خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ
٥
خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ
٦
إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٧
-الزمر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فقوله - تعالى -: { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } تفصيل لبعض أفعاله الدالة على وحدانيته - سبحانه - وقدرته.
أى: الله وحده هو الذى أوجد هذه السموات وتلك الأرض، إيجادا ملتبساً بالحق والحكمة والمصلحة التى تعود عليكم - أيها الناس - بالخير والمنفعة ومن كان شأنه كذلك، استحال أن يكون له شريك أو ولد.
ثم ساق - سبحانه - دليلا ثانيا على وحدانيته فقال: { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ }.
والتكوير فى اللغة: طرح الشئ بعضه على بعض. يقال: كور فلان المتاع، إذا ألقى بعضه على بعض، ومنه كور العمامة. أى: انضمام بعض أجزائها على بعض.
والمقصود أن الليل والنهار كلاهما يكُر على الآخر فيذهبه ويحل محله، بطريقة متناسقة محكمة لا اختلال معها ولا اضطراب.
قال صاحب الكشاف: "والتكوير: اللف واللى. يقال: كارَ العمامة على رأسه وكوَّرها.
وفيه أوجه، منها: أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويأتى مكانه هذا، وإذا غشى مكانه، فكأنما ألبسه ولف عليه، كما يلف اللباس على اللابس.
ومنها: أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه فى تغييبه إياه بشئ ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار.
ومنها: أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض".
قال بعض العلماء ما ملخصه: "والتعبير بقوله "يكور.." تعبير عجيب، يقسر الناظر فيه قسرا على الالتفات إلى ما كشف حديثا عن كروية الأرض فهو يصور حقيقة مادة ملحوظة على وجه الأرض، فالأرض الكروية تدور حول نفسها فى مواجهة الشمس، فالجزء الذى يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا. ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور. وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذى كان عليه النهار. وهذا السطح مكور، فالنهار كان عليه مكورا، والليل يتبعه مكورا كذلك، وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل، وهكذا فى حركة دائبة "يكور - سبحانه - الليل على النهار ويكور النهار على الليل".
واللفظ يرسم الشكل، ويحدد الوضع، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها، وكروية الأرض ودورانها، يفسران هذا التعبير تفسيرا أدق من أى تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية.
ثم ذكر - سبحانه - دليلا ثالثا على وحدانيته وقدرته فقال: { وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى }
والتسخير: التذليل والانقياد والطاعة التامة. أى: وجعل - سبحانه - الشمس والقمر منقادين لأمره انقيادا تاملا وكلاهما يجرى فى مداره إلى الوقت المحدد فى علم الله - تعالى - لنهاية دورانه، وانقطاع حركته.
وهما فى جريانهما يسيران بنظام محكم دقيق غاية الدقة، كما قال - تعالى -:
{ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ }.
وفى تصدير الجملة الكريمة بأداة الاستفتاح { ألا } إشارة إلى كمال الاعتناء بمضمونها، وإلى وجوب التدبر فيما اشتملت عليه.
أى: ألا إن الله - تعالى - :وحده هو الخالق لكل تلك المخلوقات، وهو وحده المتصرف فيها، والمهيمن عليها، وهو وحده { ٱلْعَزِيزُ } الغالب على كل ما سواه، الكثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه توبة نصوحا.
ثم ساق - سبحانه - أدلة أخرى على وحدانية فقال: { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا }.
أى خلقكم - سبحانه - من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم ثم خلق من هذه النفس الواحدة، زوجها وهى أمكم حواء.
قال الشوكانى: والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم. للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم، أدخل فى كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة؛ لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة فى خلقه، وخلق حواء على الصفة المذكورة لم تَجرِبه عادة لكونه - تعالى - لم يخلق أنثى من ضلع رجل غيرها.
وقال الجمل: فإن قلت كيف عطف بثم مع أن خلق حواء من آدم سابق على خلقنا منه؟ أجيب بأن ثم هنا للترتيب فى الإِخبار لا فى الإِيجاد. أو المعطوف متعلق بمعنى واحدة، فثم عاطفة عليه لا على خلقكم، فمعناه: خلقكم من نفس واحدة أفردت بالإِيجاد، ثم شفعت بزوجة. أو هو معطوف على خلقكم، لكن المراد بخلقهم، خلقهم يوم أخذ الميثاق دفعة لا على هذا الخلق، الذى هو فيه الآن بالتوالد والتناسل.
وقوله - تعالى -: { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } بيان لبعض آخر من أفعاله - تعالى - الدالة على وحدانيته وقدرته. والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها وهى قوله: { خلقكم }.
أى: وأنزل لكم من كل من الإِبل والبقر والغنم والمعز زوجين: ذكرا وأنثى يتم بهما التناسل وبقاء النوع.
قالوا: وعبر - سبحانه - عن الخلق بالإِنزال، لما يروى أنه - تعالى - خلق هذه الأنواع فى الجنة ثم أنزلها، فيكون الإِنزال على سبيل الحقيقة.
أو أن الكلام على سبيل المجاز، لأن هذه الأنعام لا تعيش إلا عن طريق ما تأكله من نبات، والنبات لا يخرج إلا بالماء النازل من السماء فكأن الأنعام نازلة من السماء، لأن سبب سببها منزل منها.. أو أن "أنزل" هنا بمعنى أنشأ وأوجد. أو لأن الخلق إنما يكون بأمر من السماء.
وقوله - تعالى - { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } بيان لكيفية خلق ما خلقه الله من الأناسى والأنعام بتلك الطريقة العجيبة.
أى أنه - تعالى - يخلقكم - أيها الناس - بقدرته فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، بأن يحولكم من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى عظام مكسوة باللحم، ثم يحولكم بعد ذلك إلى خلق آخر، وهذه المراحل كلها تتم وأنتم فى ظلمات بطون أمهاتكم، وظلمات الأرحام التى بداخل البطون وظلمات الغشاء الذى بداخل الأرحام والبطون، وذلك كله من أقوى الأدلة على قدرة الله - تعالى - ورعايته لخلقه.
وصدق الله إذ يقول:
{ { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ. فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ } }. واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } يعود إليه - سبحانه - باعتبار أفعاله السابقة. وتصرفون: من الصرف بمعنى الابتعاد عن الشئ إلى غيره.
أى: ذلكم العظيم الشأن الذى ذكرنا لكم بعض مظاهر قدرته، هو الله ربكم الذى له ملك كل شئ، والذى لا معبود بحق سواه، فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟ وكيف تزعمون أن له شريكا أو ولدا.. مع توفر الأدلة على بطلان ذلك.
والمتأمل فى هاتين الآيتين يراهما قد ذكرتا ألوانا من البراهين على وحدانية الله - تعالى - وقدرته، كخلق السموات والأرض بالحق، وتكوير الليل على النهار، والنهار على الليل، وتسخير الشمس والقمر لمنافع الناس، وخلق الناس جميعا من نفس واحدة، ورعايتهم بلطفه وإحسانه فى مراحل حياتهم، وإيجاد الأنعام التى تنفعهم فى شئونهم المختلفة.
ثم بين - سبحانه - أنه غنى عن خلقه، وأنهم هم الفقراء إليه فقال: { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ }.
أى: إن تكفروا - أيها الناس - بعد أن سقنا لكم من الأدلة ما سقنا على صحة الإِيمان وفساد الكفر، فإن الله - تعالى - غنى عنكم وعن إيمانكم وعبادتكم وعن الخلق أجمعين.
ومع ذلك فإنه - سبحانه - لرحمته بكم، لا يرضى لعباده الكفر، أى: لا يحبه منهم ولا يحمده لهم، ولا يجازى الكافر المجازاة التى يجازى بها المؤمن فإن المؤمن له جنات النعيم، أما الكافر فله نار الجحيم.
وإن تشكروا الله على نعمه - أيها الناس - بأن تخلصوا له العبادة والطاعة وتستعملوا نعمه فيما خلقت له، يرض لكم هذا الشكر، ويكافئكم عليه مكافأة جزيلة. بأن يزيدكم من نعمه وإحسانه وخيره.
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أى: ولا تحمل نفس يوم القيامة حمل أخرى، وِإنما كل نفس تجازى على حسب أعمالها فى الدنيا.
{ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ } يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُـمْ } أى: فيخبركم { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فى دنياكم، ويجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أى: عليم بما تخفيه الصدور من أسرار، وبما تضمره القلوب من أقوال وأفعال.. لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء.
قال الجمل فى حاشيته: قوله: { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } معنى عدم الرضا به، لا يفعل فعل الراضى، بأن يأذن فيه ويقر عليه، ويثيب فاعله ويمدحه، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه، ويذم عليه، ويعاقب مرتكبه وإن كان بإرادته، إذ لا يخرج شئ عنها.
أو المعنى: ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله - تعالى - فى شأنهم:
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } فيكون الكلام عاما فى اللفظ خاصا فى المعنى، كقوله - تعالى -: { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } أى بعض العباد.
وبذلك ترى هذه الآية الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة على وحدانية الله - تعالى - وعلى كمال قدرته، وعلى أن من شكر الله - تعالى - على نعمه، فإن عاقبة هذا الشكر تعود على الشاكر بالخير الجزيل، أما من جحد نعم الله - تعالى - وأشرك معه فى العبادة غيره، فإن عاقبة هذا الجحود، تعود على الجاحد بالشر الوبيل، وبالشفاء فى الدنيا والآخرة.
وبعد أن أقام - سبحانه - الأدلة المتعددة على وحدانيته وكمال قدرته، أتبع ذلك بالحديث عن طبيعة الإِنسان فى حالتى السراء والضراء، ونفى - سبحانه - المساواة بين المؤمنين والكافرين، والعلماء والجهلاء فقال - تعالى - :
{ وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا... }.