خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ
٢٢
وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ
٢٣
قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٤
قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٢٥
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ
٢٦
قُلْ أَرُونِيَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحْكِيمُ
٢٧
-سبأ

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والأمر بالدعاء فى قوله - سبحانه -: { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ.. } للتوبيخ والتعجيز. ومفعولا { زَعَمْتُمْ } مخذوفان.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين على سبيل التقريع والتعجيز: هؤلاء آلهتكم الذين زعمتم آلهة من دون الله، اطلبوا منهم أن ينفعوكم أو أن يرفعوا عنكم ضرا نزل بكم، إنهم بالقطع لن يستطيعوا شيئا من ذلك.
ولذا جاء التأكيد على عجز هذه الآلة المزعومة بعد ذلك فى قوله - تعالى -: { لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ.. }.
أى: هؤلاء الشركاء لا يملكون شيئا ما قل أو كثر لا فى السماوات ولا فى الأرض، بل الذى يملك كل شئ، هو الله - تعالى - وحده.
فالجملة الكريمة مستأنفة لبيان حال هذه الآية، وللكشف عن حقيقتها.
والتعبير بعدم ملكيتهم لمثقال ذرة، المقصود به أنهم لا يملكون شيئا على الإِطلاق، لأن مثقال الذرة أقل ما يتصور فى الحقارة والقلة.
وذكر - سبحانه - السماوات والأرض لقصد التعميم، إذ هما محل الموجودات الخارجية.
أى: لا يملكون شيئا ما فى هذا الكون العلوى والسفلى.
وبعد أن نفى عن الشركاء الملكية الخالصة لأى شئ فى هذا الكون، أتبع ذلك بنفى ملكيتهم لشئ ولو على سبيل المشاركة، فقال - تعالى -: { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ }.
أى: أن هؤلاء الذين زعمتموهم شركاء لله - تعالى - فى العبادة، لايملكون شيئا ما فى هذا الكون ملكية خاصة، ولا يملكون شيئا ما - أيضا - على سبيل المشاركة لغيرهم. وليس لله - تعالى - أحد يعينه أو يظاهره فيما يريد من إيجاد أو إعدام، بل الأمر كله إليه وحده.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد نفت عن تلك الآلهة المزعومة، ملكية أى شئ فى هذا الكون، سواء أكانت ملكية خالصة، أم ملكية على سبيل المشاركة، وأثبتت أن المالك والمتصرف فى هذا الكون إنما هو الله - تعالى - وحده، دون أن يكون فى حاجة إلى عون من تلك الآلهة أو من غيرها.
ثم نفى - سبحانه - أن تكون هناك شفاعة من أحد لأحد إلا بإذنه - تعالى - فقال: { وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }.
والشفاعة: من الشفع الذى هو ضد الوتر - أى: الفرد -، ومعناها: انضمام الغير إلى الشخص ليدفع عنه ما يمكن دفعه من ضر.
أى: ولا تنفع الشفاعة عند الله - تعالى - من أحد لأحد، إلا لمن أذن الله - تعالى - له فى ذلك.
قال الآلوسى ما ملخصه: والمراد نفى شفاعة الأصنام لعابديها، لكنه - سبحانه - ذكر ذلك على وجه عام، ليكون طريقا برهانيا. أى: لا تنفع الشفاعة فى حال من الأحوال، أو كائنة لمن كانت، إلا كائنة لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة. ومن البين أنه لا يؤذن فى الشفاعة للكفار، فقد قال - تعالى -:
{ { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } والشفاعة لهم بمعزل عن الصواب، وعدم الإِذن للأصنام أبين وأبين، فتبين حرمان هؤلاء الكفرة منها بالكلية....
وقوله: { حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ.. } بيان لما يكون عليه المتظرون للشفاعة، من لهفة وقلق.
والتضعيف فى قوله { فُزِّعَ } للسلب. كما فى قولهم: مَرَّضت المريض إذا عملت على إزالة مرضه.
فمعنى: { فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ }: كشف الفزع عنها، وهدأت أحوالها بعد أن أصابها ما أصابها من هول وخوف فى هذا اليوم الشديد، وهو يوم القيامة.
و { حَتَّىٰ } غاية لما فهم من الكلام قبلها، من أن هناك تلهفا وترقبا من الراجين للشفاعة ومن الشفعاء، إذ الكل منتظر بقلق لما يؤول إليه أمره من قبول الشفاعة أو عدم قبولها.
والمعنى: ولا تقبل الشفاعة يوم القيامة من أحد إلا لمن أذن الله - تعالى - له فى ذلك، وفى هذا اليوم الهائل الشديد، يقف الناس فى قلق ولهفة منتظرين قبول الشفاعة فيهم. حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم، بسبب إذن الله - تعالى - فى قبولها ممن يشاء ولمن يشاء، واستبشر الناس وقال بعضهم لبعض، أو قالوا للملائكة: { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أى: ماذا قال ربكم فى شأننا ومصيرنا.
وهنا تقول لهم الملائكة، أو يقول بعضهم لبعض: { قَالُواْ ٱلْحَقَّ } أى: يقولون قال ربنا القول الحق وهو الإِذن فى الشفاعة لمن ارتضى.
فلفظ { الحق } منصوب بفعل مضمر. أى: قالوا قال ربنا الحق أو صفة لموصوف محذوف. أى: قالوا: قال ربنا القول الحق.
{ وَهُوَ } - سبحانه - { ٱلْعَلِيُّ } أى: المتفرد بالعلو فوق خلقه { ٱلْكَبِيرُ } أى: المتفرد بالكبرياء والعظمة.
قال صاحب الكشاف - رحمة الله -: فإن قلت: بم اتصل قوله: { حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ }، ولأى شئ وقعت حتى غاية؟.
قلت: اتصل بما فهم من هذا الكلام، من أن ثم انتظارا للإِذن وتوقعا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذون لهم أولا؟ وأنه لا يطلق الإِذن إلا بعد ملىِّ من الزمان، وطول التربص...
كأنه قيل: ينتظرون ويتوقفون كليا فزعين وهلين، حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم، بكلمة يتكلم بها رب العزة فى إطلاق الإِذن: تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ } قال { ٱلْحَقَّ } أى: القول الحق، وهو الإِذن بالشفاعة لمن ارتضى...
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم للمرة الثانية على سبيل التنبيه والتوبيخ، من الذى يملك أن يرزقهم، فقال - سبحانه -: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ.. }.
أى: قبل أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين من الذى يرزقكم من السماء بالمطر وغيره، ويرزقكم من الأرض بالنباتات والمعادن وغير لك من المنافع.
وقوله - تعالى -: { قُلِ ٱللَّهُ } جواب على هذا السؤال، وهو جواب لا يملكون إلا الاعتراف به.
أى: قل لهم منبها ولافتا أنظارهم إلى ما هم فيه من جهل: الله ومحده هو الذى يرزقكم بما لا يحصى من الأرزاق التى بعضها من السماوات، وبعضها من الأرض.
وقوله - سبحانه -: { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } داخل فى حيز الأمر السابق، ولكن بأسلوب فيه ما فيه من الحكمة والتلطف، ومن حمل المخاطب على التفكر والتدبر حتى يعود إلى الرشد والصواب.
أى: وقل لهم - أيضا - أيها الرسول الكريم - لقد علمتم - يا معشر المشركين أن المستحق للعبادة هو الله - تعالى - وحده، لأنه هو الذى خلقكم ورزقكم من السماوات والأرض...
وإن أحدنا لا بد أن يكون على الهدى والآخر على الضلال. وسنترك تحديد من المهتدى ومن هو الضال لعقولكم وضمائركم.
وستعلمون - علم اليقين - بعد التفكر والتدبر أننا نحن المسلمين على الحق، وأنتم يا معشر المشركين على الباطل..
