خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً
٢
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ
٣
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والأمر فى قوله { وَآتُواْ } يتناول كل من له ولاية أو وصاية أو صله باليتيم، كما يتناول الجماعة الإِسلامية بصفة عامة، لكى تتكاتف وتتعاون على تمكين اليتيم من وصول حقه إليه بدون بخس أو مماطلة.
و { ٱلْيَتَامَىٰ } جمع يتيم وهو الصغير الذى مات أبوه، مأخوذ من اليتم بمعنى الانفراد. ومنه الدرة اليتيمة.
قال صاحب الكشاف وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنه قد غلب ان يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم، وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم، زال عنهم هذا الاسم. وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يتيم أبى طالب؛ إما على القياس، وإما حكاية للحال التى كان عليها صغيرا في حجر عمه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم
"لا يتم بعد الحلم" فهو تعليم شريعة لا لغة. أى أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار".
والمراد باليتامى هنا الصغار، والمراد بإيتائهم أموالهم حفظها لهم وعدم الطمع فى شىء منها لا من قبل الورثة ولا من قبل الأوصياء ولا من قبل غيرهم وعلى هذا المعنى يكون لفظ الإِيتاء قد أول بلازم معناه وهو الحفظ والرعاية لمال اليتامى، لا تسليم المال إليهم لأنه من المعروف شرعا ألا يسلم المال إليهم إلا بعد البلوغ، إذ هم فى حال الصغر لا يصلحون للتصرف.
ويكون هذا التعبير من باب الكناية بإطلاق اللازم - وهو الإِيتاء، وإرادة الملزوم وهو الحفظ، أو من باب المجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإِيتاء.
ويرى بعضهم أن المراد باليتامى هنا الكبار الذين أونس منهم الرشد وأن المراد بالإِيتاء دفع أموالهم إليهم على سبيل الحقيقة.
ويكون التعبير عنهم باليتامى - مع أنهم كبار - باعتبار ان اسم اليتيم يتناول لغة كل من فقد أباه، أو باعتبار قرب عهدهم بالصغر، أو باعتبار ما كان أى الذين كانوا يتامى. قالوا: وفى التعبير عنهم باليتامى مع أنهم كبار، إشارة إلى وجوب المسارعة فى تسليم أموالهم إليهم متى أونس منهم الرشد، حتى لكأن اسم اليتيم ما زال باقيا عليهم، غير منفصل عنهم:
ويبدو لنا أن الرأى الأول أولى، لأن الأمر بدفع أموال اليتامى إليهم. بعد بلوغهم قد جاء صريحا فى قوله - تعالى - بعد ذلك:
{ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } } فكان حمل الآية التى معنا على أن المراد باليتامى: الصغار، وبإيتاء أموالهم حفظها لهم، أولى وأقرب إلى المنطق، لأنه على الرأى الأول يكون الأمر وما يذكر به تأسيسات أحكام، وعلى الرأى الثانى يكون ما فى الآية الثانية مؤكدا لما فى الآية التى معنا. والتأسيس أولى من التأكيد.
ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك فى الآية التى معنا { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } - إنما هو تحذير للأوصياء والأولياء من الطمع فى مال اليتيم أو إضاعته ما دام المال فى أيديهم واليتيم فى حجرهم، وهذا يؤيد هذا الرأى الأول القائل بأن المراد باليتامى: الصغار، وبإيتاء أموالهم: حفظها ورعايتها حتى تسلم إليهم عند بلوغهم كاملة غير منقوصة.
وقوله { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ } معناه: لا تجعلوا ردىء المال لهم بدل الجيد، بأن تأخذوا لأنفسكم كرائم الأموال ونفائسها، وتتركوا لهم الخسيس منها.
قال القرطبى: وكانوا فى الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى فكانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويبدلونه بالردىء من أموالهم ويقولون اسم باسم، ورأس برأس، فنهاهم الله عن ذلك. وهذا قول سعيد بن المسيب والزهرى والسدى والضحاك وهو ظاهر الآية، إذ التبديل جعل شىء بدل شىء".
ويرى صاحب الكشاف أن المراد بالخبث: الحرام، وبالطيب: الحلال فقد قالوا: { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ } أى: ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما ابيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث فى الأرض فتأكلوه مكانه، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها".
وقوله - تعالى - { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } نهى آخر عن الاعتداء على أموال اليتامى عن طريق خلط أموال اليتامى بأموال الأوصياء، و المراد من الأكل: مطلق الانتفاع والتصرف وخص الأكل بالذكر، لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف.
والمعنى: ولا تضموا أيها الأوصياء أموال اليتامى إلى أموالكم في الإِنفاق فتأكلوها مع أموالكم، وتسووا بينهما فى الانتفاع، لأن أموالكم احل الله لكم أكلها، أما أموال اليتامى فقد حرم الله عليكم أكلها.
فالآية الكريمة صريحة فى النهى عن خلط مال اليتيم القاصر بمال الوصى عليه بقصد أكله، لأن هذا لون من ألوان الاستيلاء المحرم على أموال اليتامى، كما أنها تتضمن النهى عن خلط مال اليتيم بمال الوصى عليه ولو لم يقصد أكله، لأن هذا الخلط قد يؤدى إلى ضياعه وعدم تميزه فقد يموت الوصى فلا يعرف مال اليتيم من ماله، فيؤدى الأمر إلى أكله وإن لم يكن مقصودا، ولذا قال الفقهاء: إذا مات الوصى على اليتيم مجهلا مال اليتيم اعتبر مستهلكا له.
والخلاصة أن الآية الكريمة تحرم على الأولياء والأوصياء وغيرهم أن يتصرفوا في أموال اليتامى أى تصرف يؤدى إلى الإِضرار بها، بل عليهم أن يحفظوها لهم حتى يدفعوها إليهم سالمة عند البلوغ.
هذا، وليس قيد "إلى أموالكم" محط النهى، بل النهى واقع على أكل أموال اليتامى مطلقا، سواء أكان للآكل مال يضم إليه مال اليتيم أم لم يكن. ولكن لما كان الغالب وجود أموال للأوصياء، وأنهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثير أو توفير أموالهم، جىء بهذا القيد رعاية لهذا الغالب، وليكون ذمهم على جشعهم وضعف دينهم أشد وأشنع حيث أكلوا حقوق اليتامى مع أنهم فى غنى عنها بما رزقهم الله من أموال.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم فلم ورد النهى عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال - وهم مع ذلك يطمعون فيها - كان القبح أبلغ والذم أحق، ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم".
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً }.
والحوب: اسم مصدر من حاب يحوب حوبا: إذا اكتسب إثما. يقال: فلان يتحوب أى يتأثم. والحوباء: النفس المرتكبة للإِثم. ويقال فى الدعاء: اللهم اغفر حوبتى، أى إثمى، وأصله الزجر للإبل، فسمى الإِثم حوبا لأنه يزجر عنه وبه.
والضمير فى قوله { إِنَّهُ } يعود إلى أكل مال اليتيم بأى طريق محرم.
والمعنى: إن أكل مال اليتيم بأى طريقة من الطرق المحرمة كان إثما كبيراً، وذنبا عظيما، لأن هذا الأكل اعتداء على نفس ضعيفة فقدت من يعولها ومن يدافع عنها، ومن اعتدى على نفس ضعيفة، وضيع حقها، وخان الأمانة كان مرتكبا لذنب عظيم يؤدى به إلى العقوبة والعذاب الأليم.
والجملة بمنزلة التعليل للنهى عن أكل مال اليتيم، وعن الطمع بدون وجه حق فيها.
ثم شرع - سبحانه - فى نهيهم عن منكر آخر كانوا يباشرونه فقال - تعالى.
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ }.
وقوله { وَإِنْ خِفْتُمْ } شرط، وجوابه قوله { فَٱنكِحُواْ }.
والمراد من الخوف: العلم، وعبر عنه بذلك للأشعار بكون المعلوم مخوفا محذورا. ويقوم الظن الغالب مقام العلم.
وقوله { تُقْسِطُواْ } من الإِقساط وهو العدل. يقال: أقسط الرجل إذا عدل. قال - تعالى -:
{ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } ويقال: قسط الرجل إذا جار وظلم صاحبه. قال - تعالى - { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } } والمراد "باليتامى: يتامى النساء. قال الزمخشرى: ويقال للاناث اليتامى كما يقال للذكور وهو جمع يتيمة.
ومعنى { مَا طَابَ لَكُمْ } ما مالت إليه نفوسكم واستطابته من النساء اللائى أحل الله لكم نكاحهن.
هذا، وللعلماء أقوال فى تفسير هذه الآية الكريمة منها: ما رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى وغيرهم عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة - رضى الله عنها - عن هذه الآية فقالت: يا ابن أختى هى اليتيمة تكون فى حجر وليها تشركه فى ماله ويعحبه مالها وجمالها. فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط فى صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره.
قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله - تعالى -
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَابِ فِي يَتَامَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } } قالت عائشة: وقوله الله - تعالى - { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال. قالت: فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا فى مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال".
وعلى هذه الرواية التى ساقها أئمة المحدثين عن عائشة فى المراد من الآية الكريمة يكون المعنى: وإن علمتم أيها الأولياء على النساء اليتامى أنكم لن تعدلوا فيهن إذا تزوجتم بهن - بأن تسيئوا إليهن فى العشرة، أو بأن تمتنعوا عن إعطائهن الصداق المناسب لهن - إذا علمتم ذلك فانكحوا غيرهن من النساء الحلائل اللائى تميل إليهن نفوسكم ولا تظلموا هؤلاء اليتامى بنكاحهن دون أن تعطوهن حقوقهن؛ فإن الله - تعالى - قد وسع عليكم فى نكاح غيرهن.
فالمقصود من الآية الكريمة على هذا المعنى: نهى الأولياء عن نكاح النساء اليتامى اللائى يلونهن عند خوف عدم العدل فيهن، إلا أنه أوثر التعبير عن ذلك بالأمر بنكاح النساء الأجنبيات، كراهة للنهى الصريح عن نكاح اليتيمات، وتلطفا فى صرف المخاطبين عن نكاح التيامى حال العلم بعدم العدل فيهن.
فكأنه - سبحانه - يقول: إن علمتم أيها الأولياء الجور والظلم فى نكاح اليتامى اللائى فى ولايتكم فلا تنكحوهن، وانكحوا غيرهن مما طالب لكم من النساء.
وعلى هذا القول الذى أورده المحدثون عن عائشة - رضى الله عنها - سار كثير من المفسرين في الآية الكريمة. وبعضهم اقتصر عليه ولم يذكر سواه.
قال بعض العلماء: وكلامها هذا أحسن تفسير لهذه الآية. وهى وإن لم تسند ما قالته إلى رسول الله، إلا أن سياق كلامها يؤذن بأنه عن توقيف؛ ولذلك أخرجه البخارى فى باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة، اعتدادا بأنها ما قالت ذلك إلا عن معاينة حال النزول.
لا سيما وقد قالت: ثم إن الناس استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وعليه يكون إيجاز لفظ الآية اعتدادا بما فهمه الناس مما يعلمون من أحوالهم، وتكون قد جمعت إلى جانب حفظ حقوق اليتامى فى أموالهم الموروثة، حفظ حقوقهم فى الأموال التى يستحقها النساء اليتامى كمهور لهن عند الزواج بهن . . ".
أما الرأى الثانى فيرى أصحابه أن الآية مسوقة للنهى عن نكاح ما فوق الأربع خوفا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم.
