خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ
٣١
قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ
٣٢
وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٣٣
-سبأ

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بالذى بين يديه فى قوله - تعالى -: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإِنجيل.
قالوا: وذلك لأن المشركين سألوا بعض أهل الكتاب، عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبروهم بأن صفاته فى التوراة والإِنجيل، فغضبوا وقالوا ما قالوا...
أى: وقال الذين كفروا بإصرار وعناد وجحود لكل ما هو حق: قالوا لن نؤمن بهذا القرآن الذى جئت به يا محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربك، ولا نؤمن - أيضا - بالكتب السماوية الأخرى التى تؤيد أنك رسول من عند الله - تعالى - فالآية الكريمة تحكى ما جبل عليه هؤلاء الكافرون من تصميم على الباطل، ومن نبذ للحق مهما تعددت مصادره.
قال الإِمام الرازى: لما بين - سبحانه - الأمور الثلاثة، من التوحيد والرسالة والحشر، وكانوا بالكل كافرين، بيَّن كفرهم العام بقوله: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } وقوله: { وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } المشهور أنه التوراة والإِنجيل، وعلى هذا فالمراد بالذين كفروا، المشركون المنكرون للنبوات والحشر.
ويحتمل أن يكون المعنى، لن نؤمن بهذا القرآن ولا بما فيه من الأخبار والآيات والدلائل فيكون المراد بالذى بين يديه ما اشتمل عليه من أخبار وأحكام - ويكون المراد بالذين كفروا عموم الكافرين بما فيهم أهل الكتاب لأن الجميع لا يؤمن بالقرآن ولا بما اشتمل عليه.
وقوله - تعالى -: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ } بيان لأحواله السيئة يوم القيامة، ولإِصرارهم على الكفر.
و { لَوْ } شرطية، وجوابها محذوف كما أن مفعول { تَرَىٰ } محذوف أيضا و { مَوْقُوفُونَ } أى محبوسون للحساب يوم القيامة.
يقال: وقفت الرجل عن فعل هذا الشئ، إذا منعته وحجزته عن فعله.
أى: ولو ترى - أيها المخاطب - حال الظالمين وقت احتباسهم عند ربهم يوم القيامة، وهم يتحاورون ويتجادلون فيما بينهم بالأقوال السيئة وكل فريق، يلقى التبعة على غيره.
لو ترى ذلك لرأيت أمرا عجيبا، وحالا فظيعة، تنفطر لها القلوب، وترتعد من هولها النفوس.
والتعبير بقوله - سبحانه -: { مَوْقُوفُونَ } يشعر بذلتهم وبؤسهم، فهم محبوسون للحاسب على غير إرادة منهم، كما يحبس المجرم فى سجنه انتظارا لمصيره السيئ.
وقوله: { عِندَ رَبِّهِمْ } تبكيت وتوبيخ لهم، على ما كانوا يفعلونه فى الدنيا من إنكار لليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب وحساب.
وقوله - سبحانه -: { يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } تفصيل لجانب من محارواتهم فيما بينهم، ولما كانوا يراجعون فيه القول بعضهم مع بعض.
والمراد بالذين استضعفوا: الأتباع والعامة من الناس، والمراد بالذين استكبروا: الزعماء والقادة والرؤساء.
أى: يقول الأتباع من الكافرين لقادتهم ورؤسائهم بغيظ وحسرة، لولا أنتم منعتمونا عن اتباع الحق لكنا مؤمنين به، ومتبعين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
إنهم يقولون لهم فى موقف الحساب يوم القيامة، ما كانوا عاجزين عن قوله فى الدنيا. عندما كانوا مستذلين لهم، وخاضعين لسلطانهم.
وهنا يرد الزعماء باستنكار وضيق، ويحكى ذلك القرآن فيقول: { قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ } على سبيل التوبيخ والتقريع { أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ } كلا، إننا ما فعلنا ذلك، ولسنا نحن الذين حلنا بينكم وبين اتباع الحق.
{ بَلْ } أنتم الذين { كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } فى حق أنفسكم، حيث اتبعتمونا باختياركم، ورضيتم عن طواعية منكم أن تتبعوا غيركم بدون تفكر أو تدبر للأمور.
