خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً
١٢٢
لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
١٢٣
وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً
١٢٤
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً
١٢٥
وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً
١٢٦
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }. معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك، { { أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } جريا على عادة القرآن فى تعقيب الإِنذار بالبشارة، والوعيد بالوعد.
أى: والذين آمنوا بالله إيمانا حقا، وقدموا فى حياتهم الأعمال الصالحات { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } اى: من تحت غرفها ومساكنها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى: مقيمين فيها إقامة أبدية { وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً } أى: واقعا لا محالة ما وعد الله به عباده الصالحين من نعم بخلاف ما وعد الشيطان به أتباعه فإنه وعد كاذب باطل.
وقوله { وَعْدَ ٱللَّهِ } منصوب على المصدر المؤكد لمضمون جملة { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } لأنها بمعناه فكأنه مؤكد لنفسه وقوله { حَقّاً } منصوب بفعل محذوف أى: حق ذلك حقا.
والاستفهام فى قوله { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } للنفى. والقيل مصدر كالقول أى: هذا ما وعد الله به عباده المؤمنين، وما وعد الله به عباده فهو متحقق الوقوع لا محالة، لأنه لا أحد أصدق من الله قولا. فالجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد ما سبقه من وعد الله لعباده المؤمنين بالجنة.
وقوله { قِيلاً } منصوب على أنه تمييز نسبة من قوله { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ } ثم بين - سبحانه - أن الوصول إلى رضوانه لا يكون بالأمانى والأوهام وإنما يكون بالإِيمان والعمل الصالح فقال: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }.
والأمانى: جمع أمنية. وهى ما يتمناه الإِنسان ويرغب فيه ويشتهيه من أشياء متنوعة. كحصوله على الخير الوفير فى الدنيا، وعلى الجنة فى الآخرة. وهى مأخوذة من التمنى.
وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها قول قتادة: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا. فقال أهل الكتاب. نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، ونبينا خاتم النبيين. وكتابنا يقضى على الكتب التى كانت قبله. فأنزل الله: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ }. الآية.
وقال مجاهد: قالت العرب لن نبعث ولن نعذب. وقالت اليهود والنصارى
{ { لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } }. فأنزل الله - تعالى - { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ }. الآية.
والضمير فى قوله { لَّيْسَ } يعود إلى ما تقدم ذكره من الوعد المتقدم وهو نيل الثواب ودخول الجنة.
والخطاب لجميع الفرق التى حدث بينها تنازع فى شأن الدين الحق، وفى شأن ما يترتب على ذلك من ثواب.
والمعنى: ليس ما وعدا لله به من الثواب أو إدخال الجنة، أو ليس ما تحاورتم فيه حاصلا بمجرد أمانيكم - أيها المسلمون - أو أمانى أهل الكتاب أو غيرهم، وإنما ما تمنيتموه جميعا يحصل بالإِيمان الصادق، وبالعمل الصالح، وبالسعى والجد فى طاعة الله، فقد اقتضت سنة الله - تعالى - أن من يعمل خيرا يجد خيرا، و { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } أى: من يرتكب معصية مؤمنا كان أو كافرا يجازه الله بها عاجلا أو آجلا إذا تاب، أو تفضل الله عليه بالمغفرة إذا كان مؤمنا.
وقد سار ابن كثير فى تفسيره على أن الخطاب لجميع الطوائف فقال: "والمعنى فى هذه الآية أن الدين ليس بالتحلى ولا بالتمنى، ولكن ما وقر فى القلوب وصدقته الأعمال. وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان؛ ولهذا قال: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ }.
أى ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمنى. بل العبرة بطاعة الله - سبحانه - واتباع ما شرعه على ألسنة رسله ولهذا قال بعده { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ }. كقوله:
{ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } }. ومنهم من يرى أن الخطاب فى قوله { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ } للمسلمين.
وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف بقوله: فى { لَّيْسَ } ضمير وعد الله أى: ليس ينال ما وعد الله من الثواب { بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا } بأمانى أهل الكتاب. والخطاب للمسلمين، لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به. وكذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم فى الإيمان بوعد الله.
ومنهم من يرى أن الخطاب للمشركين. وقد رجح ذلك ابن جرير فقال ما ملخصه: وأولى الأقوال بالصواب فى ذلك ما قاله مجاهد من أنه عنى بقوله { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ }. مشركى قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب. لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآى قبل قوله { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ } وإنما جرى ذكر أمانى نصيب الشيطان المفروض فى قوله قبل ذلك.
{ { وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ } وقوله { { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ } فإلحاق معنى قوله - تعالى - { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ } بما ذكره قبل أحق وأولى من ادعاء تأويل فيه لا دالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا من أثر الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومع وجاهة هذا الرأى الذى سار عليه ابن جرير، إلا أنا نؤثر عليه ما ذهب إليه ابن كثير من أن الآية الكريمة تخاطب الناس جميعا سواء أكانوا مؤمنين أم مشركين أم من أهل الكتاب. لأن الآية الكريمة تضع لهم جميعا قاعدة عامة وهى أن الوصول إلى ثواب الله ورضاه لا ينال بالأمانى والأحلام وإنما ينال بالإِيمان والعمل الصالح.
وقوله { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } جملة مكونة من شرط وجزاء. والمراد بالسوء ما يشمل الكفر والمعاصى. وقيل: المراد بالسوء هنا الكفر فقط.
قال الآلوسى قوله - تعالى -: { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } أى: عاجلا أو آجلا. فقد أخرج الترمذى وغيره
"عن أبى بكر الصديق قال: كنت عند النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. فقال رسول الله: يا أبا بكر ألا أقرئك أية نزلت على؟ فقلت: بلى يا رسول الله. فأقرأنيها فلا أعلم إلا أنى وجدت انفصاما فى ظهرى.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. مالك يا أبا بكر؟ قلت بأبى أنت وأمى يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء. وإنما لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك فى الدنيا حتى تلقوا الله - تعالى - ليس عليكم ذنوب. وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة" .
وأخرج مسلم وغيره عن أبى هريرة قال: "لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله - تعالى - فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سددوا وقاربوا فإن كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها" .
قال الآلوسى: والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى. ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والاسقام ومصائب الدنيا وهمومها - وإن قلت مشقتها - يكفر الله - تعالى - بها الخطيئات، والأكثرون على أنها - أيضا ترفع بها الدرجات، وهو الصحيح المعول عليه. فقد صح فى غير ما طريق؛ "ما من مسلم يشاك شكوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة".
وقوله - تعالى - { بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } تذليل قصد به تأكيد ما قبله من أن ثواب الله لا ينال إلا بالإيمان والعمل الصالح، وأن عقابه سيحل بمن يعمل السوء.
أى: أن من يعمل السوء سيجازى به، ولا يجد هذا المرتكب للسوء أحدا سوى الله - سبحانه - يلى أمره ويحامى عنه، ولا نصيرا ينصره ويحاول إنجاءه من عقاب الله - تعالى - ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين فقال: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً }.
أى: ومن يعمل من الأعمال الصالحات سواء أكان العامل ذكرا أم أنثى ما دام متحليا بصفة الإِيمان، فأولئك العاملون بالأعمال الصالحة يدخلون الجنة جزاء عملهم؛ ولا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم، ولو كان هذا الشئ نقيرا وهو النقطة التى تكون فى ظهر النواة ويضرب بها المثل فى القلة والحقارة.
و { مِنَ } فى قوله { مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ } للتبعيض أى: بعض الأعمال الصالحات لأن الإِنسان لا يستطيع أن يعمل جميع الأعمال الصالحة، وإنما كل إنسان يعمل على قدر طاقته وقدرته ولا يكلف نفسا إلا وسعها.
و { مِن } فى قوله { مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } للبيان. أى بيان أن الأحكام الشرعية وما يترتب عليها من ثواب يشترك فيه الرجال والنساء إلا إذا قام دليل على أن أحد الصنفين مختص بحكم معين لا يشاركه فيه الصنف الآخر.
وفى ذلك إنصاف للمرأة من الظلم الذى كان واقعا عليها قبل شريعة الإِسلام العادلة.
والجملة الكريمة فى موضع نصب على الحال من ضمير { يَعْمَلْ }.
وقوله { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قيد لإِخراج غير المؤمن لأن الكافر مهما قدم من أعمال صالحة فى الدنيا فإنها لن تنفعه فى الآخرة بسبب كفره بالدين الحق.
واسم الإِشارة وهو قوله { فَأُوْلَـٰئِكَ } يعود إلى من فى قوله { وَمَن يَعْمَلْ } باعتبار معناها.
وقوله { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } بيان لفضل الله - تعالى - وعدله، وأنه - سبحانه -
{ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } }. ثم أثنى - سبحانه - على من أخلص له الإِيمان والعمل فقال: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ }.
أى: لا أحد أحسن دينا، وأجدر بالقبول عند الله ويجزيل ثوابه ممن أخلص نفسه لله، وجعلها سالمة له بحث لا تعرف لها ربا ولا معبودا سواه.
وقوله { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أى: وهو مؤد لما أمره الله به ومبتعد عن كل ما نهاه الله عنه، على الوجه اللائق الحسن.
فالاستفهام فى قوله { وَمَنْ أَحْسَنُ } للنفى. والمقصود منه مدح من فعل ذلك على أتم وجه.
وقوله { وَهُوَ مُحْسِنٌ } جملة فى موضع الحال من فاعل { أَسْلَمَ }.
فالآية الكريمة قد أشارت إلى أن الدين الحق يقتضى أمرين:
أولهما: إخلاص القلب والنية لله - تعالى - بحيث لا يكون عامرا إلا بذكر الله.
والثانى: إتقان العمل الصالح وإجادته حتى يصل إلى مرتبة الإِحسان الذى عرفه النبى صلى الله عليه وسلم بقوله:
"الإِحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" .
وقوله { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } بيان لما كان عليه إبراهيم - عليه السلام - من عقيدة سليمة، ودين قويم. وهو معطوف على قوله { أَسْلَمَ وَجْهَهُ }.
أى: لا أحد أحسن دينا، وأصوب طريقا ممن أخلص نفسه لله، وأتقن أعماله الصالحة على الوجه الذى يرضاه الله - تعالى - واتبع ملة إبراهيم الذى كان مبتعداً عن كل الملل الزائفة المعوجة ومتجها إلى الدين الحق، والمنهاج المستقيم.
والمراد بملة إبراهيم: شريعته التى كان يدين الله عليها، ومنهاجه الذى يوافق منهاج الإِسلام الذى أتى به محمد - عليه الصلاة والسلام.
وحنيفا من الحنف وهو الميل عن الضلال إلى الاستقامة. وضده الجنف يقال: تحنف فلان أى تحرى طريق الاستقامة.
وقوله { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } تذييل جئ به للترغيب فى اتباع ملة إبراهيم، وللتنويه بشأنه - عليه السلام - وبشأن من اتبع طريقته.
والخليل فى كلام العرب: هو الصاحب الملازم الذى لا يخفى عليه شئ من أمور صاحبه. مشتق من الخلة وهى صفاء المودة التى توجب الاختصاص بتخلل الأسرار.
قال الآلوسى: والخليل مشتق من الخلة - بضم الخاء - وهى إما من الخلال - بكسر الخاء - فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية. فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة. وإما من الخلل على معنى أن كلا من الخليلين يصلح خلل الآخر. وإما من الخل - بالفتح - وهو الطريق فى الرمل، لأنهما يتوافقان على طريقة. وإما من الخلة - بفتح الخاء - بمعنى الخصلة لأنهما يتوافقان فى الخصال والأخلاق. وأطلق الخليل على إبراهيم، لأن محبة الله تعالى، قد تخللت نفسه وخالطتها مخالطة تامة، أو لتخلقه بأخلاق الله تعالى.
والمعنى: واتخذ الله إبراهيم حنيفا له من بين خلقه، لأنه - عليه السلام - كان خالص المحبة لخالقه - عز وجل - ومبغضا لكل ما يبغضه الله من الشريك والأعمال السيئة، وغيورا على إعلاء كلمة الله وعلى تمكين دينه فى الأرض فوصفه الله - تعالى - بهذا الوصف الجليل، وأسبغ عليه الكثير من الوان نعمه وفضله.
قال الجمل: وقوله { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } فى { خَلِيلاً } وجهان، فإن عدينا اتخذ لاثنين كان مفعولا ثانيا وإلا كان حالا. وهذه الجملة عطف على الجملة الاستفهامية التى معناها الخبر للتنبيه على شرف المتبوع وأنه جدير بأن يتبع لاصفطاء الله له بالخلة، وفائدة هذه الجملة تأكيد وجوب اتباع ملته، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً جديراً بأن تتبع ملته. وأظهر اسم إبراهيم فى مقام الاضمار لتفخيم شأنه، والتنصيص على أنه متفق على مدحه.
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات ببيان أنه هو المالك لكل شئ، والمهيمن على شئون هذا الكون فقال: { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً }.
أى: ولله - تعالى - وحده جميع ما فى السماوات وما فى الأرض من موجودات، فهو خالقها ومالكها ولا يخرج عن ملكوته شئ منها. وكان الله - تعالى - بكل شئ محيطا، بحيث لا تخفى عليه خافية من شئون خلقه، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بشرت المؤمنين بحسن الثواب، وبينت أن ثواب الله لا ينال بالأمانى وإنما ينال بالإِيمان والعمل الصالح، وأن الدين الحق هو الدين الذى يدعو الإِنسان إلى إخلاص نفسه لله، وإلى إحسان العمل فى طاعته، وإلى اتباع ما كان عليه إبراهيم من منهاج سليم، وخلق قويم. وأنه - سبحانه هو المتصرف فى شئون هذا الكون، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جملة من الأحكام التى يتعلق أكثرها بالنساء فقال - تعالى -: { وَيَسْتَفْتُونَكَ...وَاسِعاً حَكِيماً }.