خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً
٤٢
ٱسْتِكْبَاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ ٱلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً
٤٣
أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً
٤٤
وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً
٤٥
-فاطر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى: قوله - تعالى -: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ.. } هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم حين بلغهم أن أهل الكتاب، كذبوا رسلهم، فلعنوا من كذب نبيه منهم..".
و { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أى: أقوى أيمانهم وأغلظها والجهد: الطاقة والوسع والمشقة.
يقال: جهد نفسه يجهدها فى الأمر، إذا بلغ بها أقصى وسعها وطاقتها فيه.
والمراد: أنهم أكدوا الأيمان ووثقوها، بكل ألفاظ التوكيد والتوثيق.
أى: أن كفار مكة، أقسموا بالله - تعالى - قسماً مؤكداً موثقاً مغلظاً، { لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } أى: نبى ينذرهم بأن الكفر باطل وأن الإِيمان بالله هو الحق.
{ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ } سبيلا { مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ } أى: ليكونن أهدى من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم فى اتباعهم وطاعتهم، لهذا الرسول الذى يأتيهم من عند ربهم لهدايتهم إلى الصراط المستقم.
{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذى هو أشرف الرسل.
{ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } أى: ما زادهم مجيئه لهم إلا نفورا عن الحق، وتباعدا عن الهدى. أى: أنهم قبل مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يتمنون أن يكون الرسول منهم، لا من غيرهم، وأقسموا بالله بأنهم سيطيعونه فلما جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم نفروا عنه ولم يؤمنوا به.
وإنما كان القسم بالله - تعالى - غاية أيمانهم، لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وبأصنامهم، فإذا اشتد عليهم الحال، وأرادوا تحقيق الحق، حلفوا بالله - تعالى -.
وقوله { لَّيَكُونُنَّ } جواب القسم المقدر. وقوله: { مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } جواب لمَّا.
وقوله - تعالى -: { ٱسْتِكْبَاراً فِي ٱلأَرْضِ } بدل من { نُفُوراً } أو مفعول لأجله { وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ } معطوف على استكبارا.
والمراد بمكرهم السيئ: تصميمهم على الشرك، تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم، من أجل المعاندة للحق، والاستكبار عنه، ومن أجل المكر السيئ الذى استولى على نفوسهم، والحق الدفين الذى فى قلوبهم.
وقوله { ٱلسَّيِّىءِ } صفة لموصوف محذوف. وأصل التركيب: وأن مكروا المكر السيئ، فأقيم المصدر مقام أن والفعل، وأضيف إلى ما كان صفة له.
وقوله - تعالى -: { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } بيان لسوء عاقبة مكرهم، وأن شره ما نزل إلا بهم.
وقوله: { يَحِيقُ } بمعنى يحيط وينزل. يقول: حاق بفلان الشئ، إذا أحاط ونزل به. أى: ولا ينزل ولا يحيط شر لك المكر السيئ إلا بأهله الماكرين.
قال صاحب الكشاف: لقد حاق بهم يوم بدر. وعن النبى صلى الله عليه وسلم:
"لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا، فإن الله - تعالى - يقول: { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً، فإن الله - تعالى - يقول: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ }" .
وقال الآلوسى -رحمه الله -: والاية عامة على الصحيح، والأمور بعواقبها، والله - تعالى - يمهل ولا يهمل، ووراء الدنيا الآخرة، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.
وبالجملة: من مكر به غيره، ونفذ فيه المكر عاجلاً فى الظاهر، ففى الحقيقة هو الفائز، والماكر هو الهالك.
وقوله - تعالى -: { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ آلأَوَّلِينَ } حض لهم على الاستجابة للحق، وترك المكر والمخادعة والعناد. والسنة: الطريقة..
أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا، فهل ينتظر هؤلاء الماكرون، إلا طريقتنا فى الماكرين من قبلهم. وهى إهلاكهم ونزول العذاب والخسران بهم؟ إنهم ما ينتظرون إلا ذلك.
وقوله - سبحانه -: { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } تأكيد لثبات سنته - تعالى - فى خلقه، وتعليل لما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب.
أى: هذه سنتنا وطريقتنا فى الماكرين والمكذبين لرسلهم، أننا نمهلهم ولا نهملهم، ونجعل العاقبة السيئة لهم. ولن تجد لسنة الله - تعالى - فى خلقه تبديلا بأن يضع غيرها مكانها، ولن تجد لها تحويلا عما سارت عليه وجرت به.
قال الجمل ما ملخصه: قوله: { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ آلأَوَّلِينَ } مصدر مضاف لمفعوله تارة كما هنا، ولفاعله أخرى كقوله { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } لأنه - تعالى - سنها بهم، فصحت إضافتها للفاعل وللمفعول، والفاء فى قوله { فَلَن تَجِدَ } لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب. ونفى وجدان التبديل والتحويل، عبارة عن نفى وجودهما بالطريق البرهانى، وتخصيص كل منهما بنفى مستقل لتأكيد انتفائهما.
والمراد: بعدم التبديل. أن العذاب لا يبدل بغيره. وبعدم التحويل: أنه لا يحول عن مستحقه إلى غيره. وجمع بينهما هنا: تعميما لتهديد المسئ لقبح مكره.
ثم ساق لهم - سبحانه - وما يؤكد عدم تغيير سنته فى خلقه، بأن حضهم على الاعتبار بأحوال المهلكين من قبلهم، والذين يرون بأعينهم آثارهم، فقال - تعالى -: { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً }.
أى أعمى هؤلاء الماكرون عن التدبر، ولم يسيروا فى الأرض، فيروا بأعينهم فى رحلاتهم إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى غيرهما، كيف كانت عاقبة المكذبين من قبلهم، لقد دمرناهم تدميرا، مع أنهم كانوا أشد من مشركى مكة قوة، وأكثر جمعا { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } أى وما كان من شأن الله - تعالى - أن يعجزه شئ من الأشياء، سواء أكان فى السماوات أم فى الأرض. بل كل شئ تحت أمره وتصرفه.
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { كَانَ عَلِيماً } بكل شئ { قَدِيراً } على كل شئ.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان جانب من رحمته بعباده فقال { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ } من الذنوب أو الخطايا.
{ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا } أى: على ظهر الأرض { مِن دَآبَّةٍ } من الدواب التى تدب عليها. { وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو يوم القيامة.
{ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } الذى حدده - سبحانه - لحسابهم، جازاهم بما يستحقون { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } أى: لا يخفى عليه شئ من أحوالهم.
وبعد فهذا تفسير لسورة فاطر. نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه، ونافعاً لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.