله الذى خلق الخلق ابتداء على تلك الصور المتنوعة المتكاثرة، هو وحده الذى { يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } أى: هو وحده الذى ينشئهم ويخلقهم ويعيدهم إلى الحاية مرة أخرى، بعد أن أوجدهم فى المرة الأولى.
فجملة { ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } معطوفة على قوله: { سِيرُواْ... } وداخلة معها فى حيز القول..
والكيفية في هذه الآية باعتبار بدء الخلق على أطوار شتى، وصور متعددة...
وفى الآية السابقة وهى قوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } باعتبار بدء الخلق من مادة وغيرها.
والمقصود بالأمر بالسير: التدبر والتأمل والاعتبار، لأن من شأن التنقل فى جنبات الأرض، أنه يوقظ الحس، ويبعث على التفكير، ويفتح العين والقلب على المشاهدة الجديدة التى لم تألفها العين، ولم يتأملها القلب قبل ذلك.
وجاء الأمر بالسير عاما، لأن كل إنسان - فى كل زمان ومكان - يأخذ وجوه العبرة والعظة - عن طريق هذا السير ما يتناسب مع عقله، وثقافته، وبيئته، وفكره، ومستواه المادى، والاجتماعى، والحضارى...
وقوله - سبحانه -: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تعليل لما قبله. أى: هو - سبحانه - قادر على النشأة الأولى، وعلى النشأة الآخرة، لأن قدرته لا يعجزها شئ ولا يحول دون نفاذها حائل.
وهو - سبحانه - { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } ويرحم من يشاء برحمته، { وَإِلَيْهِ } وحده لا إلى غيره { تُقْلَبُونَ } أى: ترجعون جميعا فيحاسبكم على أعمالكم.
{ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } أى: وما أنتم - أيها الناس - بقادرين على أن تفلتوا أو تهربوا من لقاء الله - تعالى - ومن حسابه، سواء أكنتم فى الأرض، أم كنتم فى السماء، إذ ليست هناك قوة فى هذا الوجود تحول بينكم وبين الانقلاب إليه - سبحانه - والوقوف بين يديه للحساب والجزاء.
قال الشوكانى: { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } قال الفراء: ولا من فى السماء بمعجزين الله فيها... والمعنى: أنه لا يعجزه - سبحانه - أهل الأرض ولا أهل السماء فى السماء لو كنتم فيها، كما تقول: لا تفوتنى فلان هاهنا ولا بالبصرة. يعنى: ولا بالبصرة لو صار إليها...".
وقوله - سبحانه -: { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } مؤكد لما قبله. أى: لستم بقادرين على الهرب من لقاء الله - تعالى -. فى الآخرة. وليس سواه ناصر ينصركم، أو من قريب يدفع عنكم حكمه وقضاءه - سبحانه -.
ثم بين - سبحانه -: مصير الكافرين فقال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على وحدانيته وقدرته، وعلى ذاته وصفاته.. وكفروا - أيضا - بالأدلة الدالة على { لِقَآئِهِ } بأن أنكروا البعث والحساب والجزاء { أُوْلَـٰئِكَ } الذين كفروا بكل ذلك { يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } أى: انقطع أملهم فى رحمتى إياهم انقطاعا تاما وعبر - سبحانه - بالماضى لدلالة علمه التام على تحقق وقوع هذا اليأس، وفقدان الأمل عند هؤلاء الكافرين وقت أن يقفوا بين يديه للحساب، بسبب كفرهم وسوء أعمالهم.
وأضاف - عز وجل - الرحمة إليه، للإِشارة إلى سبقها لغضبه، وأنها تشمل عبادة المؤمنين.
{ أُوْلَـٰئِكَ } أى: الذين كفروا بآيات الله وبلقائه { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } لا يعلم مقدار شدته وفظاعته إلا هو - سبحانه -.
ثم قص - سبحانه - بعد ذلك ما قاله قوم إبراهيم له، وما رد به عليهم. فقال - تعالى -: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ...فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ }.