خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٦٥
وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ
٦٦
وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ
٦٧
وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
٦٨
-يس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد باليوم فى قوله - تعالى -: { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ... } يوم القيامة.
وقوله: { نَخْتِمُ } من الختم، والختم الوسم على الشئ بطابع ونحوه، مأخوذ من وضع الخاتم على الشئ وطبعه فيه للاستيثاق، لكى لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخله ما هو خارج عنه.
أى: فى يوم القيامة نختم على أفواه الكافرين فنجعلها لا تنطق، وإنما تكلمنا أيديهم، وتشهد عليهم أرجلهم بما كانوا يكسبونه فى الدنيا من أقوال باطلة، وأفعال قبيحة.
قالوا: وسبب الختم على أفواههم، أنهم أنكروا أنهم كانوا مشركين فى الدنيا، كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى قوله - تعالى -:
{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } أو ليكونوا معروفين لأهل الموقف فى ذلك اليوم العصيب، أو لأن إقرار غير الناطق أبلغ فى الحجة من إقرار الناطق، أو ليعلموا أن أعضاءهم التى ارتكبت المعاصى فى الدنيا، قد صارت شهودا عليهم فى الآخرة.
وجعل - سبحانه ما تنطق به الأيدى كلاما، وما تنطق به الأرجل شهادة، لأن مباشرة المعاصى - غالباً - تكون بالأيدى، أما الأرجل فهى حاضرة لما ارتكب بالأيدى من سيئات، وقول الحاضر على غيره شهادة بما له، أما قول الفاعل فهو إقرار ونطق بما فعله.
قال الجمل: وقال الكرخى: أسند سبحانه فعل الختم إلى نفسه، وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدى والأرجل، لئلا يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا، أو قهراً، والإِقرار مع الإِجبار غير مقبول. فقال: تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم، أى باختيارها بعد إقدار الله لها على الكلام، ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث، التى صرحت بأن أعضاء الإِنسان تشهد عليه يوم القيامة بما ارتكبه فى الدنيا من سيئات. ومن تلك الأحاديث ما جاء عن أنس بن مالك - رضى الله عنه - أنه قال:
"كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: أتدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال من مجادلة العبد ربه يوم القيامة.
يقول: رب ألم تُجِرنى من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز عليَّ إلا شاهداً من نفسي، فيقول الله - تعالى - له: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وبالكرام الكاتبين شهوداً.
قال: فيختم على فيه. ويقال لأركانه - أي لأعضائه - : انطقى. فتنطق بما عمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً وسحقاً فعنكن كنت أناضل"
.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء الكافرين هم فى قبضته فى كل وقت فقال: { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ }.
وقوله: { لَطَمَسْنَا } الطمس إزالة أثر الشئ عن طريق محوه . يقال: طمست الشئ طمسا - من باب ضرب - بمعنى محوته وأزلت أثره، والمطموس والطميس الأعمى. ومفعول المشيئة محذوف. والصراط: الطريق وهو منصوب بنزع الخافض.
أى: ولو نشاء طمس أعينهم بأن نمحو عنها الرؤية والإِبصار لفعلنا، ولكنا لم نفعل بهم ذلك فضلا منا عليهم، ورحمة بهم، فكان من الواجب عليهم أن يقابلوا نعمنا بالشكر لا بالكفر.
وقوله - سبحانه -: { فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ } معطوف على { لَطَمَسْنَا } على سبيل الفرض.
أى: لو نشاء محو أبصارهم لمحوناها، فلو أرادوا فى تلك الحالة المبادرة إلى الطريق ليسيروا فيه، أو ليعبروه لما استطاعوا ذلك. لأنهم كيف يستطيعون ذلك وهم لا يبصرون شيئاً.
فالاستفهام فى قوله - تعالى -: { فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } لاستبعاد اجتيازهم الطريق، ونفى قدرتهم على التصرف.
وقوله - سبحانه -: { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } والمسخ: تبديل الخلقة وتحويلها من حال إلى حال، ومن هيئة إلى هيئة.
أى: وفى قدرتنا إذا شئنا، أن نغير صورهم الإِنسانية إلى صور أخرى قبيحة، كأن نحولهم إلى قردة أو حيوانات وهم { عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ } أى: وهم فى مكانهم الذى يقيمون فيه { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ } بسبب هذا المسخ { مُضِيّاً } أى: ذهابا إلى مقاصدهم { وَلاَ يَرْجِعُونَ } أى: ولما استطاعوا - أيضا - إذا ذهبوا أن يرجعوا.
أى: فى إمكاننا أن نمسخهم وهم جالسون فى أماكنهم، فلا يقدرون أن يمضوا إلى الأمام، أو أن يعودوا إلى الخلف.
فالمقصود بالآيتين الكريمتين تهديدهم على استمرارهم فى كفرهم، وبيان أنهم تحت قدرة الله - تعالى - وفى قبضته، وأنه - سبحانه - قادر على أن يفعل بهم ما يشاء من طمس للأبصار، ومن مسخ للصور، ومن غير ذلك مما يريده - تعالى -.
ثم بين - سبحانه - أحوال الإِنسان عندما يتقدم به العمر فقال: { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ }
وقوله: { نُّعَمِّرْهُ } من التعمير. بمعنى إطالة العمر.
قال القرطبى: وقوله: { نُنَكِّسْهُ } قرأه عاصم وحمزة - بضم النون الأولى وتشديد الكاف - من التنكيس. وقرأه الباقون: { نَنْكُسُه } - بفتح النون الأولى وضم الكاف - من نكست الشئ أنكُسُه نَكْساً إذا قلبته على رأسه فانتكس.
قال قتادة: المعنى: أنه يصير إلى حال الهرم الذى يشبه حال الصبا... قال الشاعر:

من عاش أَخْلَقَت الأيام جِدَّتَهوخانه ثقتاه السمع والبصر

فطول العمر يصير الشباب هَرَما، والقوة ضعفا، والزيادة نقصا.. وقد استعاذ النبى صلى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر..
والمعنى: "ومن نطل عمره ننكسه فى الخلق" أى: نرده إلى أرذل العمر، فنجعله - بقدرتنا - ضعيفا بعد أن كان قويا، وشيخا بعد أن كان شابا فتيا، وناقص العقل بعد أن كان مكتمله... { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } ذلك - أيها الناس - مع أنه من الأمور المشاهدة أمام أبصاركم، وتعرفون أن من قدر على تحويل الإِنسان من ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى ضعف.. قادر - أيضاً - على إعادته إلى الحياة مرة أخرى بعد موته.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ } وقوله - سبحانه - { وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد هددت الكافرين بسوء المصير إذا استمروا فى كفرهم، وبينت جانباً من فضل الله - تعالى - عليهم، لعلهم يفيئون إلى رشدهم، ويشكرونه على نعمه.
ثم رد - سبحانه - على الكافرين الذين وصفوا النبى صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر، كما قالوا عن القرآن أنه شعر، فقال - تعالى - :
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا... }.