خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ
٩
مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
١٠
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١١
وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢
يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ
١٣
إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
١٤
-فاطر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال أبو حيان -رحمه الله - لما ذكر - سبحانه - أشياء من الأمور السماوية، وإرسال الملائكة، أتبع ذلك بذكر أشياء من الأمور الأرضية كالرياح وإرسالها، وفى هذا احتجاج على منكرى البعث، دلهم على المثال الذى يعاينونه، وهو إحياء الموتى سيان. وفى الحديث "أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحيى الله الموتى وما آية ذلك فى خلقه؟ فقال: هل مررت بوادى أهلا محلا - أى مجدبا لا نبات فيه - ثم مررت به يهتز خضرا؟ فقالوا: نعم، فقال: فكذلك يحيى الله الموتى، وتلك آيته فى خلقه" .
فقوله - تعالى -: { وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - عز وجل - ومن سعة رحمته بعباده.
وقوله: { فَتُثِيرُ } من الإِثارة بمعنى التهييج والتحريك من حال إلى حال.
أى: والله - تعالى - وحده، هو الذى أرسل الرياح، فجعلها بقدرته النافذة تحرك السحب من مكان إلى مكان، فتذهب بها تارة إلى جهة الشمال، وتارة إلى جهة الجنوب، وتارة إلى غير ذلك.
وقوله: { فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ } بيان للحكمة من هذه الإِثارة، والمراد بالبلد الميت: الأرض الجدباء التى لا نبات فيها. والضمير فى { فَسُقْنَاهُ } يعود إلى السحاب.
وقوله: { فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أى: فأحيينا بالمطر النازل من السحاب الأرض الجدباء، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
فالضمير فى قوله { بِهِ } يعود إلى المطر، لأن السحاب يدل عليه لما بينهما من تلازم، ويصح أن يعود إلى السحاب لأنه سبب نزول الأمطار.
وقال - سبحانه - { فَتُثِيرُ } بصيغة المضارع. استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على قدرة الله - تعالى -، والتى من شأنها أن تغرس العظات والعبر فى النفوس.
وقال - سبحانه -: { فَسُقْنَاهُ } { فَأَحْيَيْنَا } بنون العظمة، وبالفعل الماضى، للدلالة على تحقق قدرته ورحمته بعباده.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: فإن قلت: لم جاء { فَتُثِيرُ } على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟.
قلت: ليحكى الحال التى تقع فيها إثارة الرياح للحساب، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدر الربانية، وهكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية..
ولما كان سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها، من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: فسقنا، وأحيينا، معدولا بهما عن لفظ الغيبة، إلى ما هو أدخل فى الاختصاص وأدل عليه...
والكاف فى قوله - تعالى -: { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ } بمعنى مثل، وهى فى محل رفع على الخبرية. أى: مثل الإِحياء الذى تشاهدونه للأرض بعد نزول المطر عليها، يكون إحياء الأموات منكم.
قال الإِمام الرازى: فإن قيل ما وجه التشبيه بقوله: { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ }؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: أن الأرض الميتة لما قبلت الحياة اللائقة بها، كذلك الأعضاء تقبل الحياة.
ثانيها: كما أن الريح يجمع القطع السحابية، كذلك يجمع - سبحانه - بين أجزاء الأعضاء..
ثالثها: كما أن نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت، كذلك نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت.
والنشور: الإِحياء والبعث بعد الموت. يقال: أنشر الله - تعالى - الموتى ونشرهم، إذا أحياهم بعد موتهم. ونشر الراعى غنمه، إذا بثها بعد أن آواها.
ثم بين - سبحانه - أن العزة الكاملة إنما هى لله - تعالى - وحده فقال: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً... }.
والمراد بالعزة: الشرف والمنعة والاستعلاء، من قولهم: أرض عَزاز، أى: صلبة قوية. و { مَن } شرطية، وجواب الشرط محذوف. وقوله: { فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } تعليل للجواب المحذوف.
والمعنى من كان من الناس يريد العزة التى لا ذلة معها. فليطع الله وليعتمد عليه وحده فالله - تعالى - العزة كلها فى الدنيا والآخرة، وليس لغيره منها شئ.
وفى هذا رد على المشركين وغيرهم ممن يطلبون العزة من الأصنام أو من غيرها من المخلوقات قال - تعالى -:
{ { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } }. وقال - سبحانه -: { { ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } }. قال القرطبى ما ملخصه: يريد - سبحانه فى هذه الآية، أن ينبه ذوى الأقدار والهمم، من أين تنال العزة ومن أين تستحق، فمن طلب العزة من الله - تعالى وجدها عنده، - إن شاء الله -، غير ممنوعة ولا محجوبة عنه.. ومن طلبها من غيره وكلَه إلى من طلبها عنده. وقال صلى الله عليه وسلم مفسرا لهذه الآية: "من أراد عز الدارين فليطع العزيز" ، ولقد أحسن القائل:

وإذا تذللت الرقاب تواضعا منا إليك فعزها فى ذلها

فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، فليعتز بالله - تعالى -، فإن منا عتز بغير الله، أذله الله، ومن اعتز به - سبحانه أعزه.
ولا تنافى بين هذه الآية وبين قوله - تعالى -:
{ { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } لأن العزة الكاملة لله - تعالى - وحده، أما عزة الرسول صلى الله عليه وسلم فمستمدة من قربه من الله - تعالى -، كما أن عزة المؤمنين مستمدة من إيمانهم بالله - تعالى - وبرسوله صلى الله عليه وسلم.
والخلاصة أن هذه الآية الكريمة ترشد المؤمنين إلى الطريق الذى يوصلهم إلى السعادة الدنيوية والأخروية. ألا وهو طاعة الله - تعالى -، والاعتماد عليه والاعتزاز به.
وقوله - سبحانه -: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } حض للمؤمنين على النطق بالكلام الحسن، وعلى الإِكثار من العمل الصالح.
و { يَصْعَدُ } من الصعود بمعنى الارتفاع إلى أعلى والعروج من مكان منخفض إلى مكان مرتفع. يقال صعد فى السلم ويصعد صعودا إذا ارتقاه وارتفع فيه.
و { ٱلْكَلِمُ } اسم جنس جمعى واحده كلمة.
والمراد بالكلمة الطيب: كل كلام يرضى الله - تعالى - من تسبيح وتحميد وتكبيره. وأمره بالمعروف، ونهى عن المنكر، وغير ذلك من الأقوال الحسنة.
والمراد بصعوده: قبوله عند الله - تعالى - ورضاه عن صاحبه، أو صعود صحائف هذه الأقوال الطيبة.
والمعنى: إليه - تعالى - وحده، لا إلى غيره يصعد الكلم الطيب، أى: يقبل عنده، ويكون مرضيا لديه، أو إليه - وحده - ترفع صحائف أعمال عباده، الصادقين فيجازيهم بما يستحقون من ثواب، والعمل الصالح الصادر عن عباده المؤمنين يرفعه الله - تعالى - إليه، ويقبله منهم، ويكافئهم عليه.
فالفاعل لقوله { يَرْفَعُهُ } ضمير يعود على الله - تعالى - والضمير المنصوب يعود إلى العمل الصالح أى: يرفه الله - تعالى - العمل الصالح إليه، ويقبله من أصحابه.
ومنهم من يرى أن الفاعل لقوله { يَرْفَعُهُ } هو العمل الصالح. والضمير المنصوب يعود إلى الكلم الطيب. أى: أن العمل الصالح هو الذى يرفع الكلم الطيب. بأنه يجعله مقبولا عند الله - تعالى -.
ومنهم من يرى العكس. أى: أن الكلم الطيب هو الذى يرفع العمل الصالح.
قال الشوكانى ما ملخصه: ومعنى: { وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. كما قال الحسن وغيره. ووجهه أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا من العمل الصالح وقيل: إن فاعل { يَرْفَعُهُ } هو الكلم الطيب، ومفعوله العمل الصالح. ووجه أن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإِيمان وقيل: إن فاعل { يَرْفَعُهُ } ضمير يعود إلى الله - تعالى -.
والمعنى: أن الله - تعالى - يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب، لأن العمل يحقق الكلام. وقيل: العمل الصالح هو الذى يرفع صاحبه.
ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال، أن يكون الفاعل لقوله { يَرْفَعُهُ } هو الله - تعالى -، وأن الضمير المنصوب عائد إلى العمل الصالح لأن الله - تعالى - هو الذى يقبل الأقوال الطيبة، وهو - سبحانه - الذى يرفع الأعمال الصالحة ويقبلها عنده من عباده المؤمنين.
ثم بين - تعالى - بعد ذلك سوء عاقبة الذين يمكرون السوء فقال: { وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ }.
والمكر: التدبير المحكم. أو صرف غيرك عما يريده بحيلة. وهو مذموم إن تحرى به صاحبه الشر والسوء - كما فى الآية الكريمة، ومحمود إن تحرى به صاحبه الخير والنفع و { ٱلسَّيِّئَاتِ } جمع سيئة وهى صفة لموصوف محذوف.
وقوله { يَبُورُ } أى: يبطل ويفسد، من البوار: يقال: بار المتاع بوارا إذا كسد وصار فى حكم الهالك.
أى: والذين يمكرون المكرات السيئات من المشركين والمنافقين وأشباههم، لهم عذاب شديد من الله - تعالى -، ومكر أولئك الماكرين المفسدين، مصيره إلى الفساد والخسران، لأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله.
ويدخل فى هذا المكر السيئ ما فعله المشركون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى دار الندوة، حيث بيتوا قتله، ولكن الله - تعالى - نجاه من شرورهم، كما دخل فيه غير ذلك من أقوالهم القبيحة، وأفعالهم الذميمة، ونياتهم الخبيثة.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك دليلا آخر على صحة البعث والنشور، وعلى كمال قدرته - تعالى - فقال: { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } أى: خلقكم ابتداء فى ضمن خلق أبيكم آدم من تراب { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وأصلها الماء الصافى أو الماء القليل الذى يبقى فى الدلو أو القربة، وجمعها: نطف ونطاف. يقال: نطفت القربة إذا قطرت.
والمراد بها هنا: المنى الذى هو مادة التلقيح من الرجل للمرأة.
{ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أى: أصنافا ذكرانا وإناثا، كما قال - تعالى -:
{ { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } }. أو المراد: ثم جعلكم تتزاوجون، فالرجل يتزوج المرأة، والمرأة تتزوج الرجل. { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أى: لا يحصل من الأنثى حمل، كما لا يحصل منها وضع لما فى بطنها، إلا والله - تعالى - عالم به علما تاما لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ.
{ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } والمراد بالمعمر الشخص الذى يطيل الله - تعالى - عمره.
والضمير فى قوله { مِنْ عُمُرِهِ } يعود إلى شخص آخر، فيكون المعنى: ما يمد - سبحانه - فى عمر أحد من الناس، ولا ينقص من عمر أحد آخر، إلا وكل ذلك كائن وثابت فى كتاب عنده - تعالى - وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، أو صحائف أعمال العباد أو علم الله الأزلى.
ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله { مِنْ عُمُرِهِ } يعود إلى الشخص ذاته وهو المعمر فيكون المعنى: وما يمد الله - تعالى - فى عمر إنسان، ولا ينقص من عمره بمضى أيام حياته، إلا وكل ذلك ثابت فى علمه - سبحانه -.
قال بعض العلماء: وقد أطال بعضهم الكلام فى ذلك ومحصله: أنه اختلف فى معنى { مُّعَمَّرٍ } فقيل: هو المزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله ولا ينقص، وقيل: المراد بقوله { مُّعَمَّرٍ } من يجعل له عمر. وهل هو شخص واحد أو شخصان؟
فعلى رأى من قال بان المعمر، هو من يجعل له عمر يكون شخصا واحدا بمعنى انه يكتب عمره مائة سنة - مثلا -، ثم يكتب تحته مضى يوم، مضى يومان، وهكذا فكتابة الأصل هى التعمير.. والكتابة بعد ذلك هو النقص كما قيل:

حياتك أنفاس تُعَدّ فكلما مضى نفس منها انتقصَت به جزءا

والضمير حينئذ راجع إلى المذكور. والمعمر على هذا هو الذى جعل الله - تعالى - له عمرا طال هذا العمر أو قصر.
وعلى رأى من قال بأن المعمر هو من يزاد فى عمره، يكون من ينقص فى عمره غير الذى يزاد فى عمره فهما شخصان. والضمير فى "عمره" على هذا الرأى يعود إلى شخص آخر، إذ لا يكون المزيد فى عمره منقوصا من عمره..".
وقد رجح ابن جرير - رحمه - الله الرأى الأول وهو أن الضمير فى قوله { مِنْ عُمُرِهِ } يعود إلى شخص آخر - فقال: وأولى التأويلين فى ذلك عندى بالصواب، التأويل الأول، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه، وأشبههما بظاهر التنزيل.
واسم الإِشارة فى قوله { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } يعود إلى الخلق من تراب وما بعده.
أى: إن ذلك الذى ذكرناه لكم من خلقكم من تراب، ثم من نطفة.. يسير وهين على الله - تعالى - لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ على الإِطلاق.
ثم ذكر - سبحانه - نوعا آخر من أنواع بديع صنعه، وعجيب قدرته، فقال: { وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ.. }.
والماء العذب الفرات: هو الماء السائغ للشرب، الذى يشعر الإِنسان عند شربه باللذة وهو ماء الأنهار. وسمى فراتا لأنه يفرت العطش، أى: يقطعه ويزيله ويكسره.
والماء الملح الأجاج: هو الشديد الملوحة والمرارة وهو ماء البحار. سمى أجاجا من الأجيج وهو تهلب النار، لأن شربه يزيد العطشان عطشا وتعبا.
قالوا: والآية الكريمة مثل للمؤمن والكافر. فالبحر العذب: مثل للمؤمن، والبحر الملح: مثل للكافر.
فكما أن البحرين اللذين أحدهما عذب فرات سائغ شرابه. والآخر ملح أجاج. لا يتساويان فى طعمهما ومذاقهما. وإن اشتركا فى بعض الفوائد - فكذلك المؤمن والكافر، لا يتساويان فى الخاصية العظمى التى خلقا من أجلها، وهى إخلاص العبادة لله الواحد القهار، وإن اشتركا فى بعض الصفات الأخرى كالسخاء والشجاعة - لأن المؤمن استجاب لفطرته فآمن بالحق، أما الكافر فقد عاند فطرته، فاصر على الكفر.
وقوله: { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } بيان لبعض النعم التى وهبها - سبحانه - لعباده من وجود البحرين.
أى: ومن كل واحد منهما تأكلون لحماً طريا، أى: غضا شهيا مفيداً لأجسادكم، عن طريق ما تصطادونه منهما من أسماء وما يشبهها.
قال بعض العلماء. وفى وصفه بالطراوة، تنبيه إلى أن ينبغى المسارعة إلى أكله، لأنه يسرع إليه الفساد والتغيير. وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر المأكولات فسبحان الخبير بشئون خلقه..
وفيه - أيضاً - إيماء إلى كمال قدرته - تعالى- حيث أوجد هذا اللحم الطرى النافع فى الماء الملح الأجاج الذى لا يشرب.
وقد كره العلماء أكل الطافى منه على وجه الماء، وهو الذى يموت حتف أنفه فى الماء فيطفو على وجهه، لحديث جابر بن عبد الله، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما نضب عنه الماء فكلوه. وما لفظ الماء فكلوه، وما طفا - على وجه الماء -فلا تأكلوه" .
فالمراد من ميتة البحر فى حديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" ما لفظه البحر لا مامات فيه من غير آفة".
وقوله - تعالى -: { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } بيان لنعمة ثانية من النعم التى تصل إلى الناس عن طريق البحرين.
والحلية - بكسر الحاء -: اسم لما يتحلى به الناس، ويتزينون بلبسه، وجمع حلية: حِلًى وحُلًى - بسكر الحاء وضمها - يقال: تحلت المراة إذا لبست الحلى.
أى: ومن النعم التى تصل إليكم عن طريق البحرين، استخراجكم منهما ما ينفعكم، وما تتحلى به نساؤكم، كاللؤلؤ والمرجان وغيرهما.
والتعبير بقوله: { وَتَسْتَخْرِجُونَ } يشير إلى كثرة الإِخراج. فالسين والتاء للتأكيد. كما يشير بأن من الواجب على المسلمين، أن يباشروا بأنفسهم استخراج ما فى البحرين من كنوز نافعة، وأن لا يتركوا ذلك لأعدائهم.
وأسند - سبحانه - لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور، فقال { تَلْبَسُونَهَا } على سبيل التغليب، وإلا فإن هذه الحلية يلبسها النساء فى الأعم الأغلب من الأحوال.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: { تَلْبَسُونَهَا } أى: تلبسها نساؤكم وأسند الفعل إلى ضمير الرجال، لاختلاطهم بهن، وكونهم متبوعين، أو لأنهم سبب لتزينهن فإن النساء يتزين - فى الغالب - ليحسن فى أعين الرجال..".
وقال بعض العلماء: وفى الآية دليل قرآنى واضح على بطلان دعوى بعض العلماء من أن اللؤلؤ والمرجان، لا يستخرجان إلا من البحر الملح خاصة".
وقوله - تعالى - { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } بيان لنعمة ثالثة من نعمه - تعالى - عن طريق وجود البحار فى الأرض.
وأصل المخر: الشق. يقال مخرت السفينة البحر إذا شقته وسارت بين أمواجه، ومخر الماء الأرض إذا شقها.
أى: وترى - أيها العاقل - ببصرك السفن فى كل من البحرين { مَوَاخِرَ } أى تشق الماء بمقدماتها، وتسرع السير فيه من جهة إلى جهة..
والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى البحر الملح، لأن أمر الفلك فيه أعظم من أمرها فى البحر العذب، وإن كانت السفن تجرى فى البحرين.
ويجوز أن يكون الضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى جنس البحر. أى: وترى السفن تشق كل بحر، لتسير فيه من مكان إلى مكان..
واللام فى قوله - تعالى -: { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام السابق.
أى: أوجدنا البحرين، وسخرناهما لمنفعتكم، لتطلبوا أرزاقكم فيهما، وهذه الأرزاق هى من فضل الله - تعالى - عليكم، ومن رحمته بكم، ولعلكم بعد ذلك تشكروننا على آلائنا ونعمنا، فإن من شكرنا زدناه من خيرنا وعطائنا.
ثم بين - سبحانه - نعما أخرى تتجلى فى الليل وفى النهار، وفى الشمس والقمر، فقال: { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى }..
أى: ومن مظاهر فضله عليكم، ورحمته بكم،أنه أوجد لكم الليل والنهار بهذا النظام البديع، بأن أدخل أحدهما فى الآخر، وجعلهما متعاقبين، مع زيادة أحدهما عن الآخر فى الزمان، على حسب اختلاف المطالع، والمغارب، وأوجد - أيضا - بفضله ورحمته الشمس والقمر لمنفعتكم، وكل واحد منهما يسير بنظام بديع محكم، إلى الأجل والوقت الذى حدده الله - تعالى - لانتهاء عمر هذه الدنيا..
والإِشارة فى قوله: { ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ.. } تعود إلى الخالق والموجد لتلك الكائنات العجيبة البديعة، وهو الله - عز وجل -.
أى: ذلكم الذى أوجد كل هذه المخلوقات لمنفعتكم، هو الله - تعالى - ربكم وهو وحده الذى له ملك هذا الكون، لا يشاركه فيه مشارك، ولا ينازعه فى ملكيته منازع { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أى: والذين تعبدونهم من دون الله - تعالى -، وتصفونهم بأنهم آلهة.
{ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } والقطمير: القشرة البيضاء الرقيقة الملتفة على النواة.
أو هو النقطة فى ظهر النواة، ويضرب مثلاً لأقل شئ وأحقره.
أى: والذين تعبدونهم من دون الله - تعالى - لا يملكون معه - سبحانه - شيئاً. ولو كان هذا الشئ فى نهاية القلة والحقارة والصغر، كالنكتة التى تكون فى ظهر النواة.
ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى وقرره فقال: { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ... }.
أى: إن هذه المعبودات الباطلة لا تملك من شئ مع الله - تعالى -، بدليل أنكم إن تدعوهم لنفعكم، لن يسمعوا دعاءكم، وإن تستغيثوا بهم عند المصائب والنوائب، لمن يلبوا استغاثتكم..
{ وَلَوْ سَمِعُواْ } على سبيل الفرض والتقدير { مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ } لأنهم لا قدرة لهم على هذه الاستجابة لعجزهم عن ذلك.
{ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } الذى تتجلى فيه الحقائق، وتنكشف الأمور { يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ }.
أى: يتبرأون من عبادتكم لهم، ومن إشراككم إياهم العبادة مع الله - تعالى -، فضلاً عن عدم استجابتهم لكم إذا دعوتموهم لنصرتكم.
{ وَلاَ يُنَبِّئُكَ } أى: ولا يخبرك بهذه الحقائق التى لا تقبل الشك أو الريب.
{ مِثْلُ خَبِيرٍ } أى: مثل من هو خبير بأحوال النفوس وبظواهرها وببواطنها. وهو الله - عز وجل - فإنه - سبحانه - هو الذى يعلم السر وأخفى.
وبهذا نرى الآيات الكريمة، قد طوفت بنا فى أرجاء هذا الكون، وساقت لنا ألوانا من نعم الله - تعالى - على الناس، كالرياح، والسحاب، والأمطار والبحار، والليل والنهار، والشمس والقمر... وهى نعم تدل على وحدانية المنعم بها، وعلى قدرته - عز وجل - وفى كل ذلك هداية إلى الحق لكل عبد منيب.
ثم وجه - سبحانه - نداء ثالثاً إلى الناس، نبههم فيه إلى فقرهم إليه - سبحانه -، وإلى غناه عنهم، وإلى مسئولية كل إنسان عن نفسه، وإلى وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم الذى أرسله إليهم، وإلى الفرق الشاسع بين الإِيمان والكفر، وإلى سوء مصير المكذبين، فقال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ...فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }.