خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ
٥٤
وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ
٥٥
وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٥٦
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
٥٧
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ
٥٨
كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٥٩
فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ
٦٠
-الروم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى ما ملخصه: قوله - تعالى - { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ.. } استدلال آخر على قدرته - تعالى - ومعنى { مِّن ضَعْفٍ } من نطفة ضعيفة، أو فى حال ضعف، وهو ما كانوا عليه فى الابتداء من الطفولة والصغر.. وقرأ الجمهور بضم الضاد، وقرأ عاصم وحمزة بفتحها، والضعف - بالضم والفتح - خلاف القوة، وقيل بالفتح فى الرأى، وبالضم فى الجسد...".
وقال - سبحانه -: { خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } ولم يقل خلقكم ضعافاً.. للإشعار بأن الضعف هو مادتهم الأولى التى تركب منها كيانهم، فهو شامل لتكوينهم الجسدى، والعقلى، والعطافى، والنفسى.. إلخ. أى: الله - تعالى - بقدرته، هو الذى خلقكم من ضعف ترون جانباً من مظاهره فى حالة طفولتكم وحداثة سنكم...
{ ثُمَّ جَعَلَ } - سبحانه - { مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } أى: ثم جعل لكم من بعد مرحلة الضعف مرحلة أخرى تتمثل فيها القوة بكل صورها الجسدية والعقلية والنفسية..
{ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } أى: ثم جعل من بعد مرحلة القوة، مرحلة ضعف آخر، تعقبه مرحلة أخرى أشد منه فى الضعف، وهى مرحلة الشيب والهرم والشيخوخة التى هى أرذل العمر، وفيها يصير الإِنسان أشبه ما يكون بالطفل الصغير فى كثير من أحواله..
{ يَخْلُقُ } - سبحانه - { مَا يَشَآءُ } خلقه { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ } بكل شئ { ٱلْقَدِيرُ } على كل شئ.
فأنت ترى أن هذه الآية قد جمعت مراحل حياة الإِنسان بصورها المختلفة.
ثم بين - سبحانه - ما يقوله المجرمون عندما يبعثون من قبورهم للحساب فقال: { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ }.
والمراد بالساعة: يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها تقوم فى آخر ساعة من عمر الدنيا، أو لأنها تقع بغتة، والمراد بقيامها: حصولها ووجودها، وقيام الخلائق فى ذلك الوقت للحساب أى: وحين تقوم الساعة؛ ويرى المجرمون أنفسهم وقد خرجوا من قبورهم للحساب بسرعة ودهشة، يقسمون بأنهم ما لبثوا فى قبورهم أو فى دنياهم، غير وقت قليل من الزمان.
قال ابن كثير: يخبر الله - تعالى - عن جهل الكفار فى الدنيا والآخرة، ففى الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأصنام، وفى الآخرة يكون منهم جهل عظيم - أيضاً - فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا فى الدنيا إلا ساعة واحدة. ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم.
وقوله: { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } تذييل قصد به بيان ما جبلوا عليه من كذب.
ويؤفكون من الافك بمعنى الكذب. يقال: أفك الرجل، إذا صرف عن الخير والصدق أى: مثل هذا الكذب الذى تفوهوا به فى الآخرة كانوا يفعلون فى الدنيا، فهم فى الدارين لا ينفكون عن الكذب وعن اختلاق الباطل.
ثم حكى - سبحانه - ما قاله أهل العلم والإِيمان فى الرد عليهم. فقال: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ }.
أى: وقال الذين أوتوا العلم والإِيمان من الملائكة والمؤمنين الصادقين فى الرد على هؤلاء المجرمين: لقد لبثتم فى علم الله وقضائه بعد مفارقتكم الدنيا إلى يوم البعث، أى: إلى الوقت الذى حدده - سبحانه - لبعثكم، والفاء فى قوله - تعالى -: { فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ } هى الفصيحة. اى: إن كنتم منكرين للبعث، فهذا يومه تشاهدونه بأعينكم. ولا تستطيعون إنكاره الآن كما كنتم تنكرونه فى الدنيا.
فالجملة الكريمة، المقصود بها توبيخهم وتأنيبهم على إنكارهم ليوم الحساب.
وقوله { وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } زيادة فى تقريعهم. أى: فهذا يوم البعث مائل أمامكم. ولكنكم كنتم فى الدنيا لا تعلمون أن حق وصدق. بل كنتم بسبب كفركم وعنادكم تستخفون به وبمن يحدثكم عنه، فاليوم تذوقون سوء عاقبة إنكاركم له، واستهزائكم به.
ولذا قال - سبحانه - بعد ذلك: { فَيَوْمَئِذٍ } أى: فيوم أن تقوم الساعة ويقف الناس للحساب. { لاَّ ينفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ } أى لا ينفعهم الاعتذار، ولا يفيدهم علمهم بأن الساعة حق. { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أى: ولا هم يقبل منهم الرجوع إلى الله - تعالى - بالتوبة والعمل الصالح.
قال الآلوسى: والاستعتاب: طلب العتبى، وهى الاسم من الإِعتاب، بمعنى إزالة العتب. أى: لا يطلب منهم إزالة عتب الله - تعالى - وغضبه عليهم، لأنهم قد حق عليهم العذاب..".
ثم بين - سبحانه - موقفهم من القرآن الكريم، وأنهم لو اتبعوا توجيهاته لنجوا من العذاب المهين، فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ.. }.
أى: وبالله لقد ضربنا للناس فى هذا القرآن العظيم، كل مثل حكيم، من شأنه أن يهدى القلوب إلى الحق، ويرشد النفوس إلى ما يسعدها...
{ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ } أى ولئن جئت - أيها الرسول - هؤلاء المشركين بآية بينة تدل على صدقك فيما تبلغه عن ربك.
{ لَّيَقُولَنَّ } على سبيل التطاول والتبجح { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } أى: ما أنتم إلا متبعون للباطل أيها المؤمنون بما يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم يعقب - سبحانه - على هذا التطاول والغرور بقوله: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }. والطبع: الختم على الشئ حتى لا يخرج منه ما هو بداخله. ولا يدخل فيه ما هو خارج عنه.
أى: مثل هذا الطبع العجيب، يطبع الله - تعالى على قلوب هؤلاء الذين لا يعلمون، ولا يعملون على إزالة جهلهم، لتوهمهم أنهم ليسوا بجهلاء، وهذا أسوأ أنواع الجهل، لأنه جهل مركب، إذ صاحبه يجهل أنه جاهل. فهو كما قال الشاعر:

قال حمار الحكيم يوما لو أنصفونى لكنت أركب
لأننى جاهل بسيط وصاحبى جاهل مركب

ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة، بأمر النبى صلى الله عليه وسلم بالصبر على هؤلاء الجاهلين، فقال: { فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ }.
أى: إذا كان الأمر كما وصفنا لك من أحوال هؤلاء المشركين، فاصبر على أذاهم، وعلى جهالاتهم، فإن وعد الله - تعالى - بنصرك عليهم حق لا شك فى ذلك.
{ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } أى: ولا يزعجنك ويحملنك على عدم الصبر، الذين لا يوقنون صحة ما تتلوا عليهم من آيات، ولا بما تدعوهم إليه من رشد وخير.
وهكذا ختمت السورة الكريمة بالوعد بالنصر، كما افتتحت بالوعد به، للمؤمنين الصادقين
{ { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } }. وبعد: فهذه هى سورة الروم، وهذا تفسير محرر لها، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه نافعاً لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.