ولم يقتنع الأتباع بما رد به عليهم السادة والكبراء، بل حكى القرآن للمرة الثانية ردهم عليهم فقال: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ } فى الرد عليهم بحسرة وألم: { بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } أى قالوا لهم أنتم لستم صاقين فى قولكم لنا: إنكم لم تصدونا عن اتباع الهدى بعد إذ جاءنا بل إن مكركم بنا الليل والنهار وإغراءكم لنا بالبقاء على الكفر وتهديدكم إيانا بالقتل أو التعذيب إذا ما خالفناكم، وأمركم لنا بأن نكفر بالله - تعالى - ونجعل له أندادا، أى شركاء فى العبادة والطاعة. كل ذلك هو الذى حال بيننا وبين اتباع الحق الذى جاءنا به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمكر: هو الاحتيال والخديعة. يقال مكر فلان بفلان، إذا خدعه وأراد به شرا. وهو هنا فاعل لفعل محذوف والتقدير: بل الذى صدنا عن الإِيمان مكركم بنا فى الليل والنهار، فحذف المضاف إليه واقيم مقامه الظرف اتساعا.
وقوله: { إِذْ تَأْمُرُونَنَآ.. } ظرف للمكر. أى: بل مكركم الدائم بنا وقت أمركم لنا بأن نكفر بالله ونجعل له أشباها ونظراء نعبدها من دونه - تعالى - هو الذى حال بيننا وبين اتباع الحق والهدى.
قال الجمل: وقوله { بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } يجوز رفع { مَكْرُ } من ثلاثة أوجه: أحدها: على الفاعلية بتقدير: بل صدنا مكركم فى هذين الوقتين، الثانى أن يكون مبتدأ خبره محذوف. أى: مكر الليل صدنا عن اتباع الحق. الثالث: العكس، أى: سبب كفرنا مكركم. وإضافة المكر إلى الليل والنهار إما على الإِسناد المجازى كقولهم: ليل ماكر، فيكون مصدرا مضافا لمرفوعه وإما على الاتساع فى الظرف، فجعل كالمفعول به فيكون مضافا لمنصوبه.
والضمير المرفوع فى قوله - سبحانه -: { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ } يعود إلى الأتباع والزعماء. وأسروا من الإِسرار بمعنى الكتمان والإِخفاء.
أى: وأضمر الذين استضعفوا والمستكبرون الندامة والحسرة حين شاهدوا العذاب المعد لهم جميعا، وذلك لأنهم بهتوا وشدهوا حين عاينوه، ودفنت الكلمات فى صدورهم فلم يتمكنوا من النطق بها وأصابهم ما أصابهم من الكمد الذى يجعل الشفاه لا تتحرك، والألسنة لا تنطق.
فالمقصود من إسرار الندامة: بيان عجزهم الشديد عن النطق بما يريدون النطق به لفظاعة ما شهدوه من عذاب غليظ قد أعد لهم.
وقيل إن { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ } بمعنى أظروها: لأن لفظ أسر من الأضداد.
قال الآلوسى ما ملخصه: { وَأَسَرُّواْ } أى: أضمر الظالمون من الفريقين { ٱلنَّدَامَةَ } على ما كان منهم فى الدنيا.. { لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ } لأنهم بهتوا لما عاينوه فلم يقدروا على النطق.
وقيل: أسروا الندامة. بمعنى أظهروها، فإن لفظ "أسر" من الأضداد، إذ الهمزة تصلح للإِثبات وللسلب، فمعنى أسره: جعله سره، أو أزال سره...
ثم بين - سبحانه - ما حل بهم من عذاب بسبب كفرهم فقال: { وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
والأغلال. جمع غل وهى القيود التى يقيد بها المجرمون.
أى: وجعلنا القيود فى أعناق الذين كفروا جميعا، سواء منهم من كان تابعا أم متبوعا. وما جزيناهم بهذا الجزاء المهين الأليم، إلا بسبب أعمالهم السيئة. وأقوالهم القبيحة.
وهكذا نرى الآيات الكريمة تصور لنا تصويرا مؤثرا بديعا، ما يكون عليه الكافرون يوم القيامة من حسرة وندم، ومن عداوة وبغضاء، ومن تهم يلقيها كل فريق على الآخر، بدون احترام من المستضعفين لزعمائهم الذين كانوا يذلونهم فى الدنيا، بعد أن سقطت وزالت الهيبة الزائفة التى كان الزعماء يحيطون بها أنفسهم فى الحياة الدنيا، وأصبح الجميع يوم الحساب فى الذلة سواء { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً }.
ثم تحكى السورة الكريمة بعد ذلك جانبا من الأقوال الزائفة، التى كان المترفون يتذرعون بها للبقاء على كفرهم، ومن الإِجابات التى لقنها - سبحانه - لنبيه صلى الله عليه وسلم لكى يخرس بها ألسنتهم، ويزيل بها شبهاتهم قال - تعالى -: { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ...وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ }.