خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ
٢
وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ
٣
أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٤
مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٥
وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ
٦
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٧
-العنكبوت

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

سورة العنكبوت من السور التى افتتحت ببعض حروف التهجى { الۤـمۤ }، ويبلغ عدد السور التى افتتحت بحروف التهجى، تسعاً وعشرين سورة.
وقد سبق أن قلنا: لعل أقرب الأقوال إلى الصواب، أن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى افتتاح بعض السور، على سبيل الإِيقاظ والتنبيه، للذين تحداهم القرآن الكريم، فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك العارضين فى أن القرآن من عند الله: هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله، فهاتوا مثله، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك...
والاستفهام فى قوله - سبحانه -: { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } للإِنكار و { حسب } من الحسبان بمعنى الظن. وقوله: { يُفْتَنُونَ } من الفتن، بمعنى الاختبار والامتحان.
يقال: فتنت الذهب بالنار، أى: أدخلته فيها لتعلم الجيد منه من الخبيث.
وجملة "أن يتركوا" سدت مسد مفعولى حسب، وجملة "أن يقولوا" فى موضع نصب، على معنى: لأن يقولوا، وهى متعلقة بقوله: { يُتْرَكُوۤاْ }. وجملة "وهم لا يفتنون" فى موضع الحال من ضمير "يتركوا".
والمعنى: أظن الناس أن يتركوا بدون امتحان، واختبار، وابتلاء، وبدون نزول المصائب بهم، لأنهم نطقوا بكلمة الإِيمان؟ إن ظنهم هذا ظن باطل، ووهم فاسد، لأن الإِيمان ليس كلمة تقال باللسان فقط، بل هو عقيدة تكلف صاحبها الكثير من ألوان الابتلاء والاختبار، عن طريق التعرض لفقد الأموال والأنفس والثمرات، حتى يتميز قوى الإِيمان من ضعيفه.
قال القرطبى: والمراد بالناس قوم من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام، كسلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والوليد بن الوليد.. فكانت صدورهم تضيق بذلك، وربما استنكروا أن يمكن الله الكفار من المؤمنين. قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هى سيرة الله فى عباده، اختبار للمؤمنين وفتنة.
قال ابن عطية: وهذه الآية وإن اكنت نزلت بهذا السبب أو ما فى معناه من الأقوال، فهى باقية فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر...
وقوله - سبحانه -: { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } مؤكد لما قبله من أن ظن الناس أن يتركوا بدون ابتلاء، لقولهم آمنا، هذا الظن فى غير محله، لأن سنة الله قد اقتضت أن يدفع الناس بعضهم ببعض، وأن يجعل الكافرين يتصارعون مع المؤمنين، إلا أن العاقبة فى النهاية للمؤمنين.
والمقصود بقوله - تعالى -: { فَلَيَعْلَمَنَّ.. } إظهار علمه - سبحانه -، أو المجازاة على الأعمال.
أى: ولقد فتنا الذين من قبل هؤلاء المؤمنين من أصحابك - أيها الرسول الكريم -، { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ... } أى فليظهرن الله - تعالى - فى عالم الواقع حال الذين صدقوا فى إيمانهم، من حال الكاذبين منهم، حتى ينكشف للناس ما هو غائب عن علمهم.
أو المعنى: ولقد فتنا الذين من قبلهم من المؤمنين السابقين، كأتباع نوح وهود وصالح وغيرهم، فليجزين الذين صدقوا في إيمانهم بما يستحقون من ثواب، وليجزين الكاذبين بما يستحقون من عقاب، ولترتب المجازاة على العلم، أقيم السبب مقام المسبب.
قال الإِمام ابن جرير: قوله: { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ... } أى: فليعلمن الله الذين صدقوا منهم فى قولهم آمنا، وليعلمن الكاذبين منهم فى قولهم ذلك، والله عالم بذلك منهم، قبل الاختبار، وفى حال الاختبار، وبعد الاختبار، ولكن معنى ذلك: وليظهرن الله صدق الصادق منهم فى قوله آمنا بالله، من كذب الكاذب منهم...
وذكر أن هذه الآية نزلت فى قوم من المسلمين، عذبهم المشركون، ففتن بعضهم، وصبر بعضهم على أذاهم، حتى أتاهم الله بفرج من عنده".
وفى معنى هاتين الآيتين وردت آيات كثيرة منها قوله - تعالى -:
{ { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } وقوله - تعالى -: { { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً.. } }. وقوله - سبحانه -: { { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } }. وقد ساق الإِمام القرطبى عند تفسيره لهاتين الآيتين من سورة العنكبوت عددا من الأحاديث النبوية، منها قوله: روى البخارى " عن خباب بن الأرت قالوا: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له فى ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ فيحفر له فى الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" .
والخلاصة، أن المقصود من الآتيين تنبيه الناس فى كل زمان ومكان، إلى أن ظن بعض الناس أن الإِيمان يتعارض مع الابتلاء بالبأساء والضراء، ظن خاطئ، وإلى أن هذا الابتلاء سُنة ماضية فى السابقين وفى اللاحقين إلى يوم القيامة.
ثم بين - سبحانه - أن عقابه للمرتكبين السيئات واقع بهم، وأنهم إذا ظنوا خلاف ذلك، فظنهم من باب الظنون السيئة القبيحة، فقال - تعالى -: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }.
و"أم" هنا منقطعة بمعنى بل، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ، وقوله: { أَن يَسْبِقُونَا } سد مسد مفعولى حسب، وأصل السبق: الفوت والتقدم على الغير. والمراد به هنا: التعجيز، والمعنى: بل أحسب الذين يعملون الأعمال السيئات كالكفر والمعاصى، "أن يسبقونا" أى: أن يعجزونا فلا نقدر على عقابهم، أو أن فى إمكانهم أن يهربوا من حسابنا لهم؟ إن كانوا يظنون ذلك فقد: { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أى: بئس الظن ظنهم هذا، وبئس الحكم حكمهم على الأمور.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدخل السرور والاطمئنان على قلوب عباده المؤمنين الصادقين فقال - تعالى -: { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أى: من كان من الناس يرجو لقاء الله - تعالى - يوم القيامة لقاء يسره ويرضيه، ويطمعه فى ثوابه وعطائه، فليثبت على إيمانه، وليواظب على العمل الصالح، { فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ }. أى: فإن الأجل الذى حدده الله - تعالى - لموت كل نفس وللبعث والحساب، لآت لا محالة فى وقته الذى حدده - سبحانه - "وهو السميع" لأقوال خلقه "العليم" بما يخفونه وما يعلنونه.
فالرجاء فى لقاء الله، بمعنى الطمع فى ثوابه، ومنهم من فسره بمعنى الخوف من حسابه - سبحانه -.
قال صاحب الكشاف: لقاء الله: مثل للوصول إلى العاقبة، من تلقى ملك الموت، البعث، والحساب، والجزاء، مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتى ويذر، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب، لما رضى من أفعاله، أو بضد ذلك لما سخطه منها... وقيل: "يرجو" يخاف، كما فى قول الشاعر:

إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها.." أي: إذا لسعته النحل لم يخف لسعها

وعلى كلا التفسرين للرجاء. فإن الآية الكريمة تبشر المؤمنين بما يدخل السرور على نفوسهم، وتعدهم بأنهم متى ثبتوا على إيمانهم، وأحسنوا أعمالهم، فإن ثوابهم سيظفرون به كاملا غير منقوص، بفضل الله وإحسانه.
وقوله - سبحانه -: { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } معطوف على ما قبله، ومؤكد لمضمونه. أى: ومن جاهد فى طاعة الله، وفى سبيل إعلاء كلمته، ونصرة دينه، فإنما يعود ثواب جهاده ونفعه لنفسه لا لغيره.
{ إِنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - { لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } جميعا، لأنه - سبحانه - لا تنفعه طاعة مطيع، كما لا تضره معصية عاص، وإنما لنفسه يعود ثواب المطيع وعليها يرجع عقاب المسئ.
ثم وضح - سبحانه - ما أعده للمؤمنين الصادقين من ثواب جزيل فقال: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ... } أى: لنسترن عنهم سيئاتهم، ولنزيلنها - بفضلنا وإحساننا - من صحائف أعمالهم.
ثم بعد ذلك { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى: ولنجزينهم بأحسن الجزاء على أعمالهم الصالحة التى كانوا يعملونها فى الدنيا، بأن نعطيهم على الحسنة عشر أمثالها.
قال الجمل ما ملخصه: قوله: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ.. } يجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء، والخبر جملة القسم المذحوفة، وجوابها أى: والله لنكفرن. ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر على الاشتغال. أى: ونخلص الذين آمنوا من سيئاتهم...
وقال { أَحْسَنَ } لأنه سبحانه إذا جازاهم بالأحسن، جازاهم بما هو دونه. فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى".
ثم بين - سبحانه - أن طاعة الله - تعالى - يجب أن تقدم على كل طاعة. فقال: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ..فِي ٱلصَّالِحِينَ }.