خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ
٢٦
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ
٢٧
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٨
قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
٢٩
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَٱنتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ
٣٠
-السجدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والاستفهام فى قوله - تعالى -: { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا... } لإِنكار عدم اهتدائهم إلى ما ينفعهم مع وضوح أسباب هذا الاهتداء. والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام. والخطاب للمشركين وعلى رأسهم كفار مكة. و"كم" خبرية بمعنى كثير. فى محل نصب لأهلكنا.
والمعنى: أغفل هؤلاء المشركون عما أصاب الظالمين من قبلهم، ولم يتبين لهم - لانطماس بصائرهم - أننا قد أهلكنا كثيراً من أهل الأزمان السابقة من قبلهم، بسبب تكذيبهم لأنبيائهم، وإيثارهم الكفر على الإِيمان.
وقوله - تعالى - { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } حال من الضمير فى { لَهُمْ }، لتسجيل أقصى أنواع الجهالة والعناد عليهم. أى: أبلغ بهم الجهل والعناد أنهم لم يعتبروا بالقرون المهلكة من قبلهم، مع أنهم يمشون فى مساكن هؤلاء السابقين، ويمرون على ديارهم مصبحين وممسين، ويرون بأعينهم آثارهم الدارسة، وبيوتهم الخاوية على عروشها.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يزيد فى تبكيتهم وتقريعهم فقال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ }.
أى: إن فى ذلك الذى يرونه من مصارع الغابرين، وآثار الماضين، لآيات بينات، وعظات بليغات، فهلا تدبروا فى ذلك، واستمعوا إلى صوت الحق بتعقل وتفهم؟
فقوله - تعالى -: { أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } حض لهم على الاستماع إلى الآيات الدالة على سوء عاقبة الظالمين، بتدبر وتعقل واتعاظ، وتحول من الباطل إلى الحق، قبل أن يحل بهم ما حل بأهل الأزمنة الغابرة.
ثم نبههم - سبحانه - إلى نعمة من نعمه الكثيرة فقال: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } والأرض الجرز: هى الأرض اليابسة التى جرز نباتها وقطع، إما لعدم نزول الماء عليها، وإما لرعيه منها.
قال القرطبى ما ملخصه: والأرض الجرز هى التى جرز نباتها أى: قطع، إما لعدم الماء، وإما لأنه رعى وأزيل، ولا يقال للتى لا تنبت كالسباخ جرز.
وهو مشتق من قولهم: رجل جروز إذا كان لا يبقى شيئاً إلا أكله، وكذلك ناقة جروز: إذا كانت تأكل كل شئ تجده، وسيف جراز، أى: قاطع...".
أى: أعموا ولم يشاهدوا بأعينهم { أَنَّا نَسُوقُ } بقدرتنا ورحمتنا { ٱلْمَآءَ } الذى تحمله السحب { إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ } أى: اليابسة الخالية من النبات، فينزل عليها.
{ فَنُخْرِجُ بِهِ } أى: فنخرج بهذا الماء النازل على الأرض القاحلة { زَرْعاً } كثيراً نافعاً { تَأْكُلُ مِنْهُ } أى: من هذا الزرع { أَنْعَامُهُمْ } أى: تأكل منه ما يصلح لأكلها كالأوراق والأغصان وما يشبه ذلك.
وقوله { وَأَنفُسُهُمْ } معطوف على أنعامهم. أى: تأكل أنعامهم من الزرع ما يناسبها، ويأكل منه الناس ما يناسبهم كالبقول والحبوب.
وقدم - سبحانه - الأنعام على بنى آدم للترقى من الأدنى إلى الأشرف.
وقوله - تعالى - { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } حض لهم على التأميل فى هذه النعم، والحرص على شكر المنعم عليها، وإخلاص العبادة له.
ثم حكى - سبحانه - ما كان عليه المشركون، من غرور واستخفاف بالوعيد فقال: { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
والمراد بالفتح: الحكم والقضاء والفصل فى الخصومة بين المتخاصمين، ومنه قوله - تعالى - حكاية عن شعيب - عليه السلام -:
{ { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ } }. أى: "احكم بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الحاكمين".
أى: ويقول المشركون للنبى صلى الله عليه وسلم ولأصحابه على سبيل الاستهزاء، واستعجال العقاب: متى هذا الذى تحدثوننا عنه من أن الله - تعالى - سيفصل بيننا وبينكم، ويجعل لكم النصر ولنا الهزيمة؟
لقد طال انتظارنا لهذا اليوم الذى يتم فيه الحكم بيننا وبينكم، فإن كنتم صادقين فى قولكم، فادعوا ربكم أن يعجل بهذا اليوم.
وهنا يأمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم بما يخرسهم فيقول: { قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }. أى: قل - أيها الرسول - فى الرد على هؤلاء الجاهلين المغرورين: إن يوم الفصل بيننا وبينكم قريب، وهو آت لا محالة فى الوقت الذى يحدده الله - تعالى - ويختاره، سواء أكان هذا اليوم فى الدنيا، عندما تموتون على الكفر، أم فى الآخرة عندما يحل بكم العذاب، ولا ينفعكم إيمانكم، ولا أنتم تمهلون أو تنظرون، بل سينزل بكم العذاب سريعاً وبدون مهلة.
وما داما الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَٱنتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ }. أى: فأرعض عن هؤلاء المشركين، وعن أقوالهم الفاسدة دون أن تلتفت إليها، وامض فى طريقك أنت وأتباعك، وانتظر النصرة عليهم بفضلنا وإرادتنا، إنهم - أيضاً - منتظرون ما سيئول إليه أمرك، وسيكون أمرك بخلاف ما يمكرون وما ينتظرون.
وبعد: فهذا تفسير وسيط لسورة السجدة، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه، ونافعاً لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.