خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَـٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ
٤٢
يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ
٤٣
ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
٤٤
إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
٤٥
وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٤٦
قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
٤٧
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى - { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ.. } إلخ معطوف على قوله: { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } ).. الخ عطف القصة على القصة، فإن الله - تعالى - بعد أن ذكر ما قالته امرأة عمران عندما أحست بالحمل. وبعد ولادتها لمريم، وما كان من شأنها وتربيتها وكفالتها بعد أن ذكر ذلك، بين - سبحانه - ما كان من أمر مريم بعد أن بلغت رشدها واكتمل تكوينها، وجاء بقصة زكريا بين قصة الأم وابنتها لما بينهما من مناسبة إذ أن دعاء زكريا ربه كان سببه ما رآه من إكرام الله - سبحانه - لمريم ولأن الكل لبيان اصطفاء آل عمران.
والمعنى، واذكر يا محمد للناس وقت أن قالت الملائكة لمريم - التى تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا - يا مريم { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاكِ } أى اختارك واجتباك لطاعته، وقبلك لخدمة بيته { وَطَهَّرَكِ } من الأدناس والأقذار، ومن كل ما يتنافى مع الخلق الحميد، والطبع السليم { وَٱصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَالَمِينَ } بأن وهب لك عيسى من غير أب دون أن يمسسك بشر. وجعلك أنت وهو آية للعالمين.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد مدح مريم مدحا عظيما بأن شهد لها بالاصطفاء والطهر والمحبة، وأكد هذا الخبر للاعتناء بشأنه، والتنويه بقدره.
قال الفخر الرازي ما ملخصه:
والاصطفاء الأول إشارة إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة فى أول عمرها بأن قبل الله - تعالى - تحريرها أى خدمتها لبيته، مع أنها أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإِناث، وبأن فرغها لعبادته وخصها فى هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة، وبأن كفاها أمر معيشتها فكان يأتيها رزقها من عند الله..
وأما الاصطفاء الثانى فالمراد به أنه - تعالى - وهب لها عيسى - عليه السلام من غير أب، وجعلها وابنها آية للعالمين".
ولا شك أن ولادتها لعيسى من غير أب ودون أن يمسها بشر، هو أمر اختصت به مريم ولم تشاركها فيه امرأة قط فى أى زمان أو مكان، فهى أفضل النساء فى هذه الحيثية.
أما من حيث قوة الإِيمان، وصلاح الأعمال فيجوز أن يحمل اصطفاؤها على نساء العالمين على معنى تفضيلها على عالمى زمانها من النساء وبعضهم يرى أفضليتها على جميع النساء فى سائر الأعصار.
هذا وقد أورد ابن كثير عددا من الأحاديث التى وردت فى فضل مريم وفى فضل غيرها من النساء، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن على بن أبى طالب أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد" وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون" وأخرج البخارى عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون. ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" .
وقول الملائكة لمريم إن الله اصطفاك وطهرك... إلخ الراجح أنهم قالوه لها مشافهة، لأن هذا ما يدل عليه ظاهر الآية، وإليه ذهب صاحب الكشاف فقد قال: روى أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا، أو إرهاصا لنبوة عيسى - عليه السلام -.
وقال الجمل قوله: { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ } أى مشافهة لها بالكلام، وهذا من باب التربية الروحية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها بعد التربية الجسمانية اللائقة بحال صغرها".
وقيل كأن خطابهم لها بالإِلهام أو بالرؤيا الصادقة فى النوم.
والأول أولى لأنه هو الظاهر من الآية، ولأنه الموافق لأقوال جمهور المفسرين، ولأنه جاء صريحا فى آيات أخرى أن الملك قد تمثل لها بشراً سويا وكلمها، وذلك فى قوله - تعالى - فى سورة مريم:
{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } قال الآلوسى: "واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم: لأن تكليم الملائكة يقتضيها ومنعها اللقانى وغيره من العلماء، لأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبى إجماعا، فقد جاء فى الحديث الشريف أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له فى الله، وأخبروه بأن الله يحبه كما أحب هو أخاه، ولم يقل أحد بنبوته - فكلام الملائكة لمريم لا يقتضى نبوتها وهو الصحيح".
ثم حكى القرآن أن الملائكة أمرت مريم بأن تكثر من عبادة الله - تعالى - ومن المداومة على طاعته شكراً له فقال - تعالى -:
{ يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ }.
القنوت. لزوم الطاعة والاستمرار عليها، مع استشعار الخشوع والخضوع لله رب العالمين.
أى: قالت الملائكة أيضاً لمريم: يا مريم أخلصى لله وحده وداومى عليها، وأكثرى من السجود لله ومن الركوع مع الراكعين، فإن ملازمة الطاعات والصلوات من شأنها أن تحفظ النعم وأن تزيد الإِنسان قربا وحبا من خالقه - عز وجل -.
فالآية الكريمة دعوة قوية من الله - تعالى - لمريم ولعباده جميعا بالمحافظة على العبادات ولا سيما الصلاة فى جماعة.
قال صاحب الكشاف: أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئة الصلاة وأركانها ثم قيل لها { وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } بمعنى ولتكن صلاتك مع المصلين أى فى الجماعة، أو انظمى نفسك فى جملة المصلين وكونى معهم فى عدادهم ولا تكونى فى عداد غيرهم.
فأنت ترى فى هاتين الآيتين أسمى ألوان المدح والتكريم والتهذيب لمريم البتول، فلقد أخبر - سبحانه - باصطفائها صغيرة وكبيرة، وبطهرها من كل سوء، والإِشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى، وذلك لما لا بس مولد عيسى - عليه السلام - من خوارق، هذه الخوارق جعلت اليهود يفترون الكذب على مريم، ويتهمونها زورا وبهتانا بما هى بريئة منه، ثم بعد ذلك يأمرها - سبحانه - بمداومة الطاعة والعبادة والخضوع لله رب العالمين.
وبذلك يتبين لكل ذى عقل سليم أن الإِسلام الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق، لأنه قد قال القول الحق فى شأن مريم وابنها عيسى - عليه السلام - أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد اختلفوا فى شأنهما اختلافا عظيما أدى بهم إلى الضلال والخسران.
ثم بين - سبحانه - أن ما جاء به القرآن فى شأن مريم - بل وفي كل شأن من الشئون - هو الحق الذى لا يحوم حوله باطل، وهو من أنباء الغيب التى لا يعلمها أحد سواه فقال - تعالى -:
{ ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ }.
واسم الإِشارة { ذٰلِكَ } يعود إلى ما تقدم الحديث عنه من قصة امرأة عمران وقصة زكريا وغير ذلك من الأخبار البديعة.
والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر العظيم الشأن.
والغيب: مصدر غاب، وهو الأمر المغيب المستور الذى لا يعلم إلا من قبل الله - تعالى -.
ونوحيه: من الإِيحاء وهو إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفى، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء وبمعنى الإِلهام
أى: ذلك القصص الحكيم الذى قصصناه عليك يا محمد، فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران وما قاله زكريا، وما قالته الملائكة لمريم وفيما يتعلق بغير ذلك من شئون ذلك القصص الحكيم هو من أنباء الغيب التى لا يعلمها أحد سوى الله - عز وجل - وقد أخبرناك بها لتكون دليلا على صدقك فيما تبلغه عن ربك ولتكون عبرة وذكرى لقوم يعقلون.
وقوله { ذٰلِكَ } مبتدأ وخبره قوله - تعالى - { مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ } والجملة مستأنفة لا محل لها من الإِعراب. وقوله { نُوحِيهِ إِلَيكَ } جملة مستقلة مبينة للأولى. والضمير فى { نُوحِيهِ } يعود إلى الغيب أى الأمر والشأن أنا نوحى إليك الغيب ونعلمك به، ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار.
ولذا قال - تعالى - { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } والأقلام جمع قلم وهى التى كانوا يكتبون بها التوراة، وقيل المراد بها السهام.
أى وما كنت - يا محمد - لديهم أى عندهم معاينا لفعلهم وما جرى من أمرهم فى شأن مريم، { إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } التى جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون فيما بينهم بسببها تنافسا فى كفالتها.
وقد سبق أن ذكرنا ما قاله صاحب الكشاف من أن مريم بعد أن ولدتها أمها خرجت بها إلى بيت المقدس فوضعتها عند الأحبار وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة!! فقالوا: هذه ابنة إمامنا عمران - وكان فى حياته يؤمهم فى الصلاة، فقال لهم زكريا: أدفعوها إلى فأنا أحق بها منكم فإن خالتها عندى - فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم، فتولى كفالتها زكريا - عليه السلام -. فالضمير فى قوله { لَدَيْهِمْ } يعود على المتنازعين فى كفالة مريم لأن السياق قد دل عليهم.
والمقصود من هذه الجملة الكريمة { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون } الخ تحقيق كون الإِخبار بما ذكر إنما هو عن وحى من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معاصرا لهؤلاء الذين تحدث القرآن عنهم. ولم يقرأ أخبارهم فى كتاب من الكتب، ومع ذلك فقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم بالحق الذى لا يستطيعون تكذيبه إلا على سبيل الحسد والجحود، فثبت أن القرآن من عند الله - تعالى -
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } }. ثم حكى - سبحانه - ما قالته الملائكة لمريم على سبيل تبشيرها بعيسى - عليه السلام - فقال - تعالى - { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ }.
وهذه الجملة الكريمة بدل اشتمال من جملة { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاكِ }.. الخ قالوا: ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جىء به تقريراً لما سبق؛ وتنبيها على استقلاله.
والظرف { إِذْ } معمول لمحذوف تقديره اذكر، أى اذكر وقت أن قالت الملائكة لمريم، يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه.
وقوله يبشرك { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } أى يبشرك بمولود يحصل بكلمة منه - سبحانه - وسمى هذا المولود كلمة لأنه وجد بكلمة كن فهو من باب إطلاق السبب على المسبب.
والمراد أنه وجد من غير واسطة أب، لأن غيره وإن وجد بتلك الكلمة لكنه بواسطة أب، أى أنه - سبحانه - إذا كان قد خلق الناس بطريق التناسل عن ذكر وأنثى وأخرج الأولاد من أصلاب الآباء، فإن عيسى - عليه السلام - لم يكن كذلك، بل خلقه الله - تعالى - خلقا آخر، خلقه { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } وهى "كن" فكان كما أراده الله و "من" فى قوله "منه" لابتداء الغاية والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة: أى بكلمة كائنة منه.
فالمراد بقوله "كلمة" أى يبشر بولد حى يسرى عليه حكم الأحياء اسمه المسيح عيسى ابن مريم وعلى هذا التأويل سار كثير من المفسرين.
ورجح ابن جرير أن معنى { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } ببشرى منه - سبحانه - فقد قال: وقوله "بكلمة منه" يعنى برسالة من الله وخير من عنده وهو من قول القائل: ألقى إلى فلان كلمة سرنى بها بمعنى أخبرنى خبرا فرحت به.. فتأويل الكلام: وما كنت يا محمد عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده، هى ولدك اسمه المسيح عيسى ابن مريم".
وعلى كلا التأويلين ففى التعبير عن عيسى - عليه السلام - بأنه كلمة من الله تكريم له وتشريف، وقوله { ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ } مبتدأ وخبر، والجملة نعت. والضمير فى قوله { ٱسْمُهُ } يعود إلى كلمة. وجاء مذكراً رعاية للمعنى لأننا سبق بينا أن المراد بها عند كثير من المفسرين الولد.
والمسيح: لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق، وأصله مشيحاً بالعبرانية ومعناه المبارك. وقد حكى الله - تعالى - أنه قال عن نفسه
{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } وقيل المسيح فعيل بمعنى فاعل، للمبالغة فى مسحه الأرض بالسياحة للعبادة: أو مسحه ذا العاهة ليبرأ. أو بمعنى مفعول أى ممسوح لأن الله مسحه بالطهر من الذنوب.
وعيسى: اسم لهذا الاسم الكريم، وهو اسم ينبىء عن البياض والصفاء والنقاء.
قال الراغب: عيسى اسم علم، وإذا جعل عربياً أمكن أن يكون من قولهم بعيراً عيسى وناقة عيساء وجمعها عيس وهى أبل بيض يعترى بياضها بعض الظلمة" أى فيها أغبرار قليل يعطى بياضها صفاء ونقاء وجمالا.
وابن مريم: هو كنيته، وهى للإِشارة إلى أن نسبه ثاتب لأمه لا لأحد سواها وليس ابنا لله - تعالى - كما قال الضالون.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قيل عيسى بن مريم والخطاب لمريم؟ قلت: لأن الأبناء ينسبون إلى الأباء لا إلى الأمهات، فأعلمت بنسبه إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه. وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين: فإن قلت لم ذكر ضمير الكلمة. قلت لأن المسمى بها مذكر. فإن قلت: لم قيل اسمه المسيح عيسى بن مريم وهذه ثلاثة أشياء: الاسم منها عيسى وأما المسيح والابن فلقب وصفة؟ قلت: الاسم المسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره، فكأنه قيل: الذى يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة".
والمعنى الإِجمالي للجملة الكريمة: اذكر يا محمد وقت أن قالت الملائكة لمريم: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه أى بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب، هذا المولود العجيب اسمه الذى يميزه لقبا المسيح ويميزه علماً عيسى ويميزه كنبة ابن مريم.
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد عرف هذا المولود العظيم بتعريف واحد جمع ثلاثة أمور كل واحد منها يشير إلى معنى كريم قد تحقق فى هذا النبى العظيم ومجموع هذه الأمور لا يشاركه فيها أحد من البشر، ثم بعد ذلك وصفه - سبحانه - بأربعة أوصاف تدل على فضله وعلو منزلته فقال - تعالى - { وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ }.
أما الصفة الأولى فهى قوله - تعالى -: { وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } أى ذا جاه وشرف ومنزلة عالية. يقال وجه الرجل يوجه - من باب ظرف - وجاهة فهو وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس. واشتقاقه من الوجه لأنه أشرف الأعضاء ولأنه هو الذى يواجه الإِنسان به غيره.
وعيسى عليه السلام، شهد الله تعالى له، - وكفى بالله شهيداً - شهد له بالوجاهة وسمو المنزلة فى الدنيا والآخرة لما له من آثار عظيمة فى هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ودعوتهم إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق، وإقامة التوراة بعد أن اختلفوا فيها.
والصفة الثانية من صفاته أنه { ٱلْمُقَرَّبِينَ } أى أنه من المقربين عند الله - تعالى - ويالها من صفة عظيمة هى منتهى ما تتطلع إليه النفوس وتهفو القلوب.
وأما الصفة الثالثة من صفات عيسى - عليه السلام - فهى قوله - تعالى - { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } وهذه الجملة معطوفة على قوله { وَجِيهاً } وعطف الفعل على الاسم لتأويله به جائز والتقدير وجيها ومكلما، والمهد اسم لمضجع الطفل أى المكان الذى يهيأ له وهو فى الرضاعة. والكهل: هو الشخص الذى اجتمعت قوته وكمل شبابه. وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوى وتم.
والمراد أن عيسى - عليه السلام - يكلم الناس فى حال كونه صغيراً قبل أوان الكلام، كما يكلمهم فى حال كهولته واكتمال شبابه، فهو - عليه السلام - يكلمهم بكلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالتى الطفولة والكهولة، وذلك إحدى معجزاته - عليه السلام - وقد حكى القرآن فى سورة مريم ما تكلم به عيسى - عليه السلام - وهو طفل صغير فقال - تعالى -:
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } أما الصفة الرابعة من صفاته - عليه السلام - فهى قوله - تعالى - { وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أى عباد الله الصالحين لحمل رسالته وتبليغها للناس. أو من الذين يصلحون ولا يفسدون ويطيعون الله - تعالى - ولا يعصونه، قالوا: ولا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا إذا كان فى جميع الأفعال والتروك مواظبا على المنهج الأصلح، وذلك يتناول جميع المقامات فى الدين والدنيا، فى أفعال القلوب وفى أفعال الجوارح، ولذا قال سليمان - عليه السلام - بعد النبوة { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } فلما عدد - سبحانه - صفات عيسى أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات".
تلك هى البشارات التى بشرت بها الملائكة مريم، وتلك هى بعض صفات مولودها فماذا كان موقفها من ذلك؟
لقد حكى القرآن أن موقفها كان يدل على بالغ عجبها، وشدة تأثرها فقال - تعالى - { قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ }.
أى: قالت مريم على سبيل التعجب والاستغراب: يا رب كيف يكون لى ولد والحال أنى لم يمسسنى بشر، أى لست بذات زوج، ولم يحصل منى قط ما يكون بين الرجل والمرأة مما يسبب عنه وجود الولد.
والجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا كان منها بعد أن قالت لها الملائكة ذلك؟ فكان الجواب: { قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ }...ألخ.
وصدرت إجابتها بالنداء لله - تعالى - للإِشعار بكمال تسليمها للقدرة الإِلهة وأن استغرابها وتعجبها إنما هو من الكيفية لا إنكارا لقدرة الله - تعالى - وجملة { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } حالية محققة لما مر ومقوية له.
والمسيس يحتمل أن يكون كناية عن المباشرة التى تقع بين الرجل والمرأة والتى يترتب عليها وجود النسل إذا شاء الله ذلك، ويحتمل أن يكون المراد به حقيقته وهو أنها لم يلمسها رجل، لأنها كانت معتكفة فى بيت الله ومنصرفة لعبادته، ولم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط. وبذلك ينتفى بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس، فموضع عجبها واستنكارها إنما هو وجود ولد منها مع أنها لم يمسسها بشر.
وهنا يحكى القرآن أن الله - تعالى - قد أزال عجبها واستنكارها بقوله: { قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ }.
أى قال الله - تعالى - لها بلا واسطة أو بواسطة ملائكته: كهذا الخلق الذى تجدينه، بأن يكون لك ولد من غير أن يمسسك بشر وهو إبداع، يخلق الله - تعالى - ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه.
وبعضهم يجعل الوقوف على "كذلك" فتكون خبرا لمبتدأ محذوف أى قال - سبحانه - فى إجابته على مريم: الأمر كذلك أى يأتى الولد منك على الحالة التى أنت عليها لأن الله - تعالى - يخلق ما يشاء أن يخلقه بدون احتياج إلى وجود الأسباب والمسببات لأنه هو خالقه وخالق كل شىء، ولا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء.
وصرح ها هنا بقوله { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ولم يقل "يفعل" كما فى قصة زكريا، لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسسها بشر أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ كبير، فكان الخلق المنبىء عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل.
ثم أكد - سبحانه - عظيم قدرته ونفاذ إرادته بقوله: { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }.
وقضى هنا بمعنى أراد، أى إذا أراد - سبحانه - شيئاً، فإنما يقول لهذا الشىء كن فيكون من غير تأخر ومن غير وجود أسباب، فهو كقوله - تعالى -
{ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } أى إنما نأمره مرة واحدة لا تثنية فيها فيكون ذلك الشىء سريعا كلمح البصر.
قال الآلوسى: وقوله { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } هذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته فى مراده بأمر المطاع للمطيع فى حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة، فالممثل الشىء المكون بسرعة من غير عمل وآلة، والممثل به أمر الآمر المطاع - المأمور المطيع على الفور، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه.
وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة، بأن يراد تعلق الكلام النفسى بالشىء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه.
وعلى كلا التقديرين فالمراد من هذا الجواب بيان أن الله - تعالى - لا يعجزه أن يخلق ولدا من غير أب، لأنه أمر ممكن فى نفسه فيصح أن يكون متعلق الإِرادة والقدرة.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حكت لنا بعض البشارات التى بشرت بها الملائكة مريم وبعض الصفات التى وصف الله - تعالى - بها عيسى، وبينت جانباً من مظاهر قدرة الله - تعالى - ونفاذ إرادته، وفى ذلك ما فيه من العظات والعبر لأولى الألباب.
ثم واصل القرآن حديثه عن صفات عيسى - عليه السلام - وعن معجزاته فقال - تعالى: { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَابَ... }.