الوسيط في تفسير القرآن الكريم
والمراد بالذين آذوا موسى - عليه السلام - فى قوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ... } قومه الذين أرسله الله إليهم.
فقد حكى القرآن الكريم ألوانا من إيذائهم له، ومن ذلك قولهم له: { { يٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ... } وقولهم: { { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } }.
ومن إيذائهم له - عليه السلام - ما رواه الإِمام البخارى والترمذى عن أبى هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شئ، فآذاه من آذاه من بنى إسرائيل، وقالوا: ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما آفة. وإن الله - تعالى - أراد أن يبرئه مما قالوا، وإن موسى خلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، وأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبى حجر، ثوبى حجر حتى انتهى إلا ملأ بنى إسرائيل، فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله - تعالى -، وأبرأه الله - تعالى مما يقولون.." فذلك قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ... }.
والمعنى: يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإِيمان، التزموا الأدب والطاعة والاحترام لنبيكم صلى الله عليه وسلم واحذروا أن تسلكوا معه المسلك الذى سلكه بنو إسرائيل مع نبيهم موسى - عليه السلام - حيث آذوه بشتى أنواع الأذى.
وقولهم: { { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ... } واتخاذهم العجل إلها من دون الله فى غيبة نبيهم موسى - عليه السلام -..
{ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ } أى: فأظهر الله - تعالى - براءته من كل ما نسبوه إليه من سوء.
{ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً } أى: وكان عند الله - تعالى - ذا جاه عظيم، ومكانه سامية، ومنزلة عالية، حيث نصره - سبحانه - عليهم، واصطفاه لحمل رسالته..
يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه، إذا كان ذا جاه وقدر..
ثم أمرهم - سبحانه - بمراقبته وبالخوف منه، بعد أن نهاهم عن التشبه ببنى إسرائيل فى إيذائهم لنبيهم فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً.. }.
والقول السديد: هو القول الصادق الصحيح الخالى من كل انحراف عن الحق والصواب، مأخوذ من قولك: سدد فلان سهمه يسدده، إذا وجهه بإحكام إلى المرمى الذى يقصده فأصابه. ومنه قولهم: سهم قاصد. إذا أصاب الهدف.
أى: يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وراقبوه وخافوه فى كل ما تأتون وما تذرون، وفى كل ما تقولون وما تفعلون، وقولوا قولا كله الصدق والصواب.
فإنكم إن فعلتم ذلك { يُصْلِحْ } الله - تعالى - { لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } بأن يجعلها مقبولة عنده { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } التى فرطت منكم، بأن بمحوها عنكم ببركة استقامتكم فى أقوالكم وأفعالكم.
{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } فى كل الأقوال والأعمال { فَقَدْ فَازَ } فى الدارين { فَوْزاً عَظِيماً } لا يقادر قدره، ولا يعلم أحد كنهه وعلو منزلته.
ثم بين - سبحانه - ضخامة التبعة التى حملها الإِنسان فقال: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ.. }.
وأرجح الأقوال وأجمعها فى المراد بالأمانة هنا: أنها التكاليف والفرائض الشرعية التى كلف الله - تعالى - بها عباده، من إخلاص فى العبادة، ومن أداء للطاعات، ومن محافظة على آداب هذا الدين وشعائره وسننه.
وسمى - سبحانه - ما كلفنا به أمانة، لأن هذه التكاليف حقوق أمرنا - سبحانه - بها، وائتمننا عليها، وأوجب علينا مراعاتها والمحافظة عليها، وأداءها بدون إخلال بشئ منها.
والمراد بالإِنسان: آدم - عليه السلام - أو جنس الإِنسان.
والمراد بحمله إياها: تقبله لحمل هذه التكاليف والأوامر والنواهى مع ثقلها وضخامتها.
وللعلماء فى تفسير هذه الآية اتجاهات، فمنهم من يرى أن الكلام على حقيقته، وأن الله - تعالى - قد عرض هذه التكاليف الشرعية المعبر عنها بالأمانة، على السماوات والأرض والجبال { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } لثقلها وضخامتها { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أى: وخفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك ما يؤدى بهن إلى عذاب الله وسخطه بسبب التقصير فى أداء ما كلفن بأدائه.
{ وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } أى: وقبل الإِنسان حمل هذه الأمانة عند عرضها عليه، بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال حملها، وأشفقن منها.
{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } أى: إنه كان مفرطا فى ظلمه لنفسه، ومبالغة فى الجهل، لأن هذا الجنس من الناس لم يلتزموا جميعا بأداء ما كلفهم الله - تعالى - بأدائه. وإنما منهم من أداها على وجهها - وهم الأقلون -، ومنهم من لم يؤدها وإنما عصى ما أمره به ربه، وخان الأمانة التى التزم بأدائها.
فالضمير فى قوله { إِنَّهُ } يعود على بعض أفراد جنس الإِنسان، وهم الذين لم يؤدوا حقوق هذه الأمانة التى التزموا بحملها.
قال الآلوسى: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } أى: بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة، دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله ويكفى فى صدق الحكم على الجنس بشئ، وجوده فى بعض أفراده، فضلا عن وجوده فى غالبها...
وقال بعض العلماء: ورجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلى معروف فى اللغة التى نزل بها القرآن.
وقد جاء فعلا فى آية من كتاب الله، وهى قوله - تعالى -: { { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ... } لأن الضمير فى قوله: { { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلى، كما هو ظاهر.
وهذه المسألة هى المعروفة عند علماء العربية بمسألة: عندى درهم ونصفه. أى: ونصف درهم آخر.
وأصحاب هذا الاتجاه يقولون: لا مانع إطلاقا من أن يخلق الله - تعالى - إدراكا ونطقا للسماوات والأرض والجبال، ولكن هذا الإِدراك والنطق لا يعلمه إلا هو - سبحانه -.
ومما يشهد لذلك قوله - تعالى -: { { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } }.
قال الجمل: وكان هذا العرض عليهن - أى على السماوات والأرض والجبال تخييرا لا إلزاما، ولو ألزمهن لم يمتنعن عن حملها. والجمادات كلها خاضعة لله - تعالى - مطيعة لأمره، ساجدة له.
قال بعض أهل العلم: ركب الله - تعالى - فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة، حتى عقلن الخطاب، وأجبن بما أجبن.
ويرى بعضهم أن العرض فى الآية الكريمة من قبيل ضرب المثل، أو من قبيل المجاز.
قال الإِمام القرطبى ما ملخصه: لما بين - تعالى - فى هذه السورة من الأحكام ما بين، أمر بالتزام أوامره، والأمانة تعم جميع وظائف الدين، على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور..
ويصح أن يكون عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال على سبيل الحقيقة..
وقال القفال وغيره: العرض فى هذه الآية ضرب مثل، أى: أن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها، لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب.
أى: أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال، وقد حمله الإِنسان وهو ظلوم جهول لو عقل. وهذا كقوله: { { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ... } }.
وقال قوم: إن الآية من المجاز: أى: أنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت، فَعُبِّر عن هذا بعرض الأمانة. كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد: قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه..
وقيل: { عَرَضْنَا } يعنى عارضنا الأمانة بالسماوات والأرض والجبال، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة. ورجحت الأمانة بثقلها عليها...
ويبدو لنا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى بالقبول، لأنه ما دام لم يوجد مانع يمنع منه، فلا داعى لصرفه عن ذلك.
ومما لا شك أن قدرة الله - تعالى - لا يعجزها أن تخلق فى السماوات والأرض والجبال إدراكا وتمييزا ونطقا لا يعلمه إلا هو - سبحانه -.
واللام فى قوله - سبحانه -: { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ... } متعلقة بقوله: { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ... }.
أى: وحملها الإِنسان ليعذب الله - تعالى - بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يؤدوا ما التزموا بحمله وهم المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات { وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } أى: ويقبل الله - تعالى - توبة المؤمنين والمؤمنات، بأن يكفر عنهم سيئاتهم وخطاياهم.
{ وَكَانَ ٱللَّهُ } - تعالى - ما زال { غَفُوراً رَّحِيماً } أى: واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.
أما بعد: فهذا تفسير لسورة (الأحزاب) نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده..
والحمد الله الذى بنعمته تتم الصحالحات.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.