خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١١٦
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
١١٧
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بالذين كفروا فى قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } جميع الكفار، لأن اللفظ عام، ولا دليل يقتضى تخصيصه بفريق من الكافرين دون فريق. والمراد من الإِغناء فى قوله: { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } الدفع وسد الحاجة يقال: أغنى فلان فلانا عن هذا الأمر، إذا كفاه مؤنته، ورفع عنه ما أثقله منه.
أى: إن الذين كفروا بما يجب الإِيمان به، واغتروا بأموالهم وأولادهم فى الدنيا، لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئاً - ولو يسيرا - من عذاب الله الذى سيحيق بهم يوم القيامة بسبب كفرهم وجحودهم.
وقد أكد - سبحانه - عدم إغناء أموالهم ولا أولادهم عنهم شيئاً - فى وقت هم فى أشد الحاجة إلى من يعينهم ويدفع عنهم - بحرف "لن" المفيد لتأكيد النفى وخص الأموال والأولاد بالذكر، لأن الكفار كانوا أكثر ما يكونون اغتراراً بالأموال والأولاد، وقد حكى القرآن غرورهم هذا بأموالهم وأولادهم فى كثير من الآيات، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ولأن من المتعارف عليه بين الناس أن الإِنسان يلجأ إلى ماله وولده عند الشدائد، إذ المال يدفع به الإِنسان عن نفسه فى الفداء وما يشبهه من المغارم، والأولاد يدافعون عن أبيهم لنصرته ممن يعتدى عليه.
وكرر حرف النفى مع المعطوف فى قوله: { وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ }، لتأكيد عدم غناء أولادهم عنهم، ولدفع توهم ما هو متعارف من أن الأولاد لا يقعدون عن الذب عن آبائهم.
فالمقصود من الجملة الكريمة نفى الانتفاع بالأموال والأولاد فى حالة اجتماعهما، وفى حالة انفراد أحدهما عن الآخر، لأن المال قد يكون أكثر نفعا فى مواضع خاصة، والأولاد قد يكونون أكثر نفعا من المال فى مواطن أخرى، فبتكرار النفى تأكد عدم انتفاع الكفار بهذين النوعين فى أية حال من الأحوال.
فإن قيل: لقد نص القرآن على أن الكفار لا تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم يوم القيامة، مع أن المؤمنين كذلك لا تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم فلماذا خص الكافرين بالذكر؟.
فالجواب أن الكافرين هم الذين اغتروا بأموالهم وأولادهم، وهم الذين اعتقدوا أنهم سينجون من العقاب بسبب ذلك، أما المؤمنون فإنهم لم يعتقدوا هذا الاعتقاد، ولم يغتروا بما منحهم الله من نعم، وإنما اعتقدوا أن الأموال والأولاد فتنة، ولم يعتمدوا فى نجاتهم من عقاب الله يوم القيامة إلى على فضله ورحمته، وعلى إيمانهم الصادق، وعملهم الصالح.
و { مِّنَ } فى قوله: { مِّنَ ٱللَّهِ } ابتدائية، والجار والمجرور متعلق بتغنى.
وقوله: { شَيْئاً } منصوب على أنه مفعول مطلق أى: لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا من الاغناء والدفع. وتنكير { شَيْئاً } للتقليل.
وقوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } تذييل قصد به بيان سوء عاقبتهم، وما أعد لهم من عذاب شديد.
أى وأولئك الكافرون المغترون بأموالهم وأولادهم، هم أصحاب النار الذين سيلازمونها ويصلون سعيرها، ولن يصرفهم من عذاب الله أى ناصر من أموال أو أولاد أو غيرهما.
وقد أكد - سبحانه - هذا الحكم العادل بعدة مؤكدات منها: التعبير باسم الإِشارة المتضمن السلب من كل قوة كانوا يعتزون بها، ومنها: ذكر مصاحبتهم للنار وخلودهم فيها أى ملازمتهم لها ملازمة أبدية، ومنها: ما اشتملت عليه الجملة الكريمة من معنى القصر أى أولئك أصحاب النار الذين يلازمونها ولا يخرجون منها إلى غيرها بل هم خالدون فيها.
ثم ضرب - سبحانه - مثلا لبطلان ما كان ينفقه هؤلاء الكافرون من أموال فى الدنيا فقال: { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أى من أموال فى وجوه الخير المختلفة، كمواساة البائسين، ودفع حاجة المحتاجين.
و{ مَا } موصولة، والعائد محذوف، والتقدير، مثل ما ينفقونه.
{ كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أى كمثل ريح فيها برد شديد قاتل للنبات. وقيل: الصر. الحر الشديد، وقيل الصر: صوت لهيب النار التى تحرق الثمار.
وذكر - سبحانه - الصر على أنه فى الريح، وأنها مشتملة عليه، وهى له ظرف وهو مظروف، للاشعار بأنها ريح لا تحمل عوامل النماء للزرع، وإنما هى تحمل معها ما يهلكه.
وقوله: { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } أى أصابت زرع قوم ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصى فدمرته وأهلكت ما فيه من ثمار وهم أحوج ما يكونون إلى هذا الزرع وتلك الثمار.
والحرث هنا مصدر بمعنى المحروث، وأصل كلمة حرث: فلح الأرض وإلقاء البذر فيها، ثم أطلقت على ما هو نتيجة لذلك وهو الزرع.
وفى التعبير بقوله: { ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } تذكير للسامعين، وبعث لهم على ترك الظلم، حتى لا يصابوا بمثل ما أصيب به أولئك الذين ظلموا أنفسهم من عقوبات رادعة، وأضرار فادحة.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أى أن الله - تعالى - ما ظلمهم حين لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بإيثارهم الكفر على الإِيمان، ومن كان كذلك فلن يقبل الله منه شيئاً؛ لأن الله تعالى، إنما يتقبل من المتقين.
والضمائر فى هذه الجملة الكريمة تعود على أولئك الكافرين الذين ينفقون أموالهم مقرونة بالوجوه المانعة من قبولها.
وفى هذه الآية الكريمة تشبيه بليغ، فقد شبه - سبحانه - حال ما ينفقه الكفار فى الدنيا - على سبيل القربة أو المفاخرة - شبه ذلك فى ضياعه وذهابه وقت الحاجة إليه فى الآخرة من غير أن يعود عليهم بفائدة، بحال زرع لقوم ظالمين، أصابته ريح مهلكة فاستأصلته، ولم ينتفع أصحابه منه بشىء، وهم أحوج ما يكونون إليه.
قال صاحب الانتصاف: أصل الكلام - والله أعلم - مثل ما ينفقون فى هذه الحياة الدنيا، كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم، فأصابته ريح فيها صر فأهلكته.
ولكن خولف هذا النظم فى المثل المذكور لفائدة جليلة. وهى تقديم ما هو أهم لأن الريح التى هى مثل العذاب، ذكرها فى سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث.
فقدمت عناية بذكرها، واعتماداً على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه ومثل هذا فى تحويل النظم لمثل هذه الفائدة قوله - تعالى -:
{ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } ومثله - أيضا -. اعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه. والأصل أن تذكر إحداهما الأخرى وإن ضلت. وأن أدعم بها الحائط إذا مال، وأمثال ذلك كثيرة".
وبعد أن بين - سبحانه - سوء عاقبة الكافرين أكمل بيان وأحكمه، حذر المؤمنين من أهل الكتاب ومن على شاكلتهم ممن لا يريدون للإِسلام إلا الشرور والمضار فقال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ... }.