خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً
١٢٧
وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١٢٨
وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
١٢٩
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً
١٣٠
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى فى بيان صلة هذه الآيات بما قبلها: اعلم أن عادة الله - تعالى - فى ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع على أحسن الوجوه. وهو أن يذكر شيئا من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة فى الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته. ثم يعود مرة أخرى إلى بيان الأحكام وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير فى القلوب، لأن التكاليف بالأعمال الشاقة لا يقع فى موقع القبول إلا إذا كان مقرونا بالوعد والوعيد. والوعد والوعيد لا يؤثر فى القلب إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد. فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الحق.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه - سبحانه - ذكر فى أول هذه السورة أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف. ثم أتبعها بشرح أحوال الكافرين والمنافقين واستقصى فى ذلك. ثم ختم تلك الآيات الدالة على عظمة جلال الله وكمال كبريائه. ثم عاد بعد ذلك إلى بيان الأحكام فقال: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ }.. إلخ الآية.
وقوله { وَيَسْتَفْتُونَكَ } من الاستفتاء بمعنى طلب الفتيا أو الفتوى. يقال استفيت العالم فى مسألة كذا. أى سألته أن يبين حكمها. فالإفتاء إظهار المشكل من الأحكام وتبيينه.
فمعنى { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ }: ويسألك أصحابك يا محمد أن تفتيهم فى أمر النساء. أى يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام التى تتعلق بما يجب للنساء من حقوق، وبما يكون عليهن من واجبات.
والذى حمل الصحابة على الطلب أنهم كانوا فى جاهليتهم يعاملون النساء معاملة سيئة، ويظلمونهن ظلما شديدا، ثم وجدوا أن الإِسلام الذى يدينون به قد أكرم المرأة وأنصفها بطريقة لم يألفوها من قبل، فتتعددت أسئلتهم عن الأحكام التى تتعلق بالنساء حتى ينفذوا نحوهن ما يطلبه الإسلام منهم من حيث معاشرتهن وولايتهن وميراثهن وغير ذلك من الأحكام.
قال القرطبى: نزلت - هذه الآية - بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن فى الميراث وغير ذلك. فأمر الله - تعالى - نبيه أن يقول لهم: الله يفتيكم فيهن أى: يبين لكم حكم ما سألتم عنه، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء. وكانت قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم: إن الله يفتيكم فيهن...
فسؤال الصحابة ليس عن ذوات النساء وإنما عن أحكام تتعلق بهن.
أخرج ابن جرير وغيره عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذى قد بلغ أن يقوم فى المال ويعمل فيه، ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا فلما نزلت آية المواريث فى سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذى لا يقوم فى المال، والمرأة التى هى كذلك كما يرث الرجل الذى يعمل فى المال؟ فرجوا أن يأتى فى ذلك حدث من السماء فانتظروا: فلما رأوا أنه لا يأتى حدث قالوا: لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد. ثم قالوا: سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه. فأنزل الله { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ }.. الآية.
وقوله { قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } وعد من الله - تعالى - بالإِجابة عما يسالون عنه. وهو لون من تبشير السائل المتحير بأنه قد وجد ضالته حتى يطمئن قلبه، ويهدأ باله. وذلك مثل قولهم - والله المثل الأعلى - لمن سأل سؤالا لمن يحسن الإِجابة عنه: على الخبير وقعت.
أى: قل يا محمد لهؤلاء السائلين عن بعض الأحكام المتعلقة بالنساء: الله - تعالى - يفتيكم فى شأنهن، ويبين لكم بأجلى بيان وأحكمه ما تجهلون من أحكامهن. ويقضى بينكم وبينهن بالعدل الذى لا يحوم حوله باطل.
وفى تقديم لفظ الجلالة تنويه بشأن هذه الفتيا، وإشعار بوجوب التزام ما تتضمنه من أحكام لأنها صادرة من العليم الخبير.
وقوله { وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَابِ } للنحاة فيه مذاهب شتى، لعل أولاها بالقبول أن تكون { مَا } اسم موصول مبتدأ والخبر محذوف والتقدير يسالونك يا محمد عن بعض أحكام النساء فقل لهم: الله يفتيكم فى شأنهن، والذى يتلى عليكم فى الكتاب كذلك أى: يفتيكم فى شأنهن أيضا. وذلك المتلو فى الكتاب الذى بين بعض الأحكام التى تتعلق بالنساء منه قوله - تعالى فيما تقدم من هذه السورة:
{ { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } }. قال الفخر الرازى: وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها. وما كان مبين الحكم فى الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها، وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب - على سبيل المجاز - ألا ترى أنه يقال فى المجاز المشهور: إن كتاب الله بين لنا هذا الحكم. وكما جاز أيضا أن يقال: إن كتاب الله أفتى بكذا.
وقوله { فِي يَتَامَى ٱلنِّسَآءِ } صلة ليتلى. أى: يتلى عليكم فى شأنهن.
وإضافة اليتامى إلى النساء من إضافة الصفة إلى الموصوف أى النساء اليتامى وجعلها بعضهم هنا على معنى من لأنها من إضافة الشئ إلى جنسه أى: فى اليتامى من النساء.
وقوله { ٱلَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } صفة لليتامى.
والمراد بما كتب لهن: ما فرض لهن من ميراث وصداق وغير ذلك من حقوق شرعها الله - تعالى - لهن.
قوله: { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } معطوف على صلة اللاتى.
أى: لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن.
وقوله: أن تنكحوهن فى تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف وهو إما (فى) وإما (عن).
وعلى أن حرف الجر المحذوف (فى) يكون المعنى: لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون فى نكاحهن لأنفسكم إن كن جميلات أو غنيات أو غير ذلك مما يرغبكم فى الزواج بهن مع عدم إعطائهن حقوقهن كاملة.
وعلى أن حرف الجر المحذوف (عن) يكون المعنى: لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون عن نكاحهن. أى لا أنتم تتزوجونهن ولا تتركونهن يتزوجن بغيركم حتى تبقى أموالهن تحت أيديكم.
قال ابن كثير: روى البخارى عن عائشة فى قوله - تعالى - { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ }... إلى قوله { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ... } أنها قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووراثها. فأشركته فى ماله حتى فى العذق. فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه فى ماله بما شركته فيعضلها. فنزلت هذه الآية.
وعنها - أيضا أنها قالت: وقول الله - تعالى - { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } رغبة أحدكم عن يتيمته التى فى حجره حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا فى مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن - أى إذا كن قليلات المال والجمال.
ثم قال ابن كثير: والمقصود أن الرجل إذا كان فى حجره يتيمة يحل هل له تزوجها، فتارة يرغب فى أن يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة بمثالها من النساء. وتارة لا يكون له فيها رغبة فنهاه الله - تعالى - عن أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه فى ماله الذى بينه وبينها.
وحذف حرف الجار هنا لا يعد لبسا، بل يعد من باب الإِجمال والإِيجاز البليغ، لأن الجملة الكريمة صالحة لتقدير كل من الحرفين السابقين على سبيل البدل، بالاعتبارين السابقين. أى باعتبار الرغبة فيهن أو الرغبة عنهن فكأنه - سبحانه - يقول: وترغبون فى نكاح بعضهن فى حالات معينة وترغبون عن نكاح بعض آخر منهن فى حالات أخرى؛ لأن فعل رغب يتعدى بحرف (فى) للشئ المحبوب، وبحرف (عن) للشئ غير المحبوب.
قال الآلوسى: واستدل بعض أصحابنا - أى الأحناف - بالآية على جواز تزويج الصغيرة، لأنه ذكر الرغبة فى نكاحها فاقتضى جوازه. والشافعية يقولون: إنه إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة فيها على ذلك، مع أنه لا يلزم من الرغبة فى نكاحها فعله فى حال الصغر. وهذا الخلاف فى غير الأب والجد، وأما هما فيجوز لهما تزويج الصغيرة بلا خلاف.
وقوله: { وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَانِ } معطوف على يتامى النساء، وقد كانوا فى الجاهلية لا يورثونهم كما لا يورثون النساء، فشرع الله لهم الميراث كما هو مبين فى آيات المواريث.
وقوله { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَىٰ بِٱلْقِسْطِ } فى محل جر عطفا على ما قبله. أى: وما يتلى عليكم فى يتامى النساء وفى المستضعفين من الوالدان وفى أن تقوموا لليتامى بالقسط فيه الكافية لحملكم على سلوك الطريق القويم مع هؤلاء الضعاف.
ومما ذكره الله - تعالى - فى شأن اليتامى قوله فى مطلع هذه السورة:
{ { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } }. فيكون معنى الآية إجمالا: يسألك بعض أصحابك يا محمد أن تفتيهم فى بعض الأحكام التى تتعلق بالنساء. قل لهم على سبل التعليم والإِرشاد: الله - تعالى - يفتيكم ويبين لكم بيانا شافيا ما تسالون عنه بشأنهن. ويفتيكم أيضا فى شأنهن ما تلاه الله عليكم فى قرآنه قبل نزول هذه الآية وما سيتلوه عليكم بعدها.
ويفتيكم - أيضا - ما يتلى عليكم فى القرآن شأن اليتامى اللاتى تمنعوهن ما فرض لهن من الميراث وغيره. وترغبون فى نكاحهن لما لهن لجمالهن بأقل من صداقهن. أو ترغبون عن نكاحهن وتعضلوهن طمعا فى أموالهن. وهذا الإِفتاء الذى تلاه الله عليكم فى قرآنه يمنعكم من أن تفعلوه شيئا من ذلك.
ويفتيكم أيضا ما يتلى عليكم فى الكتاب فى شأن اليتامى - ذكورا كانوا أو إناثا - بأن يامركم أن تلتزموا العدل معهم فى أموالهم وفى سائر أمورهم.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } أى: وما تفعلوه من خير يتعلق بهؤلاء المذكورين أو بغيرهم فإن الله - تعالى - كان به عليما علما دقيقا محيطا، وسيجازيكم عليه جزاء يشرح نفوسكم ويصلح بالكم.
فالآية الكريمة قد اشتملت على الوان من الترغيب بشأن الإِحسان إلى النساء وإلى المستضعفين من الولدان. وإلى اليتامى حتى تعيش الأمة عيشة هانئة، يشعر ضعيفها برعاية قويها له. ويشعر قويها برضا ضعيفها عنه.
ثم بين - سبحانه - بعض الأحكام التى تتعلق بالزوجين، وعالج ما يقع بينهما من خلاف ونفرة علاجا حكيما فقال - تعالى - { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ }.
والخوف معناه: توقع الانسان مكروها ينزل به. وهو هنا مستعمل فى حقيقته إلا أنه لا يكون إلا بعد ظهور علامات تدل عليه من الرجل. كأن يقول لها: إنك قد كبرت وأريد أن أتزوج بشابة. إلى غير ذلك من الأحوال التى تلمسها الزوجة من زوجها بمقتضى مخالطتها له.
والنشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع ويوصف به الرجل والمرأة. والمراد به هنا ما يكون من الرجل من استعلاء على زوجته. ومجافاة لها بترك مضاجعتها والتقصير فى نفقتها وفى حقوقها.
والإِعراض عنها من مظاهره: التقليل من محادثتها ومؤانستها وإدخال السرور عليها. وهو أخف النشوز.
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الترمذى وحسنه عن ابن عباس قال:
"خشيت سودة بنت زمعة إحدى زوجات النبى صلى الله عليه وسلم أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله. لا تطلقنى واجعل يومى لعائشة ففعل ونزلت هذه الآية" .
وأخرج الشافعى عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقنى واقسم لى ما بدالك. فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن.
وروى عن عائشة أنها قالت: نزلت فى المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول له: أمسكنى وتزوج بغيرى وأنت فى حل من النفقة والقسم.
وقوله: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ } فاعل لفعل واجب الإِضمار. أى: وإن خافت امرأة خافت.
وقوله: { مِن بَعْلِهَا } متعلق بخافت، وقوله: { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } جواب الشرط.
والمعنى: وإن خافت امرأة من زوجها (نشوزا) أى تجافيا عنها، وترفعا عن صحبتها { أَوْ إِعْرَاضاً } أى: انصرافا عن محادثتها ومؤانستها على خلاف ما عهدته منه قبل ذلك، ففى هذه الأحوال { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } أى: لا حرج ولا إثم على الزوجة وزوجها فى { أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } يتفقان عليه فيما بينهما رعاية لرابطة الزوجية وإبقاء على دوامها، وذلك بأن تترك المرأة بعض حقوقها حتى تسترضى زوجها وتعمل على إزالة ما فى نفسه من استعلاء وانصراف عنها.
وقوله { صُلْحَاً } مفعول مطلق مؤكد لعامله. أو مفعول به على تأويل يصلحا بيوقعا صلحا. و { بَيْنَهُمَا } حال من { صُلْحَاً } لأنه كان نعتا له ونعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا، وفيه إشارة إلى أن الأولى لهما أن لا يطلعا الناس على ذلك. بل يكون ما يتفقان عليه سرا بينهما.
وقد عبر - سبحانه - عن طلب الصلح بقوله { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } ترفقا فى الإِيجاب، ونفيا لما يتوهم من أن تنازل أحدهما للآخر عن بعض حقه يؤدى إلى الإِثم، لأن الصلح بينهما يقتضى أن يتسامح أحد الزوجين فى جزء من حقه ليظفر بخير أكثر مما تسامح فيه. فإذا تركت المرأة بعض حقها لتدوم عشرتها مع زوجها بالمعروف فذلك لا إثم فيه بل إن فيه الخير.
وأكد - سبحانه - هذا الصلح بقوله { صُلْحَاً } للإِشارة إلى وجوب أن يكون الصلح بينهما حقيقيا لا شكليا، وأن يكون بحيث تتلاقى فى القلوب، وتصفوا النفوس. وتشع بينهما المودة والرحمة، ويرضى كل واحد منهما بما قسم الله له.
وقوله: { وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ } جملة معترضة من مبتدأ وخبر لتأكيد الصلح الذى حض الله عليه قبل ذلك.
أى: والصلح بين الزوجين خيرا من الفرقة وسوء العشرة، اللهم إلا إذا استحال الصلح والوفاق بينهما فإنه فى هذه الحالة تكون الفرقة بينهما خيرا. { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ }.
قال ابن كثير ما ملخصه: وقوله { وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ }. الظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية كما أمسك النبى صلى الله عليه وسلم سودة على أن تركت يومها لعائشة ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه. وفعله هذا لتتأسى به أمته فى مشروعية ذلك وجوازه فهو أفضل فى حقه صلى الله عليه وسلم ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق قال: { وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ }، بل الطلاق بغيض إليه - سبحانه ولهذا جاء الحديث الذى رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أبغض الحلال إلى الله الطلاق" .
وقوله - تعالى - { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ } جملة أخرى معترضة جئ بها لبيان ما جبل عليه الإِنسان من طباع، وللحض على الصلح حتى ولو خالف ما طبعت عليه النفس من سجايا.
والفعل حضر يتعدى لواحد فدخلت عليه الهمزة فجعلت يتعدى لاثنين كما هنا. إذ المفعول الأول نائب الفاعل وهو الأنفس والمفعول الثانى كلمة الشح.
والشح: البخل مع الحرص، والمراد: وأحضر الله الأنفس الشح. أى جبل الله النفوس على الشح بما تملكه، فالمرأة لا تكاد تتسامح أنو تتنازل عن شئ من حقها، والرجل كذلك لا يكاد يتنازل عن شئ من حقوقه، لأن حرص الإِنسان على حقه طبيعة فيه. فعلى الزوجين أن يلاحظا ذلك وأن يخالفا ميولهما وطبعهما من أجل الإبقاء على الحياة الزوجية بصفاء ومودة.
فالجملة الكريمة ترشد الإِنسان إلى داء من أدوائه وتأمره بمعالجته حتى ولو أدى ذلك إلى مخالفة ما جبلت عليه نفسه.
ويرى ابن جرير أن المراد بالأنفس هنا أنفس النساء خاصة فقد قال ما ملخصه: وأولى القولين فى ذلك بالصواب: قول من قال: عنى بذلك. أحضرت أنفس النساء الشح بأنصبائهن من أزواجهن فى الأيام والنفقة. والشح. والإِفراط فى الحرص على الشئ. وهو فى هذا الموضع: إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها.
فتأويل الكلام: وأحضرت أنفس النساء أهواءهن من فرط الحرصَ على حقوقهن من أزواجهن، والشح بذلك على ضرائرهن.
ثم قال: ويشهد لهذا ما روى فى سبب نزول الآية من أنها نزلت فى أمر رافع بن خديج وزوجته، إذ تزوج عليها شابة، فآثر الشابة عليها، فأبت الكبيرة أن تقر على الأثرة، فطلقها تطليقة وتركها. فلما قارب انقضاء عدتها، خيرها بين الفراق والرجعة والصبر على الأثرة. فاختارت الرجعة والصبر على الأثرة فراجعها وآثر عليها. فلم تصبر. ففى ذلك دليل واضح على أن قوله - تعالى - { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ } إنما عنى به: وأحضرت أنفس النساء الشح بحقوقهن من أزواجهن على ما وصفنا.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالأمر بخشيته ومراقبته، والسير فى طريق الصلح والوفاق فقال: { وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }.
أى: وإن تحسنوا - أيها الرجال - فى أقوالكم وأفعالكم إلى نسائكم وتتقوا الله فيهن: بأن تتركوا التعالى عليهن والإِعراض عنهن وتصبروا على مالا ترضونه منهن، من دمامة أو تقصير فى واجباتهن. إن تفعلوا ذلك يرفع الله درجاتكم. ويجزل ثوباكم، لأنه - سبحانه - خبير بكل أحوالكم وأعمالكم، ولن يضيع - سبحانه - أجر من أحسن أعملا.
فالجملة الكريمة خطاب للأزواج بطريق الالتفات. لقصد استمالتهم وترغيبهم فى حسن معاملة نسائهم، وسلوك طريق الصلح معهن.
هذا، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: أن على الزوجين أن يحسنا العشرة الزوجية كل واحد منهما من جانبه، وأن يصبر كل واحد منهما على ما يكون من صاحبه من هفوات ومخالفات لا تخلو منها طبيعة الحياة الزوجية...
وأن أحد الزوجين وإذا تنازل عن بعض حقوقه للآخر بقصد الإِبقاء على الحياة الزوجية جاز ذلك، فإذا رغب رجل - مثلا - فى طلاق زوجته لسبب من الأسباب وكانت الزوجة تريد البقاء معه، وتنازلت المرأة عن بعض حقوقها فى سبيل أن تبقى معه وتراضيا على ذلك عن طيب خاطر، بأن أعطته بعض المال - مثلا - فإن ما أخذه منها لا يعد مالا حراما فى مثل هذه الحالة. أما إذا تظاهر الرجل بالنشوز أو الإِعراض لكى ينال شيئا من حقوقها أو تتنازل له عن بعضها، فإن ما يأخذه الرجل منها فى مثل هذه الحالة يكون أكلا لحقوق غيره بالباطل، لأنه لم يكن راغبا حقيقة فى الطلاق وإنما تصنع النشوز أو الإِعراض اجتلابا لمالها، واستدراراً لخيرها. وقد نهى الله عن كل ذلك بل أمر بترك النشوز، ووعد من يحسن المعاشرة الزوجية ويتقى الله بالأجر الجزيل.
قال القرطبى ما ملخصه: يجوز أن يعطى الزوج على أن تصبر. أو تعطى هى على أن يبقيها فى عصمته، أو يقع الصلح بينهما على الصبر والأثرة - أى يؤثر غيرها عليها من غير عطاء فهذا كله مباح. وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشئ تعطيه إياها فقد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم مرة على صفية فقالت لعائشة، أصلحى بينى وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب لك يومى. قالت عائشة: فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إلى جانبه. فقال: "إليك عنى فإنه ليس بيومك" فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأخبرته الخبر، فرضى عنها. وفيه أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلابإذن المفضولة ورضاها.
وقال بعض العلماء ما ملخصه: فإن قيل: إن الله - تعالى - قال فى نشوز المرأة:
{ { وَٱللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ } }. الآية وقال فى نشوز الرجل: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً }. الآية فجعل لنشوز المرأة عقوبة من زوجها يعظها ويهجرها فى المضجع ويضربها ولم يجعل لنشوز الرجل عقوبة من زوجته، بل جعل له ترضية وتلطفا فما معنى ذلك؟
والجواب عن ذلك: أن الله - تعالى - جعل الرجال قوامين على النساء، فالرجل راعى المرأة ورئيسها المهيمن عليها. ومن قضية ذلك ألا يكون للمرءوس معاقبة رئيسه، وإلا انقلب الأمر وضاعت هيمنة الرئيس.
وأن الله فضل الرجال على النساء فى العقل والدين. ومن قضية ذلك ألا يكون نشوز من الرجل إلا لسبب قاهر. ولكن المرأة لنقصان عقلها ودينها يكثر منها النشوز لأقل شئ تتوهمه سبباً.
وأن نشوز الرجل أمارة من أمارات الكراهة وإرادة الفرقة. وإذا كان الله قد جعل له حق الفرقة ولم يجعل للمرأة عليه سبيلا إذا هو أراد فرقتها فأولى ألا يجعل لها عليه سبيلا إذا بدت منه أمارات هذه الفرقة.
ثم بين - سبحانه - أن تحقيق العدالة الكاملة فى الحياة الزوجية غير ممكن فقال - تعالى { وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ }. والخطاب هنا للرجال الذين يتزوجون بأكثر من زوجة.
والمعنى: ولن تستطيعوا - أيها الرجال - أن تعدلوا بين زوجاتكم المتعددات عدلا كاملا فى المحبة وفى الميل القلبى وفى غير ذلك من الأمور التى تختلف باختلاف تآلف النفوس وتنافرها. ولو أنكم حرصتم على العدل الكامل فى مثل هذه الأمور النفسية لما استطعتم، لأن الميل النفسى لا يملكه الإِنسان ولا يستطيع التحكم فيه.
قال ابن كثير: نزلت هذه الآية فى عائشة. وكان النبى صلى الله عليه وسلم يحبها أكثر من غيرها. وقد روى الترمذى وأبو داود وغيرهما عنها أنها قالت:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلميقسم بين نسائه فيعدل. ثم يقول: اللهم هذا قسمى فيما أملك. فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك" يعنى القلب.
وقوله { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ } إرشاد من الله - تعالى - للرجال إلى ما يجب عليهم نحو نسائهم المتعددات اللائى ليس فى استطاعتهم التسوية بينهن فى الميل القلبى.
أى: إذا ثبت أنكم لن تستطيعوا أن تعدلوا بينهن عدلا كاملا من جميع الوجوه ولو حرصتم على هذا العدل أتم الحرص. إذا ثبت ذلك فلا تميلوا كل الميل إلى إحداهن بأن تبالغوا فى إرضائها والإِقبال عليها حتى تصير الأخرى التى ملتم عنها وهجرتموها كالمعلقة أى كالمرأة التى لا هى بذات زوج فتنال من حقوقها الزوجية ولا هى بمطلقة فترجو من الله أن يرزقها بالزوج الذى يكرمها. وإنما الواجب عليكم - يا معشر الرجال - أن تجاهدوا أنفسكم حتى تصلوا إلى الحق المستطاع من العدل بين الزوجات.