فالجملة لون من ألوان الدعوة إلى الله - تعالى - بأسلوب مهذب حكيم، من شأنه أن يحمل القلوب النافرة عن الحق، إلى الاستسلام له، والدخول فيه..
قال القرطبى: وقوله: { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } هذا على وجه الإِنصاف فى الحجة، كما يقول القائل لغيره: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق، وأن صاحبه كاذب، والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادين، وأحد الفريقين مهتد وهو نحن، والآخر ضال وهو أنتم، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب.
والمعنى: أنتم الضالون حين أشركتم بالله الذى يرزقكم من السماوات والأرض....
وقوله: { أَوْ إِيَّاكُمْ } معطوف على اسم إن، وخبرها هو المذكور. وحذف خبر الثانى للدلالة عليه.
أى: وإنا لعلى هدى أو فى ضلال مبين، وإنكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين.
ثم أتبع - سبحانه - هذا الكرم الحكيم فى الدعوة إلى الحق، بكلام لا يقل عنه حكمة وبلاغة فقال: { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أى: وقل لهم للمرة الثالثة - أيها الرسول الكريم - أنتم - أيها المشركون - لا تسألون يوم القيامة عن إجارمنا فى حق أنفسنا - إن كنا قد أجرمنا وأخطأنا فى حقها -، ونحن - أيضا - لا يسألنا الله - تعالى - عن سبب بقائكم فى الكفر وفى الأعمال السيئة، لأننا قد بلغناكم رسالة ربكم - عز وجل - ونصحناكم بالإِقلاع عن الشرك والمعاصى.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -،
{ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيۤئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } }. ثم أمره - سبحانه - أن يذكرهم بيوم القيامة وما فيه من حساب دقيق، فقال: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ }.
أى: وقل لهم - أيها الرسول الكريم - إن الله - تعالى - بقدرته سيجمعنا وإياكم يوم القيامة، ثم يحكم بيننا جميعا بحكمه العادل، وهو - سبحانه - { ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ } أى: الحاكم فى كل أمر بالحكم الحق، المطلع على جميع أحوال عباده.
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات بتوجيه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقول لهم قولا يخرس به ألسنتهم، ويبطل حججهم فقال: { قُلْ أَرُونِيَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ } والرؤية هنا بصرية. ومفعولها الأول الياء، ومفعولها الثانى الاسم الموصول، ولفظ شركاء: حال.
أى: وقل لهم - أيضا - للمرة الخامسة على سبيل إلزامهم الحجة: أرونى وأطلعونى على أصناكم التى ألحقتموها بالله - تعالى - فى العبادة، واتخذتموها شركاء له فى الطاعة... إنها ما هى إلا أشياء لا تضر ولا تنفع، وأنتم تعرفون ذلك عنها، وها هى أمامكم واقعها وحالها ينبئ بعجزها التام، فكيف أشركتموها مع الله - تعالى - فى العبادة والطاعة؟
فالمقصود من الرؤية إشهادهم على عجزها، وتبكيتهم على جهالاتهم، وحضهم على نبذ الشركاء، وأخلاص العبادة لله الواحد القهار.
ويحتمل أن تكون الرؤية هنا علمية، فيكون لفظ { شُرَكَآءَ } هو المفعول الثالث.
أى: عرفونى الأصنام والأوثان التى جعلتموها شركاء لله - تعالى - فى العبادة.
ثم زجرهم - سبحانه - عن هذا الضلال فقال: { كَلاَّ بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحْكِيمُ } أى: كلا ليس الأمر كما زعمتم من أن لله - تعالى - شركاء، بل هو - سبحانه - العزيز الذى لا يغلبه غالب، الحكيم فى كل أقواله وأفعاله.
وهكذا نجد الآيات الكريمة قد لقنت النبى صلى الله عليه وسلم الحجج التى يرد بها على المشركين، والتى من شأنها أن تحملهم على اعتناق الحق، واجتناب الباطل، لو كانوا يعقلون، ثم بين - سبحانه - وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم ورد على شبهات المشركين فقال: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً...وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ }.