خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٥٣
وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
٥٤
وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ
٥٥
أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ
٥٦
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ
٥٧
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٨
بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ
٥٩
-الزمر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } روايات منها: ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال: لما اجتمعنا على الهجرة. تواعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السَّهْمى وعيَّاش بن أبى ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضَاةَ بنى غفار - أى: غدير بنى غفار - وقلنا: من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه فأصبحت أنا وعياش بن عتبة، وحبس عنا هشام، وإذا به قد فُتِن فافتَتنَ، فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله - عز وجل - وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة، وكانوا هم - أيضاً - يقولون هذا فى أنفسهم. فأنزل الله - عز وجل - فى كتابه: { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ.. } إلى قوله - تعالى - { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } قال عمر: فكتبتها بيدى، ثم بعثتها إلى هشام. قال هشام: فلما قدمت على خرجت بها إلى ذى طوى فقلت: اللهم فهمنيها، فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيرى فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأمر فى قوله - تعالى -: { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإضافة العباد إلى الله - تعالى - للتشريف والتكريم.
والإِسراف: تجاوز الحد فى كل شئ، وأشهر ما يكون استعمالا فى الإِنفاق، كما فى قوله - تعالى -:
{ يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } والمراد بالإِسراف هنا: الإِسراف فى اقتراف المعاصى والسيئات، والخطاب للمؤمنين المذنبين. وعدى الفعل "أسرفوا" بعلى، لتضمنه معنى الجناية، أى جنوا على أنفسهم.
والقُنُوط: اليأس، وفعله من بابى ضرب وتعب. يقال: فلان قانط من الحصول على هذا الشئ، أى يائس من ذلك ولا أمل له فى تحقيق ما يريده.
والمعنى: قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المؤمنين الذين جنوا على أنفسهم بارتكابهم للمعاصى، قل لهم: لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - ومن مغفرته لكم.
وجملة { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } تعليلية. أى: لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى لأنه هو الذى تفضل بمحو الذنوب جميعها. لمن يشاء من عباده المؤمنين العصاة.
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أى: هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده المؤمنين، فهم إن تابوا من ذنوبهم قبل - سبحانه - توبتهم كما وعد تفضلا منه وكرما، وإن ما توا دون أن يتوبوا، فهم تحت رحمته ومشيئته، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم، ثم أدخلهم الجنة بفضله وكرمه.
أما غير المؤمنين، فإنهم إن تابوا من كفرهم ودخلوا فى الإِسلام، غفر - سبحانه - ما كان منهم قبل الإِسلام لأن الإِسلام يَجُبّ ما قبله.
وإن ماتوا على كفرهم فلن يغفر الله - تعالى - لهم، لقوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } قال الإِمام الشوكانى: واعلم أن هذه الآية أرجى آية فى كتاب الله، لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولا: أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم، ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف فى المعاصى.. ثم عقب على ذلك بالنهى عن القنوط من الرحمة.. ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ.. } فالألف واللام قد صيرت الجمع الذى دخلت عليه للجنس الذى يستلزم استغراق أفراده، فهو فى قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآنى وهو الشرك.
ثم لم يكتف بما أخبر به عباده من مغفرة كل ذنب، بل أكد ذلك بقوله { جميعا } فيالها من بشارة ترتاح لها النفوس.. وما أحسن تعليل هذا الكلام بقوله: { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ.. }.
وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه: وفى هذه الآية من أنواع المعانى والبيان أشياء حسنة، منها إقباله عليهم، ونداؤهم، ومنها: إضافتهم إليه إضافة تشريف، ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة، فى قوله: { مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ }، ومنها: إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى، ومنها: إعادة الظاهر بلفظه فى قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ } ومنها: إبراز الجملة من قوله: { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } مؤكدة بإن، والفصل، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الجملة السابقة.
وقال عبد الله بن مسعود وغيره: هذه أرجى آية فى كتاب الله تعالى.
وبعد أن فتح - سبحانه - لعباده باب رحمته فتحا واسعا كريما.. أتبع ذلك بحضهم على التوبة والإِنابة إليه، حتى يزيدهم من فضله وإحسانه فقال: { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ }.
أى قل لهم - أيها الرسول الكريم - لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا، وارجعوا إليه بالتوبة والإِنابة، وأخلصوا له العبادة، من قبل أن ينزل بكم العذاب الذى لا تستطيعون دفعه ثم لا تجدون من ينجيكم منه.
فأنت ترى أن الآية الأولى بعد أن فتحت للعصاة باب رحمة الله على مصراعيه، جاءت الآية الثانية فحثتهم على التوبة الصادقة النصوح، حتى تكون رحمة الله - تعالى - بهم أكمل وأتم وأوسع، فإن التوبة النصوح سبب فى تحويل السيئات إلى حسنات.
كما قال - تعالى -:
{ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ثم أمرهم باتباع أوامر القرآن الكريم ونواهيه فقال: { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ }
أى: واتبعوا هذا القرآن الكريم، الذى هو أحسن ما أنزله - سبحانه - إليكم، بسبب ما اشتمل عليه من هدايات سامية، ومن تشريعات حكيمة، ومن آداب قويمة.
فإن اتباع ما اشتمل عليه هذا القرآن من توجيهات. يؤدى إلى السعادة فى الدنيا والآخرة.
وقوله: { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } متعلق بالأمر بالاتباع، وإرشاد إلى وجوب الامتثال بدون تأخير أو تسويف.
أى: سارعو إلى اتباع إرشادات وتشريعات وآداب هذا القرآن، من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وبدون مقدمات، بحيث لا تشعرون بإتيانه إلا عند نزوله.
فالآية الكريمة تقرير وتأكيد لما قبلها: من الدعوة إلى المسارعة بالتوبة وبالعمل الصالح.
وقوله: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّه... } فى موضع المفعول لأجله بتقدير مضاف محذوف.
أى: اتبعوا ما أمرناكم به، واحذروا ما نهيناكم عنه، كراهة أن تقول نفس يوم القيامة { يٰحَسْرَتَا } أى: يا ندامتى { عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّه... } أى: بسبب تفريطى وتقصيرى فى طاعة الله، وفى حقه - تعالى -.
وأصل الجنب والجانب: الجهة المحسوسة للشئ، وأطلق على الطاعة على سبيل المجاز، حيث شبهت بالجهة. بجامع تعلق كل منهما - أى الجانب والطاعة - بصاحبه. إذ الطاعة لها تعلق بالله - تعالى -. كما أن الجهة لها تعلق بصاحبها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم نكرت "نفس"؟ قلت: لأن المراد بها بعض الأنفس وهى نفس الكافر. ويجوز أن يكون نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج فى الكفر شديد، أو بعذاب عظيم، ويجوز أن يراد التكثير، كما قال الأعشى:

دعا قومه حولي فجاءوا لنصرهوناديت قوماً بالمسناة غيباً
ورب بقيع لو هتفت بجوهأتاني كريم ينفض الرأس مغضباً

وهو يريد: أفواجا من الكرام ينصرونه، لا كريما واحدا..
وجملة { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } فى محل نصب على الحال. أى: فرطت فى جنب الله وطاعته، والحال أنى لم أكن إلا من الساخرين بدينه، المستهزئين بأتباع هذا الدين الحق.
قال قتادة: لم يكفه أنه ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها.
ثم ذكر - سبحانه - مقالة أخرى مما تقوله تلك النفس فقال: { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } إلى طاعته واتباع دينه { لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } للشرك والمعاصى، ومن الذين صانوا أنفسهم عما يغضبه - سبحانه - ولا يرضيه.
ثم ذكر - سبحانه - مقالة ثالثة لها فقال: { أَوْ تَقُولَ } هذه النفس { حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ } فى الآخرة { لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً } أى رجعة إلى الدنيا { فَأَكُونَ } فيها { مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } لأقوالهم وأفعالهم، وعقائدهم، بحيث أخلص العبادة لله - تعالى - وأطيعه فى السر والعلن.
وهكذا يصور القرآن الكريم أحوال النفوس فى الآخرة، تصوير مؤثرا بليغاً، يحمل كل عاقل على الإِيمان الصالح الذى ينفعه فى ذلك اليوم الهائل الشديد.
وقوله - سبحانه -: { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } رد منه - عز وجل - على هذا القائل: { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } وتكذيب له فى هذه الدعوى.
والمراد بالآيات: الحجج والبراهين الدالة على حقيقة دين الإِسلام، وعلى رأسها آيات القرآن الكريم.
أى ليس الأمر كما ذكرت أيها النادم على ما فرط منه، من أن الله لم يهدك إلى الطريق القويم، بل الحق أن الله - تعالى قد أرشدك إليه عن طريق إرسال رسوله، وإنزال كتابه، ولكنك كذبت رسوله، واستكبرت عن سماع آيات الله وعن اتباعها، وكنت فى دنياك من الكافرين بها، الجاحدين لصدقها، فأصابك ما أصابك من عذاب الآخرة بسبب أعمالك القبيحة فى الدنيا.
قال الشوكانى: وجاء - سبحانه - بخطاب المذكر فى قوله: "جاءتك، وكذبت، واستكبرت، وكنت" لأن النفس تطلق على المذكر والمؤنث. قال المبرد: تقول العرب نفس واحد. أى، إنسان واحد..
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة، وعن مظاهر قدرة الله - تعالى - وعن تلقين الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يرد به على المشركين. وعن أحوال الناس عند النفخ فى الصور.. قال - تعالى -:
{ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ... }.