فقد أخرج الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى والنسائى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما كانت له أمرأتان فمال إلى أحداهما - أى لم يعدل بينهما فيما يمكنه العدل فيه - جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط" .
وعن مجاهد قال: "كانوا يسوون بين الضرائر حتى فى الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه".
وقوله { كُلَّ ٱلْمَيْلِ } نصب لفظ كل على المصدرية لأنها على حسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره.
وقوله { فَتَذَرُوهَا } منصوب بإظمار أن فى جواب النهى. أو مجزوم عطفا على الفعل قبله. والجملة الكريمة توبيخ للأزواج الذين لا يعدلون بين نسائهم.
قال القرطبى: وقوله { فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ } أى: لا هى مطلقة ولا ذات زوج. وهذا تشبيه بالشئ المعلق من شئ، لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل، وهذا مطرد فى قولهم فى المثل: (ارض من المركب بالتعليق). وفى حديث أم زرع: زوجى العشنق - أى الطويل الممتد القامة - إن أنطق أطلق. وإن أسكت أعلق - أى أهمل وأترك حتى لكأننى بدون زوج -.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.
أى: وإن تصلحوا أعمالكم - أيها الناس - فتعدلوا فى قسمتكم بين أزواجكم وتعاشروهن بالمعروف، وتتقوا الله وتراقبوه فيهن، وتتوبوا إلى الله توبة نصوحا مما حدث منكم من ظلم لهن. إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم ذنوبكم ويتفضل عليكم برحمته وإحسانه.
هذا وقد ادعى بعض الذين لم يفهموا تعاليم الإِسلام فهما سليما أن هذه الآية بضمها إلى قوله - تعالى - فى مطلع هذه السورة
{ { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } يكون منع تعدد الزوجات جائزاً شرعا، لأن الله تعالى - قد بين فى الآية الى معنا وهى قوله { وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ } أن العدل بين الزوجات المتعددات غير مستطاع، وبين فى الآية الأخرى وهى قوله { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } أن الجمع بين النساء غير جائز إلا عند الوثوق من العدل بينهن، وبما أن العدل بينهن غير مستطاع بنص الآية التى معنا، إذا فالجمع بين النساء غير جائز، وعلى الرجل أن يكتفى بواحدة.
وللرد على هذه الدعوى نقول: إن العدل الذى أخبر الله عنه غير مستطاع، هو العدل الذى يتعلق بالتسوية بين الزوجات فى الحب القلبى، والميل النفسى، والتجاوب العاطفى، إذ من المعلوم أن هذه الأمور النفسية لا يستطيع الإِنسان أن يتحكم فيها. فأنت - مثلا - تجلس فى مجلس فيه أشخاص متعددون لا تعرفهم فتحس بارتياح لبعضهم وبنفور من بعضهم مع أنك لم يسبق لك أن اختلطت بواحد منهم، وما ذلك إلا لأن الميول القلبية يعجز الإِنسان عن التحكم فيها.
أما العدل الذى جعله الله شرطا فى جواز الجمع بين الزوجات فهو العدل الذى يتعلق بالتسوية فيما يقدر عليه الإِنسان ويملكه مثل التسوية بينهن فى النفقة والكسوة والسكنى والمبيت. وغير ذلك من الأمور التى يقدر عليها.
وبهذا نرى أن موضوع الآية التى معنا يتعلق بالعدل النفسى وهو أمر غير مستطاع كما جاء فى الحديث الشريف:
"اللهم هذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك" .
وأما موضوع الآية التى فى صدر السورة وهى قوله - تعالى - { { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } فيتعلق بالعدل الظاهرى الذى يقدر عليه الإِنسان مثل التسوية فى النفقة وغير ذلك مما يقدر عليه الإِنسان.