وقد حكى هذا القول الإِمام ابن جرير فقال: وقال آخرون بل معنى ذلك: النهى عن نكاح ما فوق الأربع، حذرا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم وذلك أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدما مال على مال اليتيمة التى فى حجره فأنفقه، أو تزوج به، فنهوا عن ذلك. وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مؤن نسائكم، - إن خفتم ذلك. فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربع. وإن خفتم أيضاً من الأربع ألا تعدلوا فى أموالهم - أى أموال اليتامى -، فاقتصروا على الواحدة أو على ما ملكت أيمانكم - أى إن كان زواجكم بالأربع يؤدى إلى الجور فى أموال اليتامى فاقتصروا على الزواج بامرأة واحدة -".
وقد انتصر ابن جرير لهذا القول وعده أرجح الأقوال، فقال ما ملخصه وإنما قلنا: إن ذلك أولى بتأويل الآية؛ لأن الله - تعالى - افتتح الآية التى قبلها بالنهى عن أكل أموال اليتامى بغير حقها. ثم أعلمهم - هنا - المخلص من الجور فى أموال اليتامى فقال: انكحوا إن أمنتم الجور فى النساء على أنفسكم ما أبحت لكم منهن وحللته: مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم أيضاً الجور على أنفسكم فى أمر الواحدة فلا تنكحوها، ولكن تسروا من المماليك، فإنكم أحرى ألا تجوروا عليهن، لأنهن أملاككم وأموال، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذى يلزمكم للحرائر، فيكون ذلك اقرب لكم إلى السلام من الإِثم والجور".
وينسب هذا الرأى إلى ابن عباس وسعيد بن جبير، والسدى، وقتادة، وعكرمة.
وقال مجاهد: إن الآية الكريمة مسوقة للنهى عن الزنا. وقد حكى هذا الرأى صاحب الكشاف فقال: كانوا لا يتحرجون من الزنا. ويتحرجون من ولاية اليتامى. فقيل لهم: إن خفتم الجور في حق اليتامى، فخافوا الزنا، فانكحوا ما حل من النساء، ولا تحوموا حول المحرمات".
هذه أشهر الأقوال فى معنى الآية الكريمة، ويبدو لنا أن أرجحها أولها، لأنه هو الظاهر من معنى الآية، ولأن الغالب أن السيدة عائشة - رضى الله عنها - ما فسرت الآية بهذا التفسير الذى قالته لابن أختها عروة إلا عن توقيف ومعاينة لحال النزول، ولأن الملازمة بين الشرط والجزاء فى الآية على هذا الوجه تكون ظاهرة. إذ التقدير وإن خفتم أيها الأولياء الجور والظلم فى نكاح اليتامى اللاتى فى ولايتكم فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء.
أما على القول الثانى فمحل الملازمة بين الشرط والجزاء إنما هو فيما تفرع عن الجزاء وهو قوله { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }.
وعلى قول مجاهد تضعف الملازمة بين الشرط والجزاء.
هذا، والأمر فى قوله { فَٱنكِحُواْ } - على التفسير الأول - للإِباحة كما فى قوله - تعالى -
{ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ. . . } خلافا للظاهرية الذين يرون أنه للوجوب. و { مَا } فى قوله - تعالى - { مَا طَابَ لَكُمْ } موصولة أو موصوفة. وما بعدها صلتها أو صفتها. وأوثرت على { مِّنَ } لأنها أريد بها الصفة وهو الطيب من النساء بدون تحديد لذات معينة، ولو قال { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ } لتبادر إلى الذهن أن المراد نسوة طيبات معروفات بينهم.
وقوله - تعالى - { مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } حال من فاعل { طَابَ } المستتر أو من مرجعه - وهو { مَا } -، أو بدل منه.
وهذه الكلمات الثلاث من ألفاظ العدد. وتدل كل واحدة منها على المكرر من نوعها. فمثنى تدل على اثنين اثنين. وثلاث تدل على ثلاثة ثلاثة. ورباع تدل على أربعة أربعة.
والمراد منها هنا: الإِذن لكل من يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور متفقين فيه ومختلفين.
والمعنى: فانكحوا ما طالب لكم من النساء معدودات هذا العدد: ثنتين ثنتين. وثلاثا ثلاثا. وأربعا أربعا. حسبما تريدون وتستطيعون.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: الذى أطلق للنكاح فى الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع. فما معنى التكرير فى مثنى وثلاث ورباع.
قلت: الخطاب للجميع. فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذى أطلق له. كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال - وهو ألف درهم -: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة. وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى.
فإن قلت: فلم جاء العطف بالواو دون أو؟
قلت: كما جاء بالواو فى المثال الذى حذوته لك. ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة؛ علمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة. وليس لهم أن يجمعوا بينها. فيجعلوا بعض القسم على تثنية، وبعضا على تثليث، وبعضا على تربيع، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذى دلت عليه الواو.
وتحريره: أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحهن من النساء على طريق الجمع: إن شاؤوا مختلفين فى تلك الأعداد، وإن شاؤوا متفقين فيها، محظوراً عليهم ما وراء ذلك".
ثم بين - سبحانه - لعباده ما ينبغى عليهم فعله فى حال توقعهم عدم العدل بين الزوجات فقال - تعالى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }.
فالمراد بالعدل هنا: العدل بين الزوجات المتعددات.
أى: فإن علمتم أنكم لا تعدلون بين الأكثر من الزوجة الواحدة فى القسم والنفقة وحقوق الزوجية بحسب طاقتكم، كما علمتم فى حق اليتامى أنكم لا تعدلون - إذا علمتم ذلك فالزموا زوجة واحدة، أو أى عدد شئتم من السرارى بالغة ما بلغت.
فكأنه - سبحانه - لما وسع عليهم بأن أباح لهم الزواج بالمثنى والثلاث والرباع من النساء، أتبأهم بأنه قد يلزم من هذه التوسعة خوف الميل وعدم العدل. فمن الواجب عليهم حينئذ أن يحترزوا بالتقليل من عدد النساء فيقتصروا على الزوجة الواحدة.
ومفهومه: إباحة الزيادة على الواحدة إذا أمن الجور بين الزوجات المتعددات.
وقوله { فَوَاحِدَةً } منصوب بفعل مضمر والتقدير: فالزموا واحدة أو فاختاروا واحدة فإن الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به.
وقرىء بالرفع أى فحسبكم واحدة. { أَوْ } للتسوية أى سوى - سبحانه - فى السهولة واليسر بين نكاح الحرة الواحدة وبين السرارى من غير تقييد بعدد، لقلة تبعتهن، ولخفة مؤنتهن، وعدم وجوب القسم فيهن.
وقوله { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ } جملة مستأنفة بمنزلة التعليل مما قبلها.
واسم الإِشارة "ذلك" يعود إلى اختيار الواحدة أو التسرى.
وقوله { أَدْنَىٰ } هنا بمعنى أقرب. وهو قرب مجازى. أى أحق وأعون أن لا تعولوا.
وقوله { تَعُولُواْ } مأخوذ من العول وهو فى الأصل الميل المحسوس.
يقال. عال الميزان عولا إذا مال. ثم نقل إلى الميل المعنوى وهو الجور والظلم؛ ومنه عال الحاكم إذا جار، والمراد هنا الميل المحظور المقابل للعدل.
والمعنى: أن ما ذكر من اختيار الزوجة الواحدة والتسرى، أقرب بالنسبة إلى ما عداهما إلى العدل وإلى عدم الميل المحظور، لأن من اختار زوجة واحدة فقد انتفى عنه الميل والجور رأسا لانتفاء محله ومن تسرى فقد انتفى عنه خطر الجور والميل. أما من اختار عددا من الحرائر فالميل المحظور متوقع منه لتحقق المحل والخطر.
ولأن التعدد فى الزوجات يعرض المكلف غالبا للجور وإن بذل جهده فى العدل.
وهذا المعنى على تفسير (تعولوا) بمعنى تجوروا وتميلوا عن الحق. وهو اختيار أكثر المفسرين.
وقيل: إن معنى { أَلاَّ تَعُولُواْ } ألا تكثر عيالكم. يقال: عال يعول، إذا كثرت عياله. وقد حكى صاحب الكشاف هذا المعنى عن الإِمام الشافعى فقال:
"والذي يحكى عن الشافعى -رحمه الله - أن فسر { أن لا تعولوا } بأن لا تكثر عيالكم. فوجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم كقولهم: ما نهم يمونهم إذا أنفق عليهم. لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفى ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب.
ثم قال: وكلام مثله من أعلام العلم، وأئمة الشرع، ورءوس المجتهدين، حقيق بالحمل على الصحة والسداد.
وقرأ طاووس: أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله. وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعى من حيث المعنى الذى قصده".
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاما منها: جواز تعدد الزوجات إلى أربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهم مجتمعات، لأن هذا العدد قد ذكر فى مقام التوسعة على المخاطبين، ولو كانت تجوز الزيادة على هذا العدد لذكرها الله - تعالى -.
وقد أجمع الفقهاء على أنه لا تجوز الزيادة على الأربع، ولا يقدح فى هذا الإِجماع ما ذهب إليه بعض المبتدعة من جواز الجمع بين ما هو أكثر من الأربع الحرائر، لأن ما ذهب إليه هؤلاء، المبتدعة لا يعتد به. إذ الإِجماع قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور هؤلاء المبتدعين المخالين.
وقد رد العلماء على هؤلاء المخالفين بما يهدم أقوالهم، ومن العلماء الذين تولوا الرد عليهم الإِمام القرطبي فقد قال - ما ملخصه -:
"أعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع. كما قاله من بعُد فهمه عن الكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبى صلى الله عليه وسلم نكح تسعا، وجمع بينهن فى عصمته. والذى صار إلى هذه الجهالة وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر، جعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع.
وهذا كله جهل باللسان والسنة ومخالفة لإِجماع الأمة، إذ لا يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع فى عصمته أكثر من أربع.
وأخرج مالك فى الموطأ والنسائى والدارقطنى فى سننهما
"أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفى وقد أسلم وتحته عشر نسوة اختر منهن أربعا وفارق سائرهن"
وأما ما أبيح من ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فذلك من خصوصياته.
وأما قولهم إن الواو جامعة. فقد قيل ذلك، ولكن الله - تعالى - خاطب العرب بأفصح اللغات. والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة. وكذلك تستقبح ممن يقول، أعط فلانا أربعة، ستة، ثمانية، ولا يقول: ثمانية عشر.
وإنما الواو فى هذه الموضع بدل، أى أنكحوا ثلاث بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو. ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع.
وقد قال مالك والشافعى فى الذى يتزوج خامسة وعنده أربع: عليه الحد إن كان عالما. وقال الزهرى: يرجم إن كان عالما، وإن كان جاهلا فعليه أدنى الحدين الذى هو الجلد، ولها مهرها، ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً".
كذلك من الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى وإن كان قد أباح التعدد وحدد غايته بأربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهن، إلا أنه - سبحانه - قد قيد هذه الإِباحة بالعدل بينهم فيما يستطيع الإِنسان العدل فيه بحسب طاقته البشرية، بأن يعدل بينهن فى النفقة والكسوة والمعاشرة الزوجية. فإن عجز عن ذلك لم يبح له التعدد.
وللإِمام الشيخ محمد عبده كلام حسن فى المعنى، فقد قال -رحمه الله - "قد أباحت الشريعة الإِسلامية للرجل الاقتران بأربع من النسوة إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة. قال - تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } فإن الرجل إذا لم يستطع إعطاء كل منهن حقها اختل نظام المنزل، وساءت معيشة العائلة إذا العماد القويم لتدبير المنزل هو بقاء الاتحاد والتآلف بين أفراد العائلة..
وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون، والعلماء الصالحون من كل قرن إلى هذا العهد يجمعون بين النسوة مع المحافظة على حدود الله فى العدل بينهن. فكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون من أمته لا يأتون حجرة إحدى الزوجات فى نوبة الأخرى إلا بإذنها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"من كان له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل"
وكان صلى الله عليه وسلم يعتذر عن ميله القلبى بقوله: "اللهم هذا - أى العدل فى البيات والعطاء - جهدى فيما أملك، ولا طاقة لى فيما تملك ولا أملك - يعنى الميل القلبى" . وكان يقرع بينهم إذا أراد سفرا.
ثم قال فى نهاية حديثه: فعلى العقلاء أن يتبصروا قبل طلب التعدد فى الزوجات فيما يجب عليهم شرعا من العدل وحفظ الألفة بين الأولاد، وحفظ النساء من الغوائل التى تؤدى بهن إلى الأعمال التى لا تليق بمسلمة.
هذا، وقد ذكر العلماء حكما كثيرة لمشروعية تعدد الزوجات، ومن هذه الحكم أن فى هذا التعدد وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد عدد المواليد فيها. ولا شك أن كثيرا من الأمم الإِسلامية التى اتسعت أرضها، وتعددت موارد الثروة فيها، فى حاجة إلى تكثير عدد أفرادها حتى تنتفع بما حباها الله من خيرات، وتستيطع الدفاع عن نفسها إذا ما طمع فيها الطامعون، واعتدى عليها المعتدون.
ومنها أن التعدد يعين على كفالة النساء وحفظهن وصيانتهن من الوقوع فى الفاحشة، لا سيما فى أعقاب الحروب التى - عادة - تقضى على الكثيرين من الرجال، ويصبح عدد النساء أكبر بكثير من عدد الرجال.
ومنها أن الشريعة الإِسلامية قد حرمت الزنا تحريما قاطعا، وعاقبت مرتكبه بأقصى أنواعه العقوبات وأزجرها، بسبب ما يجر إليه من فساد فى الأخلاق والأنساب ونظام الأسر، فناسب أن توسع على الناس فى تعدد النساء لمن كان من الرجال ميالا للتعدد، مستطيعا لتكاليفه ومطالبه.
ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق، فإن المرأة قد لا تكون قادرة على القيام بالمطالب الزوجية التى تحتمها حياتها مع زوجها بسبب مرضها أو عجزها أو عقمها أو غير ذلك من الأسباب، فيلجأ زوجها إلى الزواج بأخرى غيرها مع بقاء الزوجة الأولى فى عصمته بدل أن يطلقها فتفقد حياتها الزوجية، وقد تكون هى فى حاجة إلى هذا الزوج الذى يقوم برعايتها وحمايتها والقيام بشأنها.
والخلاصة أن الله - تعالى - قد علم أن مصلحة الرجال والنساء قد تستدعى تعدد الزوجات، - بل قد توجبه فى بعض الحالات - فأباح لهم هذا التعدد، وحدد غايته بأربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهن، وقيد - سبحانه - هذه الإِباحة بالعدل بينهن فيما يستطيع الإِنسان العدل فيه بحسب طاقته البشرية، فإن علم الإِنسان من نفسه عدم القدرة على العدل بينهن لم يبح له التعدد.
ولو أن المسلمين ساروا على حسب ما شرع الله لهم لسعدوا فى دنياهم وفى آخرتهم؛ لأن الله - تعالى - ما شرع لهم إلا ما فيه منفعتهم وسعادتهم.
ثم أمر الله تعالى الرجال أن يعطوا النساء مهورهن كاملة عن رضا وسماحة نفس، وألا يطمعوا فى شيء مما أعطاه الله لهن فقال - تعالى -: { وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ... }.