خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
١
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت السورة الكريمة بهذا النداء الشامل لجميع المكلفين من وقت نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك لأن لفظ الناس لا يختص بقبيل دون قبيل، ولا بقوم دون قوم، وقد دخلته الألف واللام المفيدة للاستغراق؛ ولأن ما في مضمون هذا النداء من إنذار وتبشير وأمر بمراقبة الله وخشيته، يتناول جميع المكلفين لا أهل مكة وحدهم كما ذكره بعضهم؛ لأن تخصيص قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } بأهل مكة تخصيص بغير مخصص.
والمراد بالنفس الواحدة هنا: آدم - عليه السلام -. وقد جاء الوصف وهو واحدة بالتأنيث باعتبار لفظ النفس فإنها مؤنثة.
ومن فى قوله { مِنْهَا } للتبعيض. والضمير المؤنث "ها" يعود إلى النفس الواحدة.
والمراد بقوله - تعالى -: { زَوْجَهَا } حواء؛ فإنها أخرجت من آدم كما يقتضيه ظاهر قوله - تعالى - { مِنْهَا }.
قال الفخر الرازى ما ملخصه: "المراد من هذا الزوج هو حواء. وفى كون حواء مخلوقة من آدم قولان:
الأول: وهو الذي عليه الأكثرون: أنه لما خلق الله - تعالى - آدم ألقى عليه النوم، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه، فلما استيقظ رآها ومال إليها وألفها، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه. واحتجوا عليه بقول النبى صلى الله عليه وسلم:
"إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها"
والقول الثانى: وهو اختيار أبى مسلم الأصفهانى: أن المراد من قوله { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أى من جنسها. وهو كقوله - تعالى - { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } } وكقوله { { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } وقوله { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } } قال القاضى: والقول الأول أقوى، لكى يصح قوله: { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ }، إذ لو كانت حواء مخلوقة إبتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة.
وقد تضمن هذا النداء لجميع المكلفين تنبيهم إلى أمرين:
أولهما: وحدة الاعتقاد بأن ربهم جميعا واحد لا شريك له. فهو الذى خلقهم وهو الذى رزقهم، وهو الذى يميتهم وهو الذى يحييهم، وهو الذى أوجد أبيضهم وأسودهم، وعربيهم وأعجميهم.
وثانيهما: وحدة النوع والتكوين، إذ الناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم قد انحدروا عن أصل واحد وهو آدم - عليه السلام -.
فيجب أن يشعر الجميع بفضل الله عليهم. وأن يخلصوا له العبادة والطاعة، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان، وأن يوقنوا بأنه لا فضل لجنس على جنس، ولا للون على لون إلا بمقدار حسن صلتهم بربهم وما لكهم ومدبر أمورهم.
والمعنى: يا أيها الناس اتقوا ربكم بأن تطيعوه فلا تعصوه، وبأن تشكروه فلا تكفروه، فهو وحده الذى أوجدكم من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم، وذلك من أظهر الأدلة على كمال قدرته - سبحانه، ومن أقوى الدواعى إلى اتقاء موجبات نقمته، ومن أشد المقتضيات التى تحملكم على التعاطف والتراحم والتعاون فيما بينكم، إذ أنتم جميعا قد أوجدكم - سبحانه - من نفس واحدة.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: "فإن قلت: الذى يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته، أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويحث عليها فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذى ذكره موجبا للتقوى وداعيا إليها؟
قلت: لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة. ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شىء، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم، فحقهم أن يتقوه فى كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها. أو أراد بالتقوى تقوى خاصة، وهى أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله فقيل: اتقوا ربكم الذى وصل بينكم؛ حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب على بعضكم لبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه وهذا المعنى مطابق لمعانى السورة".
وقوله: { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } معطوف على قوله { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ }. أو معطوف على محذوف والتقدير: خلقكم من نفس واحدة ابتدأها وخلق منها زوجها.
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على هذا الازدواج من تناسل فقال: { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً }.
والبث معناه: النشر والتفريق. يقال: بث الخيل فى الغارة، أى فرقها ونشرها. ويقال: يثثت البسط إذا نشرتها. قال - تعالى -
{ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } أى منشورة.
والمعنى: ونشر وفرق من تلك النفس الواحدة وزوجها على وجه التوالد والتناسل، رجالا كثيرا ونساء كثيرة.
والتعبير بالبث يفيد أن هؤلاء الذين توالدوا وتناسلوا عن تلك النفس وزوجها، قد تكاثروا وانتشروا فى أقطار الأرض على اختلاف ألوانهم ولغاتهم، وأن من الواجب عليهم مهما تباعدت ديارهم، واختلفت ألسنتهم وأشكالهم أن يدركوا أنهم جميعا ينتمون إلى أصل واحد، وهذا يقتضى تراحمهم وتعاطفهم فيما بينهم. وقوله { كَثِيراً } صفة لقوله { رِجَالاً } وهو صفة مؤكدة لما إفاده التنكير من معنى الكثرة. وجاء الوصف بصيغة الإِفراد، لأن { كَثِيراً } وإن كان مفردا لفظا إلا أنه دال على معنى الجمع. واستغنى عن وصف النساء بالكثرة، اكتفاء بوصف الرجال بذلك، ولأن الفعل { بَثَّ } يقضى الكثرة والانتشار.
وقال الفخر الرازى: خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء، لأن شهرة الرجال أتم، فكانت كثرتهم أظهر، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة. وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز. واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول".
وقوله: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } تكرير للأمر بالتقوى لتربية المهابة فى النفس وتذكير ببعض آخر من الأمور الموجبة لخشية الله وامتثال أوامره. وقوله { تَسَآءَلُونَ } أصلها تتساءلون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا. وهى قراءة عصام وحمزة الكسائى.
وقرأ الباقون "تساءلون" بالتشديد بإدغام تاء التفاعل فى السين لتقاربهما فى الهمس. والأرحام: جمع رحم وهى القرابة. مشتقة من الرحمة، لأن ذوى القرابة من شأنهم أن يتراحموا ويعطف بعضهم على بعض.
وكلمة { ٱلأَرْحَامَ } قرأها الجمهور بالنصب عطفا على اسم الله تعالى.
والمعنى؛ واتقوا الله الذى يسأل بعضكم بعضا به، بأن يقول له على سبيل الاستعطاف: أسألك بالله أن تفعل كذا، أو أن تترك كذا. واتقوا الأرحام أن تقطعوها فلا تصلوها بالبر والإِحسان، فإن قطيعتها وعدم صلتها مما يجب أن يتقى ويبعد عنه، وإنما الذى يجب أن يفعل هو صلتها وبرها.
وقرأها حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور فى (به). أى: اتقوا الله الذى تساءلون به وبالأرحام بأن يقول بعضكم لبعض مستعطفا أسألك بالله وبالرحم أن تفعل كذا.
وقد كان من عادة العرب أن يقرنوا الأرحام بالله تعالى - فى المناشدة والسؤال فيقولون: اسألك بالله وبالرحم.
ولم يرتض كثير من النحويين هذه القراءة من حمزة، وقالوا: إنها تخالف القواعد النحوية التى تقول: إن عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور المتصل بدون إعادة الجار لا يصح، لأن الضمير المجرور المتصل بمنزلة الحرف، والحرف لا يصح عطف الاسم الظاهر عليه، ولأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها، وكما أنه لا يجوز أن يعطف على بعض الكلمة فكذلك لا يجوز أن يعطف عليه. إلى غير ذلك مما قالوه فى تضعيف هذه القراءة. وقد دافع كثير من المفسرين عن هذه القراءة التى قرأها حمزة. وأنكروا على النحويين تشنيعهم عليه.
ومما قاله القرطبى فى دفاعه عن صحة هذه القراءة: ومثل هذا الكلام - أى من النحويين - مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التى قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبى صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شىء عن النبى صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبى صلى الله عليه وسلم واسقبح ما قرأ به.
وهذا مقام محذور، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النبى صلى الله عليه وسلم ولا يشك أحد فى فصاحته.
ثم قال: والكوفى يجيز عطف الظاهر على الضمير المجرور ولا يمنع منه، ومنه قولهم:
فاذهب فما بك والأيام من عجب
ومما قاله الفخر الرازى فى ذلك: واعلم أن هذه الوجوه - أى التى احتج بها النحويون في تضعيف قراءة حمزة - ليست وجوها قوية فى رفع الروايات الواردة فى اللغات؛ وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة، ولم يأت بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة، والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التى هى أوهن من بيت العنكبوت.
وأيضا فلهذه القراءة وجهان:
أحدهما: أنها على تقدير تكرير الجار. كأنه قيل: تساءلون به وبالأرحام.
وثانيهما: أنه ورد ذلك فى الشعر ومنه:

نعلق فى مثل السوارى سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفائف

ثم قال: والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بمثل هذه الأبيات المجهولة، ولا يستحسنوا إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف فى علم القرآن".
هذا، وهناك قراءة بالرفع. قال الآلوسى: وقرأ ابن زيد { وَٱلأَرْحَامَ } بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر. أى والأرحام كذلك أى مما يتقى لقرينه { وَٱتَّقُواْ }. أو مما يتساءل به لقرينة { تَسَآءَلُونَ }.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يحمل العقلاء على المبالغة فى تقوى الله، وفى صلة الرحم فقال - تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }. أى حافظا يحصى عليكم كل شىء. من رقبه إذا حفظه.
أو مطلعا على جميع أحوالكم وأعمالكم، ومنه المرقب للمكان العالى الذى يشرف منه الرقيب ليطلع على ما دونه.
وقد أكد - سبحانه - رقابته على خلقه، واطلاعه على جميع أحوالهم بأوثق المؤكدات. فقد أكد - سبحانه - الجملة الكريمة بإن، وبتكرار لفظ الجلالة التى يبعث فى النفوس كل معانى الخشية والعبودية له، وبالتعبير بكان الدالة على الدوام والاستمرار، وبذكر الفوقية التى يدل عليها لفظ { عَلَيْكُمْ } إذ هو يفيد معنى الاطلاع الدائم مع السيطرة والقهر، وبالإِتيان بصيغة المبالغة وهى قوله: { رَقِيباً } أى شديد المراقبة لجميع أقوالكم وأعمالكم فهو يراها ويعلمها وسيحاسبكم عليها يوم القيامة
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة: وجوب مراقبته - سبحانه - وخشيته وإخلاص العبادة له، لأنه هو الذى أوجدهم من نفس واحدة، وهو الذى أوجد من هذه النفس الموحدة زوجها، وهو الذى أوجد منها عن طريق التناسل الذكور والإِناث الذين يملؤون أقطار الأرض على اختلاف صفاتهم وألوانهم ولغاتهم، وهو الذى لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، بل هو مطلع عليهم وسيحاسبهم على أعمالهم يوم الدين، ومن كان كذلك فمن حقه أن يتقى ويخشى ويطاع ولا يعصى.
كما أخذوا منها جواز المسألة بالله - تعالى - لأنه - سبحانه - قد أقرهم على هذا التساؤل؛ لكونهم يعتقدون عظمته وقدرته.
وقد ورد فى هذا الباب أحاديث متعددة منها ما أخرجه الإِمام أحمد وأبو داود والنسائى وابن حبان عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه. ومن أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئون به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه".
نعم من أداه التساؤل باسمه - تعالى - إلى التساهل فى شأنه، وجعله عرضة لعدم إجلاله، فإنه يكون محظورا قطعا. وعليه يحمل ما ورد من أحاديث تصرح بلعن من سأل بوجه الله. ومنها ما رواه الطبرانى عن أبى موسى الأشعرى مرفوعا: ملعون من سأل بوجه الله. وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجراً. أى ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق.
كما أخذوا منها أيضا وجوب صلة الرحم، فقد جعل - سبحانه - الإِحسان إلى الآباء وإلى الأقارب فى المنزلتين الثانية والثالثة بعد الأمر بعبادته فقال:
{ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ } } ومن الأحاديث التى وردت فى وجوب صلة الرحم ما رواه البخارى "عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سره أن يبسط له فى رزقه، وأن ينسأ له فى أجله، فليصل رحمه"
وأخرج الإِمام مسلم فى صحيحه عن عائشة - رضى الله عنها - عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الرحم معلقة بالعرش. تقول: من وصلنى وصله الله، ومن قطعنى قطعه الله"
وأخرج البخارى عن عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليس الواصل بالمكافىء. ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها" .
إلى غير ذلك من الأحاديث التى وردت فى الترغيب فى صلة الرحم والترهيب من قطيعتها.
ثم شرع - سبحانه - فى تفصيل موارد الاتقاء ومظانه، فابتدأ بأحق الناس بالرحمة والمودة، وهم اليتامى فقال - تعالى -: { وَآتُواْ...أَلاَّ تَعُولُواْ }