خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ
٢٧
وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ
٢٨
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ
٢٩
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
٣٠
وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ
٣١
-فاطر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والاستفهام فى قوله - تعالى -: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً }..
لتقرير ما قبله، من أن اختلاف الناس فى عقائدهم وأحوالهم أمر مطرد، وأن هذا الاختلاف موجود حتى فى الحيوان والحجارة والنبات..
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله - تعالى -: { أَلَمْ تَرَ... } هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك، فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت فى ذلك أجريت مجرى المثل فى هذا الباب، بأن شبه من لم ير الشئ، بحال من رآه. فى أنه لا ينبغى أن يخفى عليه، ثم أجرى الكلام معه. كما يجرى مع من رأى، قصداً إلى المبالغة فى شهرته...".
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى له الخطاب، بتقرير دليل من أدلة القدرة الباهرة.
والمعنى: لقد علمت - أيها العاقل - علماً لا يخالطه شك، أن الله - تعالى - أنزل من السماء ماء كثيراً، فأخرج بسببه من الأرض، ثمرات مختلفاً ألوانها. فبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أخضر.. وبعضها حلو المذاق، وبعضها ليس كذلك، مع أنها جميعاً تسقى بماء واحد، كما قال - تعالى -:
{ { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } }. وجاء قوله { فَأَخْرَجْنَا... } على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى التكلم، لإِظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة والحكمة، ولأن المنة بالإِخراج أبلغ من إنزال الماء.
وقوله { مُّخْتَلِفاً } صفة لثمرات، وقوله { أَلوانها } فاعل به.
وقوله - تعالى -: { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } معطوف على ما قبله، لبيان مظهر آخر من مظاهر قدرته - عز وجل.
قال القرطبى ما ملخصه: "الجدد جمع جُدَّة - بضم الجيم - وهى الطرائق المختلفة الألوان".. والجُدَّة: الخطة التى فى ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة: الطريقة والجمع جدد.. أى: طرائق تخاف لون الجبل، ومنه قولهم: ركب فلان جُدَّة من الأمر، إذا رأى فيه رأيا".
وغرابيب: جمع غربيب، وهو الشئ الشديد السواد، والعرب تقول للشئ الشديد السواد، أسود غربيب.
وقوله: { سُودٌ } بدل من { وَغَرَابِيبُ }.
أى: أنزلنا من السماء ماء أخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، وجعلنا بقدرتنا من الجبال قطعاً ذات ألوان مختلفة، فمنها الأبيض، ومنها الأحمر، ومنها ما هو شديد السواد، ومنها ما ليس كذلك، مما يدل على عظيم قدرتنا. وبديع صنعنا...
ثم بين - سبحانه - أن هذا الاختلاف ليس مقصوراً على الجبال فقال: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ... }.
وقوله: { مُخْتَلِفٌ } صفة لموصوف محذوف. وقوله { كَذَلِكَ } صفة - أيضاً - لمصدر محذوف، معمول لمخلتف.
أى: ليس اختلاف الألوان مقصوراً على قطع الجبال وطرقها وأجزائها، بل - أيضاً - من الناس والدواب والأنعام، أصناف وأنواع مختلفة ألوانها اختلافاً، كذلك الاختلاف الكائن فى قطع الجبال، وفى أنواع الثمار.
وإنما ذكر - سبحانه - هنا اختلاف الألوان فى هذه الأشياء، لأن هذا الاختلاف من اعظم الأدلة على قدرة الله - تعالى - وعلى بديع صنعه.
ثم بين - سبحانه - أولى الناس بخشية فقال: { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } أى: إنما يخاف الله - تعالى - ويخشاه، العالمون بما يليق بذاته وصفاته، من تقديس وطاعة وإخلاص فى العبادة، أما الجاهلون بذاته وصفاته - تعالى -، فلا يخشونه ولا يخافون عقابه، لانطماس بصائرهم، واستحواذ الشيطان عليهم، وكفى بهذه الجملة الكريمة مدحاً للعلماء، حيث قصر - سبحانه - خشيته عليهم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول فى هذا الكلام أو أخر؟ قلت: لا بد من ذلك، فإنك إذا قدمت اسم الله، وأخرت العلماء، كان المعنى. إن الذين يخشون الله من عباده هم العلماء دون غيرهم، وإذا علمت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله، كقوله - تعالى -:
{ { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ } وهما معنيان مختلفان.
فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟
قلت: لما قال { أَلَمْ تَرَ } بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء، وعدد آيات الله، وأعلام قدرته، وآثار صنعته... أتبع ذلك بقوله: { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } كأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته، وعلمه كنه علمه.
وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أنا أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم به" .
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على أنه يعاقب على المعصية، ويغفر الذنوب لمن تاب من عباده توبة نصوحاً.
ثم مدح - سبحانه - المكثرين من تلاوة كتابه، المحافظين على أداء فرائضه فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ... }.
أى: إن الذين يداومون على قراءة القرآن الكريم بتدبر لمعانيه، وعمل بتوجيهاته، { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } بأن أدوها فى مواقيتها بخشوع وإخلاص.
{ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } أى: وبذلوا مما رزقناكم من خيرات، تارة فى السر وتارة فى العلانية.
وجملة { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } فى محل رفع خبر إن. والمراد بالتجارة: ثواب الله - تعالى - ومغفرته.
وقوله: { تَبُورَ } بمعنى تكسد وتهلك. يقال: بار الشئ يبور بورا وبوارا، إذا هلك وكسد.
أى: هؤلاء الذين يكثرون من قراءة القرآن الكريم، ويؤدون ما أوجبه الله - تعالى - عليهم، يرجون من الله - تعالى الثواب الجزيل، والربح الدائم، لأنهم جمعوا فى طاعتهم له - تعالى - بين الإِكثار من ذكره، وبين العبادات البدنية والمالية.
واللام فى قوله: { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ.. } متعلقة بقوله { لَّن تَبُورَ } على معنى، يرجون تجارة لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجورهم التى وعدهم بها، ويزيدهم فى الدنيا والآخرة من فضله ونعمه وعطائه.
أو متعلقة بمحذوف، والتقدير: فعلوا ما فعلوا ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله { إِنَّهُ } - سبحانه - { غَفُورٌ } أى: واسع المغفرة { شَكُورٌ } أى: كثير العطاء لمن يطيعه ويؤدى ما كلفه به.
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة، بتثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم، وتسليته عما أصابه من أعدائه فقال: { وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } أى القرآن الكريم { هُوَ ٱلْحَقُّ } الثابت الذى لا يحوم حوله باطل.
{ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أى: أن من صفات هذا القرآن أنه مصدق لما تقدمه من الكتب السماوية. كالتوراة والإِنجيل.
{ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } أى: إن الله - تعالى - لمحيط إحاطة تامة بأحوال عباده، مطلع على ما يسرونه وما يلعنونه من أقوال أو أفعال.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت ألواناً من الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته، وأثنت على العلماء، وعلى التالين للقرآن الكريم، والمحافظين على أداء ما كلفهم الله - تعالى - ثناء عظيماً.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان أقسام الناس فى هذه الحياة. ووعدة المؤمنين الصادقين بجنات النعيم، فقال - تعالى -: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ...يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }.