خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
٧٧
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
٧٨
قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
٧٩
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ
٨٠
أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ
٨١
إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٨٢
فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٨٣
-يس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآيات، "أن أُبيَّ بن خلف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفتته ويذريه في الهواء ويقول: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم. يميتك الله - تعالى - ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار" . ونزلت هذه الآيات إلى آخر السورة...
والمراد بالإِنسان: جنسه. ويدخل فيه المنكرون للبعث دخولا أوليا.
وأصل النطفة: الماء القليل الذى يبقى فى الدلو أو القربة. وجمعها نطف ونطاف. يقال: نطفت القربة، إذا تقاطر ماؤها بقلة.
والمراد بها هنا: المنى الذى يخرج من الرجل، إلى رحم المرأة.
والخصيم: الشديد الخصام والجدال لغيره، والمراد به هنا: الكافر والمجادل بالباطل.
والمعنى: أبلغ الجهل بهذا الإِنسان، أنه لم يعلم أنا خلقناه بقدرتنا، من ذلك الماء المهين الذى يخرج من الرجل فيصب فى رحم المرأة، وأن من أوجده من هذا الماء قادر على أن يعيده إلى الحياة بعد الموت.
لقد كان من الواجب عليه أن يدرك ذلك، ولكنه لغفلته وعناده، بادر بالمبالغة فى الخصومة والجدل الباطل. وجاهر بذلك مجاهرة واضحة، مع علمه بأصل خلقته.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله - تعالى -: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ } كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث، بعد ما شاهدوا فى أنفسهم ما يوجب التصديق به... والهمزة للإِنكار والتعجب من أحوالهم، وإيراد الإِنسان مورد الضمير، لأن مدار الإِنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان. والمراد بالإِنسان الجنس. والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقا.
وقوله: { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } عطف على الجملة المنفية، داخل فى حيز الإِنكار والتعجب كأنه قيل: أو لم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها، فأظهر الخصومة فى أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة...
وقوله - تعالى -: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } معطوف على الكلام المتقدم، وداخل فى حيز الإِنكار.
أى: أن هذا الإِنسان الجاهل المجادل بالباطل، لم يكتف بذلك، بل ضرب لنا مثلاً هو فى غاية الغرابة، حيث أنكر قدرتنا على إحياء الموتى، وعلى بعثهم يوم القيامة، فقال: - دون أن يفطن إلى أصل خلقته - من يحيى العظام وهى رميم، أى: وهى بالية أشد البلى. فرميم بزنة فعيل بمعنى فاعل. من رَمَّ اللازم بمعنى بَلِىَ، أو بمعنى مفعول، من رم المتعدى بمعنى أبْلَى يقال: رمه إذا أبلاه. فيستوى فيه المذكر والمؤنث.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم سمى قوله: { مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } مثلاً؟
قلت: لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهى إنكار قدرة الله - تعالى - على إحياء الموتى.. مع أن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله - تعالى - بالقدرة عليه، بدليل النشأة الأولى..
ثم لقن الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يخرس ألسنة المنكرين للبعث فقال: { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }...
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاهلين المنكرين لإِعادة الحياة إلى الأجساد بعد موتها، قل لهم: يحيى هذه الأجسام والأجساد البالية، الله - تعالى - الذى أوجدها من العدم دون أن تكون شيئاً مذكوراً، ومن قدر على إيجاد الشئ من العدم قادر من باب أولى على إعادته بعد هلاكه. وهو - سبحانه - بكل شئ فى هذا الوجود عليم علماً تاماً، لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء، سواء أكان هذا الشئ صغيراً أم كبيراً، مجموعاً أم مفرقا.
قال الشوكانى: وقد استدل أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعى بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة - أى أنها بعد الموت تكون نجسة.
وقال الشافعى: لا تحله الحياة، وأن المراد بقوله: { مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ } من يحيى أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف. ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر.
وقوله - تعالى -: { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } دليل آخر على إمكانية البعث وهو بدل من قوله - تعالى - قبل ذلك: { ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ... }.
والمراد بالشجر الأخضر: الشجر النَّدِى الرطب، كشجر المَرْخِ والعَفَار وهما نباتان أخضران إذا ضرب أحدهما بالآخر اتقدت منهما شرارة نار بقدرة الله - تعالى -.
قال ابن كثير: المراد بذلك سَرْح - أى: شجر المرخ والعفار. ينبت بأرض الحجاز فيأتى من أراد قدح نار وليس معه زناد، فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار من بينهما، كالزناد سواء سواء.
روى هذا عن ابن عباس - رضى الله عنهما - وفى المثل: "لكل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار".
أى: لكل شجر حظ من النار، ولكن أكثر الأشجار حظا من النار: المرخ والعفار. فهو مثل يضرب فى تفصيل بعض الشئ على بعض.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنكرين للبعث، يحيى الأجساد البالية الله - تعالى - الذى أنشأها أول مرة، والذى جعل لكم - بفضله ورحمته وقدرته - من الشجر الأخضر الرطب ناراً، فإذا أنتم من هذا الشجر الأخضر توقدون النار. وتنتفعون بها فى كثير من أحوال حياتكم.
وإذاً فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر - مع ما فيه من المائية المضادة لها - كان أقدر على إعادة الأجساد بعد فنائها.
ثم أضاف - سبحانه - إلى توبيخهم على جهلهم وكفرهم توبيخاً آخر. فقال: { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم }.
والاستفهام - كسابقه - للإِنكار والتعجيب من جهالاتهم، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام والضمير فى "مثلهم" يعود إلى المنكرين للبعث.
والمعنى: إن من قدر على خلق السموات والأرض - وهما فى غاية العظم - قادر من باب أولى على إعادة خلق البشر، الذى هو صغير الشكل، ضعيف القوة.
وجملة: { بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } جواب من جهته - تعالى - وتصريح بما أفاده الاستفهام الإِنكارى، من تقرير ما بعد النفى، وتأكيد قدرته - سبحانه - على الخلق والإِعادة. لأن "بلى" حرف جواب، يؤتى به لإِثبات فعل ورد قبله منفياً.
أى: بلى إنه لقادر - سبحانه - على أن يخلق مثلهم، وعلى أن يعيدهم للحياة مرة أخرى، وهو - سبحانه - "الخلاق" أى الكثير المخلوقات "العليم" أى: الكثير العلم بحيث لا يخفى عليه شئ.
ثم أكد - سبحانه - شمول قدرته لكل شئ فقال: { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }.
أى: إنما شأنه - سبحانه - فى إيجاد الشئ، أنه إذا أراد إحداثه، أن يقول له كن، أى: كن موجوداً فيكون، أى: فهذا الشئ يكون ويوجد فى الحال... قال الشاعر:

إذا ما أراد الله أمراً فإنمايقول له "كن" قوله فيكون

ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بتنزيهه - تعالى - عن كل نقص، فقال { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
أى: فتنزه الله - تعالى - الذى له ملك كل شئ ملكا تاما، والذى إليه المرجع والمآب، عن كل ما يقوله الكافرون من عدم قدرته على إحياء الموتى.
فهو - سبحانه - لا يعجزه شئ، ولا يخفى على علمه شئ، ولا يحول دون قدرته شئ
{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } ). وبعد: فهذا تفسير محرر لسورة "يس" نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه، ونافعاً لعباده.
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.