الوسيط في تفسير القرآن الكريم
وقوله - تعالى -: { ٱشْمَأَزَّتْ.. } أى: نفرت وانقبضت وذعرت، مأخوذ من الشَّمْزِ، وهو نفور النفس مما تكرهه.
قال الإِمام الرازى: أعلم أن هذا نوع آخر من الأعمال القبيحة للمشركين وهو أنك إذا ذكرت الله وحده.. ظهرت آثار النفرة فى وجوههم وقلوبهم، وإذا ذكرت الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح.. وذلك يدل على الجهل والحماقة، لأن ذكر الله رأس السعادة، وعنوان الخيرات، وأما ذكر الأصنام فهو رأس الحماقات..
أى: إنك - أيها الرسول الكريم - إذا ذكرت الله - تعالى - وحده، ونسبت إليه ما يليق به - سبحانه - من وحدانيته وقدرته.. دون أن تذكر معه الأصنام اشمأزت وانقبضت وذعرت نفوس هؤلاء المشركين الجهلاء، أما إذا ذكرت آلهتهم سواء أذكرت الله - تعالى - معها أم لم تذكره، إذا هم يستبشرون ويبتهجون.
والتعبير بالاشمئزاز والاستبشار، يشعر بأنهم قد بلغوا الغاية فى الأمرين، فهم عند ذكر الله - تعالى - تمتلئ قلوبهم إلى نهايتهم غما وهما وانقباضا وذعرا. وعند ذكر أصنامهم تمتلئ قلوبهم إلى نهايتها - أيضا - بهجة وسرورا حتى لتظهر آثار ذلك على بشرتهم...
وحالهم هذا يدل على أنهم قد بلغوا الغاية - أيضا - فى الجهالة والسفاهة والغفلة..
وهذا الذى ذكرته الآية الكريمة من اشمئزاز الكافرين عند ذكر الله - تعالى - واستبشارهم عند ذكر غيره، نرى ما يشبهه عند كثير من الناس...
فكم من أناس إذا حدثتهم عن ذات الله - تعالى - وصفاته، وعن سلامة دينه وتشريعاته، وعن آداب قرآنه وهداياته، وعن كل ما يتعلق بوجوب تنفيذ أوامره ونواهيه.. انقبضت نفوسهم، واكفهرت وجوههم، وتمنوا لو أنك تركت الحديث عن ذلك.
أما إذا سمعوا ما يتعلق بالتشريعات والنظم التى هى من صنع البشر - استبشرت نفوسهم، وابتهجت أساريرهم.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } وقال الآلوسى: وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التى وصف الله - تعالى - بها المشركين، يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم.. وينقبضون من ذكر الله - تعالى - وحده - ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه - عز وجل - وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله. وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره..
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يلتجئ إلى خالقه وحده من شرور هؤلاء المشركين، وأن يفوض أمره إليه، فقال - تعالى - { قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }.
ولفظ: { ٱللَّهُمَّ } أصله يا الله. فلما استعمل دون حرف النداء. عوض عنه بالميم المشددة التى فى آخره.
ولفظ "فاطر، وعالم" منصوبان على النداء.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - على سبيل الاستعاذة والاعتزال لما عليه هؤلاء المشركون من جهل وسفه، يا الله، يا خالق السموات والأرض ويا عالم الغائب والمشاهد والخفى والظاهر من أمور خلقك، أنت وحدك الذى تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون فى الدنيا، فتجازى كل نفس بما تستحقه من ثواب أو عقاب.
وما دام الأمر كذلك، فاهدنى إلى صراط المستقيم، وجنبنى الشرك والمشركين.
فالمقصود بالآية الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما فعله المشركون معه، وإرشاده إلى ما يعصمه من كيدهم. وتعليم العباد وجوب الالتجاء إلى الله - تعالى - وحده - لدفع كيد أعدائه عنهم.
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسير لهذه الآية جملة من الأحاديث، منها ما رواه الإِمام مسلم فى صحيحه عن أبى مسلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة: بأى شئ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟
قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته بقوله: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض. عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدنى لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم...".
وقال صاحب الكشاف: "بعل - بكسر العين - أى: دهش وفزع رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة شكيمتهم فى الكفر، فقيل له: "ادع الله بأسمائه الحسنى، وقل: أنت وحدك تقدر على الحكم بينى وبينهم، ولا حيلة لغيرك فيهم" وفيه وصف حالهم، وإعذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له، ووعيد لهم..
وبعد هذه التسلية من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم بين - سبحانه - لهؤلاء الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم.. بين لهم ما لهم من سوء المصير فقال: { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ.. }.
أى: أن العذاب المعد لهؤلاء المشركين شئ رهيب، ولو أن لهم جميع ما أعد فى الأرض من خيرات، ولهم - أيضا - مثل ذلك منضما إليه، لقدموه فداء لأنفسهم، أملا فى النجاة من سوء العذاب الذى ينتظرهم يوم القيامة.
فالآية الكريمة وعيد لهم ليس بعده وعيد، وتيئيس لهم من النجاة ليس بعده تيئيس.
ومن الآيات الكثيرة التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ثم هددهم - سبحانه - بتهديد آخر فقال: { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ }.
أى: وظهر لهم يوم القيامة من ألوان العقوبات، ومن فنون الآلام، ما لم يكونوا فى الدنيا يظنون أنه سيقع بهم، وما لم يكن واردا فى حسبانهم.
قال صاحب الكشاف: وقوله - تعالى - { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ... } وعيد لهم بعذاب مادروا كنهه لفظاعته وشدته، وهو نظير قوله - تعالى - فى الوعد: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ.. } والمعنى: وظهر من سخط الله وعذابه، ما لم يكن قط فى حسابهم، وما لم يحدثوا به أنفسهم.
وقيل: عملوا أعمالا حسبوها حسنات، فإذا هى سيئات.
وعن سفيان الثورى أنه قرأها فقال: ويل. لأهل الرياء. ويل لأهل الرياء.
وجزع بعض الصالحين عند موته، فسئل عن سبب ذلك فقال: أخشى أن يبدو لى من الله ما لم أحتسبه، ثم قرأ هذه الآية.
ثم تهديد ثالث يتمثل فى قوله - تعالى -: { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
والمراد بسيئات ما كسبوا: الأعمال السيئة التى اكتسبوها فى دنياهم، وهذا البدو والظهور يكون عند عرض صحائف أعمالهم عليهم. و "ما" موصولة أو مصدرية.
أى: وظهر لهم عند عرض صحائف أعمالهم عليهم يوم القيامة، الذى عملوه واكتسبوه فى الدنيا من رذائل { وَحَاقَ بِهِم } أى: وأحاط ونزل بهم العذاب الذى كانوا يستهزئون به فى حياتهم ويتهكمون بمن كان يحذرهم منه فى الدنيا.
وبعد هذا التصوير الرهيب لمصير هؤلاء المشركين يوم القيامة، عادت السورة إلى بيان تناقضهم مع أنفسهم، فهم إن سئلوا عمن خلق السموات والأرض، قالوا: إن خالقهما هو الله، ومع ذلك يعبدون غيره وتشمئز قلوبهم عند ذكره وحده.
وهم يتقربون إلى آلهتهم بالطاعات، ومع ذلك فهم عند نزول الشدائد بهم، ينسون تلك الآلهة ويتجهون إلى الله - تعالى - وحده بالدعاء.
لنستمع إلى السورة الكريمة وهى تحكى أحوالهم فى السراء والضراء فتقول: { فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ... }
والمراد بالإِنسان هنا هو جنس الكفار، بدليل سياق، الآيات وسباقها ويصح أن يراد به جنس الإِنسان عموما، ويدخل فيه الكفار دخولا أولياً.
أى: فإذا أصاب الإِنسان ضر، من مرض أو فقر أو نحوهما، دعانا قاعدا أو قائما. لكى نكشف عنه ما نزل به من بلاء.
{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا... } أى: ثم إذا أجبنا لهذا الإِنسان دعوته وكشفنا عنه الضر وأعطيناه على سبيل التفضل والإِحسان نعمة من عندنا، بأن حولنا مرضه إلى صحة، وفقره إلى غنى.
{ قَالَ } هذا الإِنسان الظلوم الكفار { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } منى بوجوه المكاسب، أو على علم منى بأن سأعطى هذه النعمة، بسبب استعدادى واجتهادى وتفوقى فى مباشرة الأسباب التى توصل إلى الغنى والجاه.
وقال - سبحانه -: { خَوَّلْنَاهُ } لأن التخويل معناه العطاء بدون مقابل، مع تكراره مرة بعد مرة.
وجاء الضمير فى قوله { أُوتِيتُهُ } مذكرا مع أنه يعود إلى النعمة. لأنها بمعنى الإِنعام. أى: إذا خولناه شيئاً من الإِنعام الذى تفضلنا به عليه، قال إنما أوتيته على علم وتبوغ عندى.
وقوله - تعالى - { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } رد لقوله ذلك، وزجر لهذا الجاحد عما تفوه به.
أى: ليس الأمر كما زعم هذا الجاحد، فإننا ما أعطيناه هذه النعم بسبب علمه - كما زعم - وإنما أعطيناه ما أعطيناه على سبيل الإِحسان منا عليه، وعلى سبيل الابتلاء والاختبار له، ليتبين قوى الإِيمان من ضعيفه، وليتميز الشاكر من الجاحد.
{ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق، ولا يفطن إليها إلا من استنارت بصيرته، وطهرت سيريرته.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما السبب فى عطف هذه الآية بالفاء، وعطف مثلها فى أول السورة بالواو؟ قلت: السبب فى ذلك أن هذه وقعت مسببة من قوله { وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } على معنى أنهم يشمئزون من ذكر الله،
ويستبشرون بذكر الآلهة. فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره، دون من استبشر بذكره، وما بينهما من الآى اعتراض..
ثم بين - سبحانه - المصير السيئ للجاحدين السابقين ليعتبر بهم اللاحقون فقال: { قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }.
والضمير فى قوله { قَالَهَا } يعود إلى ما حكاه - سبحانه - عن هذا الإِنسان الجاحد من قوله: { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ }.
فهذه الكلمة قد قالها قارون عندما نصحه الناصحون، فقد رد عليهم بقوله { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } فكانت نهايته أن خسف الله به وبداره الأرض.
أى: قد قال هذه الكلمة الدالة على الجحود والغرور، بعض الأقوام الذين سبقوا قومك والذين يشبهونهم فى البطر والكنود، فكانت نتيجة ذلك أن أخذهم الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر، ولم ينفعهم شيئا ما جمعوه من حطام الدنيا، وما اكتسبوه من متاعها.
{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ... } أى: فأصاب هؤلاء السابقين، العقاب الذى يستحقونه بسبب سيئاتهم التى اكتسبوها واقترفوها فى دنياهم.
فالكلام على حذف مضاف. أى: فأصابهم جزاء سيئات كسبهم بأن أنزل الله - تعالى - بهم العقوبة التى يستحقونها بسبب إصرارهم على الكفر والمعاصى.
{ وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ } أى: من هؤلاء المشركين المعاصرين لك - أيها الرسول الكريم -.
{ سَيُصِيبُهُمْ } - أيضا - سيئات ما كسبوا، كما أصاب الذين من قبلهم.
{ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } أى: وما هم بفائتين أو هاربين من عذابنا.
{ أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } أى: أعموا عن التفكر والإبصار، ولم يشاهدوا بأعينهم أن الله - تعالى - يوسع الرزق لمن يشاء من عباده، ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه منهم، إذ أن ذلك مرجعه إلى مشيئته وحكمته - سبحانه - إذ سعة الرزق ليست دليلا على رضاه، كما أن ضيقه ليس دليلا على غضبه.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } الذى ذكرناه { لآيَاتٍ } واضحات { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بالحق ويستجيبون له، وينتفعون بالهدايات التى نسوقها لهم.
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة، قد صورت حال المشركين أكمل تصوير، كما بينت ما أُعِدَّ لهم من عذاب مقيم، بسبب إصرارهم على كفرهم، وإعراضهم عن دعوة الحق.
ثم فتح - سبحانه - لعباده باب رحمته، ونهاهم عن اليأس من مغفرته، وأمرهم أن يتوبوا إليه توبة صادقة نصوحا، قبل أن يفاجئهم الموت والحساب، فقال - تعالى -:
{ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ... }.