خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٢١
إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٢٢
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢٣
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ
١٢٤
بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ
١٢٥
وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١٢٦
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ
١٢٧
لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
١٢٨
وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٢٩
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ففى هذه الآيات الكريمة التى بدأت السورة بها حديثها عن غزوة أحد، تذكير للمؤمنين بما وقع فيها حتى يعتبروا ويعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا.
وقوله - تعالى -: { غَدَوْتَ } من الغدو وهو الخروج فى أول النهار، يقال: غدا يغدو من باب سما يسمو.
و { مِنْ } فى قوله: { مِنْ أَهْلِكَ } للابتداء. والمراد بأهله، زوجه عائشة - رضى الله عنها - فقد كان خروجه لغزوة أحد من بيتها. والكلام على حذف مضاف يدل عليه فعل { غَدَوْتَ } والتقدير: من بيت أهلك.
وقوله: { تُبَوِّىءُ } أصله من التبوء وهو اتخاذ المنزل. يقال: بوأته، وبوأت له منزلا، أى: أنزلته فيه. والمراد به هنا تنظيم المؤمنين وتسويتهم وتهيئتهم للقتال، حتى يكونوا صفا واحداً كأنهم بنيان مرصوص.
والعامل فى { وَإِذْ } فعل مضمر تقديره، واذكر.
والمعنى: واذكر لهم يا محمد ليعتبروا ويتعظوا وقت خروجك مبكراً من حجرة زوجتك عائشة إلى غزوة أحد.
وقوله: { تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أى تنزلهم وتسوى لهم بالتنظيم والترتيب مواطن وأماكن للقتال، بحيث يكونون فى أحسن حال، وأكمل استعداد لملاقاة أعدائهم.
قال الجمل: "ويستعمل الفعل { غَدَوْتَ } بمعنى صار عند بعضهم، فيكون ناقصاً يرفع الاسم وينصب الخبر... وهذا المعنى ممكن هنا، فالمعنى عليه، وإذ غدوت أى صرت تبوىء المؤمنين أى تنزلهم فى منازل للقتال، وهذا أظهر من الآخر، لأن المذكور فى القصة أنه سار من عند أهله بعد صلاة الجمعة وبات فى شعب أحد، وأصبح ينزل أصحابه فى منازل القتال ويدبر لهم أمر الحرب".
فالجملة الكريمة تشير إلى ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم مع أصحابه قبل أن تبدأ المعركة، فقد اهتم بتنظيم صفوفهم، وبرسم الخطة الحكيمة التى تكفل لهم النصر، وأمر الجيش كله ألا يتحرك للقتال إلا عندما يأذن له بذلك، ولقد حدث أن بعض المسلمين من الأنصار استشرف للقتال وتمناه عندما رأى قريشا قد سرحت خيولها وإبلها فى زروع المسلمين، وقال للنبى صلى الله عليه وسلم "أترعى زروع بنى قيلة - يعنى الأنصار - ولما تضارب"؟؟ إلا أن النبى صلى الله عليه وسلم نهاهم عن القتال إلا بعد إذنه.
وجملة { تُبَوِّىءُ } حال من فاعل "غدوت".
والفعل { تُبَوِّىءُ } يحتاج لمفعولين:
أولهما: قوله: { ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
وثانيهما: قوله: { مَقَاعِدَ } وقوله: { لِلْقِتَالِ } متعلق بقوله: { تُبَوِّىءُ }.
والمراد بقوله: { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أى مراكز وأماكن ومواقف للقتال بحيث يعرف كل مؤمن مكانه وموقفه فينقض منه على خصمة إلا أن القرآن الكريم عبر عن هذه الأماكن والمراكز والمواقف بالمقاعد. للإِشارة إلى وجوب الثبات فيها كما يثبت القاعد فى مكانه، وأن عليهم ألا يبرحوا أماكنهم إلا بإذن قائدهم صلى الله عليه وسلم.
وقد ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لبيان أنه مطلع على كل شىء، وعلى ما كان يجرى بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه من مشاورات ومناقشات.
فهو - سبحانه - { سَمِيعٌ } لما نطقت به ألسنتهم { عَلِيمٌ } بما تخفيه صدورهم، وسيجازى المؤمنين الصادقين بما يستحقون من ثواب، وسيجازى غيرهم من ضعاف الإِيمان والمنافقين بما يستحقون من عقاب.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة غرس الرهبة فى قلوب المؤمنين، حتى لا يعودوا إلى مثل ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد. حيث خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر - سبحانه - ما راود قلوب بعض المؤمنين من ضعف وفشل، عندما رأوا زعيم المنافقين عبد الله بن أبىّ ينخذل بثلث الجيش فقال - تعالى -: { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ }.
الهم: هو حديث النفس واتجاهها إلى شىء معين دون أن تأخذ فى تنفيذه فإذا أخذت فى تنفيذه صار إرادة وعزماً وتصميما.
وتفشلا: من الفشل والجبن والخور والضعف. يقال: فشل يفشل فشلا فهو فشل أى جبان ضعيف القلب.
أى: واذكر لهم وقت أن همت طائفتان منكم يا معشر المؤمنين أن تفشلا وتضعفا وتجبنا عن القتال فى وقت الشديدة والكريهة.
وقوله: { وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا } أى ناصرهما ويتولى أمرهما.
وهاتان الطائفتان هما بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانتا جناحى الجيش فى يوم أحد.
روى الشيخان عن جابر - رضى الله عنه - قال: فينا نزلت { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا } قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل لقوله - تعالى - { وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا }.
أى: لفوط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله - تعالى - عليهم، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية. وأن ما حدثوا به أنفسهم لم يخرجهم عن ولايته سبحانه لأنهم لم ينساقوا وراء هذا الهم الباطل، بل سرعان ما عادوا إلى يقينهم وإيمانهم الصادق، وطاعتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم.
ولذا قال صاحب الكشاف: والطائفتان حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس هموا باتباع عبد الله بن أبى عندما انخذل بثلث الناس وقال: يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا! فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس قال: أضمروا أن يرجعوا، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا. والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس. كما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر، ويوطنها على احتمال المكروه. لو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية".
وقد ختم - سبحانه - الآية بدعوة المؤمنين إلى التوكل عليه وحده فقال: { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ }.
والتوكل: تفعل من وكل فلان أمره إلى فلان. إذا اعتمد فى كفايته عليه ولم يتوله بنفسه. والتوكل الحقيقى إنما يكون بعد الأخذ بالأسباب التى شرعها الله - تعالى - ثم بعد ذلك يترك الإِنسان النتائج للخالق - عز وجل - يسيرها كيف يشاء. والجملة الكريمة أفادت قصر التوكل على الله وحده، كما يؤذن به تقديم الجار والمجرور.
أى وعلى الله وحده لا على غيره فليكل المؤمنون أمورهم، بعد اتخاذ الأسباب التى أمرهم - سبحانه - باتخاذها، فإنهم متى فعلوا ذلك تولاهم - سبحانه - بتأييده ورعايته.
ثم ذكرهم - سبحانه - بفضله عليهم وتأييده لهم يوم غزوة بدر فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ }.
وبدر: اسم لماء بين مكة والمدينة، التقى عنده المسلمون والمشركون من قريش فى السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة، وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وكان عدد المشركين قريبا من ألف رجل، ومع ذلك كان النصر حليفا للمسلمين. والأذلة - كما يقول الزمخشرى: جمع قلة، وجاء بجمع القلة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلين. وذلتهم: ما كان بهم من ضعف الحال، وقلة السلاح والمال والمركوب، وذلك أنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد، وما كان معهم إلا فرس واحد. وقلتهم: أنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عدوهم فى حال كثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس، ومعهم الشكة والشوكة - أى السلاح والقوة -.
وإذن فليس المراد بكونهم أذلة أنهم كانوا أضعاف النفوس. أو كانوا راضين بالهوان. وإنما المراد أنهم كانوا قليلى العدد والعدد، فقراء فى الأموال وفى وسائل القتال.
وفى هذا التذكير لهم بما حدث فى غزوة بدر، تنبيه لهم إلى وجوب تفويض أمورهم إلى خالقهم، وإلى أن القلة المؤمنة التقية الصابرة كثيراً ما تنتصر على الكثرة الفاسقة الظالمة، ولذا فقد ختم - سبحانه - بقوله: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
أى فاتقوا الله بأن تستشعروا هيبته، وتجتنبوا ما نهاكم عنه، وتفعلوا ما أمركم به لعلكم بذلك تكونون قد قمتم بواجب شكر ما أنعم به عليكم من نعم لا تحصى.
ثم ذكرهم - سبحانه - بما كان يوجهه إليهم النبى صلى الله عليه وسلم من توجيهات سامية، وإرشادات نافعة فقال - تعالى -: { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ }.
قال ابن كثير: اختلف المفسرون فى هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين؟ أحدهما: أن قوله - تعالى -: { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } متعلق بقوله { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ }، وهذا عن الحسن والشعبى والربيع بن أنس وغيرهم. فعن الحسن فى قوله: { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ }... إلخ قال: هذا يوم بدر. وعن الشعبى: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يريد أن يمد المشركين - برجال وسلاح - فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله - تعالى -: { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ } إلى قوله: { مُسَوِّمِينَ } قال: فبلغت كرزاً الهزيمة فلم يمد المشركين.
وقال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف.
فإن قيل فكيف الجمع بين هذه الآية على هذا القول وبين قوله فى قصة بدر
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ.. } إلى قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فالجواب: أن التنصيص على الألف ها هنا لا ينافى الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله - تعالى -: { مُرْدِفِينَ } بمعنى غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم.
وهذا السياق شبيه بالسياق فى سورة آل عمران، فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان ببدر.
والقول الثانى يرى أصحابه أن هذا الوعد متعلق بقوله: { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } وذلك يوم أحد. وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك وغيرهم. لكن قالوا: لم يحصل الإِمداد بالخمسة الآلاف، لأن المسلمين يومئذ فروا. وزاد عكرمة: ولا بالثلاثة الآلاف لقوله - تعالى -: { بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } فلم يصبروا، بل فروا فلم يمدوا بملك واحد. ويبدو من كلام ابن كثير أنه يميل إلى أن هذا الوعد كان يوم بدر، فقد قال: فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر..
وهذا ما تسكن إليه النفس: لأن الوعد بنصرة الملائكة للمؤمنين كان يوم بدر لا يوم أحد، فقد كانوا فى بدر قليلى العدد والعدد، وكانت غزوة بدر أول معركة حربية كبرى يلتقى فيها المؤمنون بالكافرين، ولأن سياق الآيات يشعر بأن الله - تعالى - قد ساقها ليستحضر فى أذهان المؤمنين مشهد غزوة بدر وما تم فيها من نصر بسبب صدق إيمانهم، وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم حتى لا يعودوا إلى ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد من مخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا الرأى يكون قوله - تعالى -: { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } متعلقا بقوله: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ } أى: اذكروا أيها المؤمنون أن الله - تعالى - قد نصركم ببدر وأنتم قلة فى العدد والعدة، وكان رسولكم صلى الله عليه وسلم فى ذلك الوقت يقول لكم على سبيل التثبيت والتقوية: { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ } أى منزلين من السماء لنصرتكم وتقويتكم ودحر أعدائكم.
أما على الرأى القائل بأن هذا الوعد كان غزوة أحد، فيكون قوله - تعالى -: { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } إلخ. بدل من قوله - تعالى - قبل ذلك: { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ }.
قال الآلوسى: "والهمزة فى قوله: { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } لإِنكار ألا يكفيهم ذلك. وأتى بلن لتأكيد النفى، وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لقلة عددهم وعدتهم. وفى التعبير بعنوان الربوبية مع الإِضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من اللطف وتقوية الإِنكار. وقوله: { أَن يُمِدَّكُمْ } فى تأويل المصدر فاعل { يَكْفِيكُمْ }. و { مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ } بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه. و { مُنزَلِينَ } صفة لثلاثة آلاف، وقيل حال من الملائكة" وقوله - تعالى -: { بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } إما من تتمة مقوله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، وإما ابتداء خطاب من الله - تعالى - تأييداً لقول نبيه صلى الله عليه وسلم وزيادة على ما وعدهم تكرما وفضلا.
وقوله: { بَلَىۤ } إيجاب لما بعد "لن" أى، بل يكفيكم الإِمداد بثلاثة آلاف. ولكنه - سبحانه - يعدكم بأنكم { إِن تَصْبِرُواْ } على قتال أعدائكم وعلى كل ما أمركم الله بالصبر عليه، وتتقوا. أى وتتقوا الله وتخشوه وتجتنبوا معاصيه { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا } أى ويأتوكم المشركون مسرعين ليحاربوكم، وقد أعددتم أنفسكم لقتالهم، إذا فعلتم ذلك.
{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ }، أى يمددكم ربكم بفضله ورعايته لكم بخمسة آلاف من الملائكة معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامات مخصوصة.
وقرىء { مُسَوِّمِينَ } - بالفتح - أى معلمين من جهته - تعالى - بعلامات القتال. من التسويم وهو إظهار علامة الشىء.
قال صاحب الكشاف: وقوله { مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا } من قولك: قفل من غزوته وخرج من فوره إلى غزوة أخرى، وجاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول أبى حنيفة -رحمه الله -: الأمر على الفور لا على التراخى، وهو مصدر من فارت القدر إذا غلت، فاستعير للسرعة، ثم سميت به الحالة التى لا ريث فيها. فقيل: خرج من فوره كما تقول: خرج من ساعته. والمعنى: أنهم يأتونكم من ساعتهم هذه".
هذا، وقد تكلم العلماء هنا عن أمرين يتعلقان بهذه الآيات.
أما الأمر الأول فهو: هل أمد الله - تعالى - المؤمنين فى غزوة بدر بهذا العدد الذى ذكر فى هذه الآية؟.
والجواب على ذلك أن بعض المفسرين يرى أن الله - تعالى - قد أمد المؤمنين فى بدر بخمسة آلاف من الملائكة، لأنهم صبروا واتقوا وأتاهم المشركون من مكة فوراً حين استنفرهم أبو سفيان لإِنقاذ العير، فكان المدد خمسة آلاف على سبيل التدريج، أى أمدوا أولا بألف، ثم صاروا ألفين، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف لا غير، وإلى هذا الرأى ذهب الحسن وقتادة.
وقال الشعبى: إن المدد لم يزد على الألف، لأن المسلمين كان قد بلغهم أن كرز بن جابر المحاربى يريد أن يمد المشركين بسلاح وجند، فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله - تعالى -: { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ } إلى قوله { مُسَوِّمِينَ } فبلغ كرزا الهزيمة فرجع ولم يمدهم، فلم يمد الله المسلمين بخمسة الآلاف أيضاً. أما ابن جرير فقد اختار أن المسلمين وعدوا بالمدد بعد الألف، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بما زاد على ذلك، ولا على أنهم لم يمدوا به، ولا يثبت شىء من ذلك إلا بنص. فقد قال -رحمه الله -:
"وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين: { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ } فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف خمسة آلاف، إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف، ولا بالخمسة الآلاف؛ ولا على أنهم لم يمدوا بهم.
وقد يجوز أن يكون الله - تعالى - أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم، وقد يجوز أن يكون لم يمدهم، على نحو الذى ذكره من أنكر ذلك وغير جائز أن يقال فى ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر به كذلك فنسلم لأحد الفريقين قوله. غير أن فى القرآن دلالة على أنهم أمدوا يوم بدر بألف. وذلك قوله - تعالى -:
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ } أما فى أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها فى أنهم أمدوا، ذلك لأنهم لو أمدوا لم يهزموا ونيل منهم ما نيل منهم".
والذى نراه أن رأى ابن جرير هو أقرب الآراء إلى الصواب.
وأما الأمر الثانى فهو: إذا كان الله - تعالى - قد أمد المؤمنين بالملائكة فى بدر، فهل كانت وظيفتهم القتال مع المؤمنين أو كانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين فقط؟ والجواب على ذلك أن كثيرا من العلماء يرى أن الملائكة قد قاتلت مع المؤمنين.
قال القرطبى: تظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت.
ومن ذلك قول أبى أسيد مالك بن ربيعة وكان قد شهد بدرا: لو كنت معكم الآن ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشعب - أى الطريق فى الجبل - الذى خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أمترى".
وفى صحيح مسلم عن ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يوم بدر يشتد فى أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: "أقدم حيزوم" فنظر المسلم إلى المشرك أمامه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه. فجاء المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بذلك فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة.
ويرى فريق آخر من العلماء أن الملائكة ما قاتلت مع المسلمين يوم بدر، وإنما أمد الله المؤمنين بالملائكة لتثبيت نفوسهم، وتقوية قلوبهم، ولتخذيل المشركين، وإلقاء الرعب فى قلوبهم، فقد قال - تعالى -
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } ويبدو أن الإِمام ابن جرير الطبرى كان يميل إلى هذا الرأى فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أى: قووا عزائمهم، وصححوا نياتهم فى قتال عدوهم من المشركين، وقيل: كان ذلك بمعونتهم إياهم بقتال أعدائهم".
وقد حكى الألوسى عن أبى بكر الأصم أنه أنكر قتال الملائكة مع المؤمنين فى بدر وأنه قال: "إن الملك الواحد يكفى فى إهلاك سائر الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط وأيضا أى فائدة فى إرسال هذا الجمع من الملائكة معه وهو القوى الأمين. وأيضا فإن أكابر الكفار الذين قتلوا فى بدر عرف من قتلهم من المسلمين".
ولم يرتض الآلوسى ما قاله الأصم بل قال فى الرد عليه: ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة، ولا بمن يعترف بأنه - سبحانه - قادر على ما يشاء فعال لما يريد، فما كان يليق بالأصم إلا أن يكون أخرس عن ذلك.
ثم قال الآلوسى فالواجب التسليم بكل ممكن جاء به النبى صلى الله عليه وسلم وتفويض ذلك وكيفيته إلى الله - تعالى -.
ونرى من كلام الآلوسى أنه يرجح الرأى القائل بأن الملائكة قد قاتلت مع المؤمنين فى غزوة بدر.
ونحن لا نرى مانعا من اشتراك الملائكة مع المؤمنين فى بدر لأن النصوص الواردة عن النبى صلى الله عليه وسلم صريحة فى ذلك، ولسنا مع الذين يضعفون من شأن الأحاديث الصحيحة أو يؤولونها تأويلا لا يتفق مع العقل السليم.
ولقد سئل الإِمام السبكى: ما الحكمة فى قتال الملائكة مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه؟.
فأجاب: بأن ذلك لإِرادة أن يكون الفضل للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب التى أجراها - سبحانه - فى عباده.
ثم تابع القرآن حديثه عن مظاهر فضل الله عليهم ورعايته لهم فقال - تعالى - { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ }.
أى وما جعل الله - تعالى - الإِمداد الذى أمدكم به إلا بشارة لقلوبكم، وتطمينا لنفوسكم فالضمير فى { جَعَلَهُ } يعود إلى الإِمداد المفهوم وهو الفاعل المقدر المدلول عليه بقوله "أن يمدكم" فكأنه قيل: ألن يكفيكم إمداد الله تعالى لكم بما ذكر، وما جعل الله - تعالى - ذلك الإِمداد إلا بشرى لكم، ولتسكن قلوبكم به فلا تخافوا كثرة العدو، بل تقدمون عليه بعزائم ثابتة، ونفوس قوية.
وقوله { بُشْرَىٰ } مفعول لأجله. والاستثناء مفرغ من أعم العلل، أى ما جعل الله إمدادكم بإنزال الملائكة لشىء من الأشياء إلا للبشارة لكم بأنكم ستنتصرون على أعدائكم.
وقوله { وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } معطوف على { بُشْرَىٰ } باعتبار موضعه أى ما جعل إمدادكم إلا للبشرى والطمأنينة.
وإنما جر المصدر المؤول من قوله { وَلِتَطْمَئِنَّ } باللام لاختلال شرط من شروط نصبه على أنه مفعول لأجله، وهذا الشرط هو عدم اتحاد الفاعل. فإن فاعل الجعل هو الله - تعالى -، وفاعل الاطمئنان القلوب، فلذلك نصب المعطوف عليه وهو { بُشْرَىٰ } لاستكمال شروطه. وجر المعطوف وهو { وَلِتَطْمَئِنَّ } لاختلال شرط من شروطه.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ }.
أى ليس النصر إلا من الله وحده فهو العزيز الذى لا يغالب فى أمره. الحكيم الذى يفعل كل ما يريد فعله حسبما تقتضيه إرادته.
فالجملة الكريمة المقصود منها غرس الاعتماد على الله فى قلوب المؤمنين وتفويض أمورهم إليه، وبيان أن النصر إنما هو من الله وحده، وليس من الملائكة أو من غيرهم، لأن الملائكة أو غيرهم أسباب عادية بمعزل عن التأثير، إلا إذا أراد الله ذلك. فهو الخالق للأسباب والمسببات.
ولقد حرص القرآن فى كثير من آياته على تثبيت هذا المعنى فى قلوب المؤمنين حتى لا يعتمدوا على الأسباب والوسائل التى بين أيديهم، ويغتروا بها، دون أن يلتفتوا إلى قدرة خالق الأسباب والوسائل، فإنهم إذا اغتروا بالأسباب والوسائل، ونسوا خالقها أتاهم الفشل من حيث لم يحتسبوا وكان أمرهم فرطاً.
والعاقل من الناس هو الذى يباشر الأسباب التى شرعها الله - تعالى - بتدبر واعتبار بحيث يوقن أن من ورائها خالقا لها، يجب أن يستجيب له فى كل ما أمر أو نهى، وأن يعتمد عليه فى كل شئونه وأحواله.
ثم بين - سبحانه - الحكمة من هذا النصر والثمرات التى ترتبت عليه فقال - تعالى -: { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }.
وقوله { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ } متعلق بقوله { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } وما بينهما تحقيق لحقيته، وبيان لكيفية وقوعه.
والقطع - كما يقول الراغب - فصل الشىء مدركا بالبصر كالأجسام، أو مدركا بالبصيرة كالأشياء المعقولة والمراد به هنا الإِهلاك والقتل.
والطرف - بفتح الراء - جانب الشىء أو الجزء المتطرف منه كاليدين والرجلين والرأس. والمراد به هنا طائفة من المشركين.
والكبت فى اللغة: صرع الشىء على وجهه. يقال: كبته فانكبت، والمراد به هنا الإِخزاء والإِذلال وشدة الغيظ بسبب ما أصابهم من هزيمة.
وخائبين من الخيبة وهى انقطاع الأمل فى الحصول على الشىء. يقال: خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب.
والمعنى: ولقد نصركم الله - تعالى - ببدر وأنتم فى قلة من العدد والعدة { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } أى ليهلك طائفة من الذين كفروا ويستأصلهم بالقتل. وينقص من أرضهم بالفتح، ومن سلطانهم بالقهر، ومن أموالهم بالغنيمة { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أى يذلهم ويخزيهم ويغيظهم غيظا شديدا بسبب ما نزل بهم من هزيمة، حتى يخبو صوت الكفر، ويعلو صوت الإِيمان:
وقوله { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } أى فينهزموا ويرتدوا على أدبارهم منقطعى الآمال، غير ظافرين بمبتغاهم.
قال الآلوسى: "ولم يعبر عن تلك الطائفة بالوسط بل بالطرف فقال { لِيَقْطَعَ طَرَفاً } لأن أطراف الشىء يتوصل بها إلى توهينه وإزالته. وقيل: لأن الطرف أقرب إلى المؤمنين فهو كقوله - تعالى -
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ } وقيل للإِشارة إلى أنهم كانوا أشرافا، ومنه قولهم: هو من أطراف العرب أى من أشرافهم، ولعل إطلاق الأطراف على الأشراف لتقدمهم فى السير.. فالمعنى ليهلك صناديد الذين كفروا ورؤساءهم المتقدمين فيهم بالقتل والأسر. وقد وقع ذلك فى بدر فقد قتل المؤمنون من المشركين سبعين وأسروا سبعين".
و { أَوْ } فى قوله { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } للتنويع. لأن القطع والكبت قد وقعا للمشركين، فهى مانعة خلو، أى لا يخلو أمر الكافرين من الهلاك والكبت.
وعبر عن عودتهم خائبين بقوله { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } للإِشارة إلى أن مقاصدهم وأهدافهم قد انقلبت، فقد كانوا يقصدون إطفاء نور الإِسلام فخاب قصدهم، وطاش سهمهم، وعادوا وقد فقدوا الكثيرين من وجوههم وصناديدهم، وتركوا خلفهم فى الأسر العشرات من رجالهم.
أما الإِسلام فقد ازداد نوره تألقا، وازداد أتباعه إيمانا على إيمانهم. ورزقهم الله - تعالى - نصره المبين.
وقوله { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ } أى: ليس لك من أمر الناس شىء، وإنما أمرهم إلى الله وحده، أما أنت فوظيفتك التبليغ والإِرشاد ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وقوله { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ }. أى مما هم فيه من الكفر فيهديهم إلى الإِسلام بعد كفرهم وظلالهم.
وقوله { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أى أو يعذبهم فى الدنيا والآخرة على كفرهم واجتراحهم للسيئات، فإنهم بذلك يكونون مستحقين للعقاب، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فهم الذين صموا آذانهم عن الحق واستحبوا العمى على الهدى.
وعلى هذا يكون قوله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ } جملة معترضة بين المتعاطفات ويكون تقدير الآيتين هكذا:
ولقد نصركم الله ببدر ليهلك طائفة من الذين كفروا بالقتل والأسر، أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم فى الدنيا والآخرة بسبب ظلمهم، وليس لك من أمرهم شىء، إنما أنت رسول من عند الله - تعالى - مأمور بإنذارهم وجهادهم.
وقد رجح هذا الوجه صاحب الكشاف فقال: وقوله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ } اعتراض. والمعنى أن الله مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شىء إنما أنت عبد مبعوث لإِنذارهم ومجاهدتهم..
وقيل إن { أَوْ } بمعنى "إلا أن" كقولك: لألزمنك أو تقضينى حقى، على معنى ليس لك من أمرهم شىء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم، أو يعذبهم فتتشفى منهم.
فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد بينتا أحوال الكافرين فى غزوة بدر أكمل بيان، لأن فريقاً منهم قد قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين، وفريقاً كبتوا وذلوا، وفريقا من الله عليهم بالإِسلام فأسلموا، وفريقاً عذبوا بالموت على الكفر أو عذبوا فى الدنيا بالذل والصغار.
و "أو" التى جىء بها بين هذه الجمل للتقسيم.
هذا، وقد روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ } روايات منها ما أخرجه مسلم عن أنس
"أن النبى صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج فى وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم - عز وجل - فأنزل الله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }" .
ومنها ما أخرجه البخارى عن أبى هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده: اللهم ربنا ولك الحمد. اللهم أنج الوليد بن الوليد. وسلمة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف يجهر بذلك. وكان يقول فى بعض صلاته فى صلاة الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من العرب حتى أنزل الله - تعالى -: { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ }" .
ثم ختم - سبحانه - هذا التذكير بما جرى فى غزوة بدر ببيان قدرته الشاملة، وإرادته النافذة فقال - سبحانه -: { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
أى لله جميع ما فى السماوات وما فى الأرض ملكا وتصرفا وتدبيرا لا ينازعه فى ذلك منازع ولا يعارضه معارض، وهو - سبحانه - يغفر لمن يشاء أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه وكرما، ويعذب من يشاء أن يعذبه عدلا منه { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } أى كثير المغفرة يحبها ويريدها، { رَّحِيمٌ } أى واسع الرحمة بعباده، لا يؤاخذهم بكل ما اكتسبوه من ذنوب بل يعفو عن كثير منها.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد افتتحت الحديث عن غزوة أحد باستحضار بعض أحداثها، وبتذكير المؤمنين بما همّ به بعضهم قبل أن تبدأ المعركة، ثم بتذكيرهم بمعركة بدر وما تم لهم فيها من نصر مؤزر منحه الله لهم مع قلتهم وضعفهم، حتى يعرفوا أن النصر ليس بكثرة العدد والعدد وإنما النصر يتأتى مع صفاء النفوس، ونقاء القلوب، ومضاء العزائم والطاعة التامة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يعودوا إلى ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن طمع فى زينة الحياة الدنيا.
وبعد هذا التذكير الحكيم والتوجيه السديد، وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن تعاطى الربا، وأمرهم بتقوى الله وبطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وبالمسارعة إلى الأعمال الصالحة التى توصلهم إلى مغفرته ورضوانه فقال - تعالى -: { يَآ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ... }.