ومع هذا، فالآية التى معنا لم تطالب الرجل بالعدالة المطلقة الكاملة بين زوجاته بأن يسوى بينهن فى كل شئ، لأن العدل بهذا المعنى غير مستطاع للمكلف ولو حرص على إقامته وبالغ فى ذلك. وإنما الآية الكريمة طالبته بالممكن منه فكأنها تقول: إنكم - أيها الرجال - لن تستطيعوا أن تعدلوا العدل المطلق الكامل بين زوجاتكم فى القسم والنفقة والتعهد والنظر والمؤانسة والمحبة وغير ذلك مما لا يكاد يحصر { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } على هذا العدل الكامل أتم الحرص لما استطعتموه، ولذلك لم يكلفكم الله به، إذ التكليف الشرعى إنما يكون بما فى الوسع والطاقة، وإذا كان الأمر كذلك فاجتهدوا ما استطعتم فى العدل بين زوجاتكم، ولا تميلوا كل الميل إلى واحدة منهن وتهملوا الأخرى إهمالا يجعلها كأنها لا هى ذات زوج ولا هى مطلقة.
فإن العجز عن العدل المطلق الكامل لا يمنع تكليفكم بما دون ذلك من المراتب التى تقدرون عليها قالوا: ما لا يدرك كله لا يترك كله.
وبهذا نرى أن الآيتين الكريمتين تدعوان المسلم إلى العدل بين زوجاته بالقدر الذى يستطيعه بدون تقصير أو جور، وأنهما بانضمام معناهما لا تمنعان تعدد الزوجات كما ادعى المدعون.
وبعد أن رغب - سبحانه - فى الصلح بين الزوجين وحض عليه، وأمر الأزواج بالعدل بين الزوجات بالقدر الذى يستطيعونه، عقب ذلك ببيان أن التفرقة بينهما جائزة إذا لم يكن منها بد. لأن التفرقة مع الإِحسان خير من المعاشرة السيئة فقال - تعالى - { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً }.
وإن عز الصلح بين الزوجين واختارا الفراق تخوفا من ترك حقوق الله التى أوجبها على كل واحد منهما { يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ } منهما { مِّن سَعَتِهِ } أى يجعل كل واحد منهما مستغنيا عن الآخر { وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً } أى: وكان الله - تعالى - وما يزال واسعا أى واسع الغنى والرحمة والفضل { حَكِيماً } فى جميع أفعاله وأحكامه.
وبهذا نرى أن هذه الآيات الكريمة قد وضعت أحكم الأسس للحياة الزوجية السليمة، وعالجت أمراضها بالعلاج الشافى الحكيم، فقد أمرت الرجال بأن يؤدوا للنساء حقوقهن، وأن يعاشروهن بالمعروف، وأن على الزوجين إذا ما دب بينهما خلاف أن يعالجاه فيما بينها بالتصالح والتسامح، وإذا اقتضى الأمر أن يتنازل أحدهما للآخر عن جانب من حقوقه فليفعل من أجل الإِبقاء على الحياة الزوجية. وأن الرجل لا يستطيع أن يعدل عدلا مطلقا كاملا بين زوجاته، ولكن هذا لا يمنعه من العدل بينهن بالقدر الذى يستطيعه بدون تقصير أو ميل مع الهوى، فإن الميسور لا يسقط بالمعسور. وأنه إذا استحال الصلح وتنافرت الطباع، وساءت العشرة كان الفراق بينهما أجدى، إذ الفراق مع الإِحسان خير من الإِمساك مع المعاشرة السيئة التى عز معها الإِصلاح والوفاق والتقارب بين القلوب.
وبعد أن بين - سبحانه - ما ينبغى أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين ووسائل علاج أدوائها.. بعد كل ذلك يبن - سبحانه - أن كل شئ فى ملكه وتحت سلطانه، فعلى الناس أن يخشوه ويراقبوه ويشتغلوا بعبادته فقال - تعالى -: { وَللَّهِ مَا فِي...سَمِيعاً بَصِيراً }.