خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
١١٤
وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً
١١٥
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى -: { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } إشارة إلى ما جبل عليه كثير من الناس من إخفاء الأقوال أو الأعمال التى فيها شر ومضرة، ومن إعلان الأقوال أو الأفعال التى من ورائها خير ومنفعة. وقوله { نَّجْوَاهُمْ } أى: مما يتناجى به الناس ويتكلمون فيه. والنجوى: اسم مصدر بمعنى المسارة. يقال: نجوته نجوا ونجوى وناجيته مناجاة. أى: ساررته بكلام على انفراد. وأصله: أن تعلو بمن تناجيه بسر معين فى نجوة من من الأرض. أى فى مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله. وقيل: أصله من النجاة، لأن الإِسرار بالشئ فيه معاونة على النجاة. وتطلق النجوى على القوم المتناجين كما فى قوله - تعالى - { { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } }. والضمير فى قوله { مِّن نَّجْوَاهُمْ } يعود إلى الناس جميعا، ويدخل فيه أولئك الذين كانوا يختانون أنفسهم ومن على شاكلتهم دخولا أوليا.
والمعروف - كما يقول الآلوسى - هو كل ما عرفه الشرع واستحسنه، فيشمل جميع أنواع البر كقرض وإغاثة ملهوف وإرشاد ضال إلى غير ذلك. ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله - تعالى - { أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ }.
والمعنى: لا خير فى كثير من الكلام الذى يناجى فيه الناس، ويتحدثون به سرا، إلا فى نجوى من أمر غيره سرا بصدقة يزكى بها ماله، وينفع بها المحتاج إليها، أو من غيره بالإِكثار من أعمال البر، أو القيام بالإِصلاح بين الناس المتخاصمين لكى يعودوا إلى ما كانوا عليه من الأفة والإِخاء والصفاء.
قال الجمل: وقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ }. فى هذا الاستثناء قولان:
أحدهما: متصل.
والثانى: أنه منقطع. وهما مبنيان على أن النجوى يجوز أن يراد بها المصدر كالدعوى فتكون بمعنى التناجى أى التحدث. وأن يراد بها القوم المتناجون إطلاقا للمصدر على الواقع منه مجازا. فعلى الأول يكون منقطعا، لأن من أمر ليس مناجاة، فكأنه قيل: لكن من أمر بصدقة ففى نجواه الخير وإن جعلنا النجوى بمعنى المتناجين كان متصلا. وقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ }. إما منصوب على الاستثناء المنقطع إن جعلته منقطعا فى لغة الحجازيين. أو على أصل الاستثناء إن جعلته متصلا. وإما مجرور على البدل من كثير، أو من نجواهم، أو صفة لأحدهما.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد أخرجت من التناجى المذموم ثلاث خصال هى جماع الخير، وذلك لأن الصدقة التى يخرجها الإِنسان تكون سببا فى تزكية ماله، وحسن ثوابه، ونشر المحبة والمودة بين الناس.
والتعبير بقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } يفيد الدعوة إليها، والحث على بذلها سرا ما دامت المصلحة تقتضى ذلك.
أما المعروف وهو النوع الثانى من التناجى المحمود فهو - كما يقول القرطبى لفظ يعم كل أعمال البر. ففى الحديث الشريف
"كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق" وقال على بن أبى طالب: (لا يزهدنك فى المعروف كفر من كفره، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الجاحد).
وقال الماوردى: ينبغى لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرض زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة ففاتت فأعقبت ندما.
وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لكل شئ ثمرة وثمرة المعروف السراح " - أى التعجيل - ومن شرط المعروف ترك الامتنان به، وترك الإِعجاب بفعله. لما فيهما من إسقاط الشكر، وإحباط الأجر. قال بعض الشعراء:

زاد معروفك عندى عظما أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير

والأمة التى يفشو فيها قول المعروف وفعله، تسودها السعادة، وتظلها المحبة والمودة والرحمة.
وأما الإِصلاح بين الناس فهو فريضة اجتماعية يقوم بها من صفت نفوسهم وقويت عزائمهم، ورسخ إيمانهم.
وقد حض القرآن على الإِصلاح بين الناس سواء أكانوا جماعات أم أفرادا لأن التخاصم والتنازع يؤدى إى انتشار العداوات والمفاسد بين الناس. قال - تعالى -:
{ { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } }. وقد ساق الإِمام ابن كثير جملة من الأحاديث التى تحض على الاصلاح بين الناس ومن ذلك ما رواه ابن مردويه عن محمد بن يزيد بن حنيش :قال دخلنا على سفيان الثورى نعوده. فدخل علينا سعيد بن حسان فقال له الثورى الحديث الذى كنت حدثتنيه عن أم صالح أردده على. فقال: حدثتنى أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلام ابن آدم كله عليه لا له. إلا ذكر الله - تعالى - أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر" . فقال سفيان: أو ما سمعت الله فى كتابه يقول: { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ }. فهو هذا بعينه.
وروى الجماعة - سوى ابن ماجه - عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ليس الكذاب الذى يصلح بين الناس فينمى خيرا أو يقول خيرا" . وقالت: لم أسمعه يرخص فى شئ مما يقوله الناس إلا فى ثلاث: فى الحرب. والإِصلاح بين الناس. وحديث الرجل امرأته وحديث المراة زوجها).
وروى الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. يا رسول الله!! قال إصلاح ذات البين" . قال "وفساد ذات البين هو الحالقة" .
ففى هذه الأحاديث الشريفة دعوة قوية إلى الاصلاح بين الناس حتى يعيشوا فى أمان واطمئنان.
وبذلك نرى أن هذه الأمور الثلاثة التى أخرجها الله - تعالى - من التناجى المذموم هى جماع الخير الإِنسانى والاجتماعى.
وقد أشار الإِمام الرازى إلى ذلك بقوله: هذه الآية وإن نزلت فى مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها فى المعنى عامة. والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ثم إنه - تعالى - ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع: الأمر بالصدقة. والأمر بالمعروف. والاصلاح بين الناس.
وإنما ذكر الله - تعالى - هذه الأقسام الثلاثة، لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة. أما إيصال الخير: فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال. وإليه الإِشارة بقوله: { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ }. وإما أن يكون من الخيرات الروحانية وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة. ومجموعهما عبارة عن الأمر بالمعروف. وإليه الإشارة بقوله { أَوْ مَعْرُوفٍ } وأما إزالة الضرر فإليها الإشِارة { أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة فى هذه الآية.
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة من يقوم بفعل هذه الفضائل فقال: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }.
أى: ومن يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإِصلاح بين الناس، قاصدا بفعله رضا الله وحسن مثوبته، فسوف نؤتيه أجراً عظيما لا يعرف مقداره إلا الله - تعالى - وقال - سبحانه - ومن يفعل ذلك ولم يقل ومن يأمر بذلك كما جاء فى صدر الآية. لأن المقصود الترغيب فى هذا الفعل الحسن، لأن الآمر بالخير إذا دخل فى زمرة الخيرين كان الفاعل أحرى بالدخول فى زمرتهم.
وفى تقييد الفعل بكونه ابتغاء مرضاة الله، تحريض على إخلاص النية، لأن الأعمال بالنيات، وإذا صاحب الرياء الأعمال أبطلها ومحق بركتها.
والتعبير بسوف هنا لتأكيد الوقوع فى المستقبل. أى. فسوف نؤتيه أجراً لا يحيط به نطاق الوصف، ولن نبخسه شيئا من حقه حتى ولو كان هذا الشئ بالغاً النهاية فى الصغر.
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الذين يسيرون فى طريق الباطل، ويتركون طريق الحق فقال - تعالى -: { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }.
وقوله { يُشَاقِقِ } من المشاقة بمعنى المعاداة والمخالفة المقصودة. وهى من الشق لأن المخالف كأن يختار شقا يكون فيه غير شق الآخر.
فقوله { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ } أى: من يخالفه ويعاديه.
وقوله { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } أى يخالفه ويعاديه من بعد ما اتضح له الحق، وقام لديه الدليل على صحة دين الإِسلام.
وقوله { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } معطوف على يشاقق. أى: ويتبع طريقا غير طريق الإِسلام التى سار فيها المؤمنون، واعتقدوا صحتها وسلامتها من كل سوء. من يفعل ذلك. نوله ما تولى، أن نجعله - كما يقول الآلوسى والياً لما تولاه من الضلال. أو نخل بينه وبين ما اختاره لنفسه من الضلال فى الدنيا. أو نكله فى الآخرة إلى ما اتكل عليه فى الدنيا وانتصر به من الأوثان وغيرها.
قال صاحب المنار: والذى أريد توجيه الأذهان إلى فهمه هو أن هذه الجملة مبينة لسنة الله - تعالى - فى عمل الإِنسان. ومقدار ما أعطيه من الإِرادة والاستقلال والعمل بالاختيار. فالوجهة التى يتولاها فى حياته، والغاية التى يقصدها عن عمله، يوليه الله إياها ويوجهه إليها. أى: يكون بحسب سنته - تعالى - واليا لها وسائر على طريقها. فلا يجد من القدرة الإِلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه. ولو شاء - سبحانه - لهدى الناس أجمعين بخلقهم على حالة واحدة فى الطاعة كالملائكة، ولكنه شاء أن يخلقهم على ما نراهم عليه الآن من تفاوت فى الاستعداد والإِدراك وعمل كل فرد بحسب ما يرى أنه خير له وأنفع فى عاجله أو آجله أو فيهما جميعا...
وقوله { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } وعيد شديد لأولئك المخالفين لطريق الحق. وأصل الصلى: إيقاد النار ولزومها وقت الاستدفاء. يقال صلى بالنار أى: بلى بها. وصليت الشاة: شويتها وهى مصلية.
والمعنى: ومن يخالف طريق الحق نوله ما تولى وندخله فى الآخرة جهنم ليشوى فيها كما تشوى الشاة، وساءت جهنم مكانا لمن صار إليها، وحل فيها.
قال ابن كثير: والذى عول عليه الشافعى يرحمه الله - فى الاحتجاج على كون الإِجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروى والفكر الطويل. وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها. وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة على ذلك....
وبهذا نرى أن الآيتين الكريمتين قد بشرتا من يفعل الخير ابتغاء مرضاه الله بالأجر العظيم، وأنذرتا من يخالف طريق أهل الحق بالعذاب الأليم،
{ { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } }. ثم حذر - سبحانه - من الشرك وتوعد المشركين الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله بالعذاب المهين فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ...عَنْهَا مَحِيصاً }.