خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يَشْتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ
٤٤
وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً
٤٥
مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
٤٦
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٤٧
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً
٤٨
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٤٩
ٱنظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً
٥٠
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً
٥١
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً
٥٢
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً
٥٣
أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً
٥٤
فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً
٥٥
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الآلوسى: قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ } هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقدير والتذكير لمن علم بما يأتى كالأحبار وأهل التواريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه. وقد اشتهرت فى ذلك حتى أجريت مجرى المثل فى هذا الباب. بأن شبه حال من لم ير الشئ بحال من رآه فى أنه لا ينبغى أن يخفى عليه وأنه ينبغى أن يتعجب منه ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى قصدا إلى المبالغة فى شهرته وعراقته فى التعجب - والرؤية إما بمعنى الإِبصار - أى ألم تنظر إليهم، وإما بمعنى الإِدراك القلبى متضمنا معنى الوصول والانتهاء - أى ألم ينته علمك إليهم".
والمراد بـ { ٱلَّذِينَ } أحبار اليهود. والمراد بالذى أوتوه ما بين لهم فى الكتاب من العلوم والأحكام التى من جملتها ما علموه من نعوت النبى صلى الله عليه وسلم ومن حقية دين الإِسلام بالاتباع.
والمرد بالكتاب: التوراة التى أنزلها الله - تعالى - على موسى عليه السلام - ليكون هداية لبنى إسرائيل، فحرفوها تركوا العمل بها.
والمراد بالسبيل: الطريق المستقيم وهو طريق الإِسلام فأل فيه للعهد.
والمعنى: ألم ينته علمك إلى حال هؤلاء الأحبار من اليهود الذين أعطوا حظا ومقدارا من علم التوراة؟ إن كنت لم تعلم أحوالهم أو لم تنظر إليهم فهاك خبرهم وتلك هى حقيقتهم، إنهم يشترون الضلالة وهو البقاء على اليهودية بعد وضوح الآيات لهم الدالة على صحة دين الإِسلام، وهم لا يكتفون بتلبسهم بالضلال الذى أشربته نفوسهم، بل يرديون لكم يا معشر المسلمين أن تتكروا دين الإِسلام الذى هو السبيل الحق، وأن تتبعوهم فى ضلالهم وكفرهم.
فالمقصود من الآية الكريمة تعجيب المؤمنين من سوء أحوال أولئك الأحبار، وتحذير لهم من موالاتهم أو من الاستماع إلى أكاذيبهم وشبهاتهم.
والخطاب لكل من يصلح له من المؤمنين. وتوجيهه إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - هنا مع توجيهه بعد ذلك إلى الكل - فى قوله { أَن تَضِلُّواْ } - للإِيذان بكمال شهرة شناعة حال أولئك اليهود، وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجب منها كل من يراها أو يعلمها.
وقد وصفهم - سبحانه - بأنهم أوتوا نصيباً من الكتاب، ولم يؤتوا الكتاب كله، لأنهم نسوا حظا كبيراً مما ذكروا به، ولم يبق عندهم من علم الكتاب إلا القليل، وهذا القليل لم يعملوا به بل حرفوه وبدلوه وأخضعوا تفسيره لأهوائهم وشهواتهم.
وقوله { يَشْتَرُونَ ٱلضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ } هو موطن التعجب من شأنهم لأنهم لا يطلبون الضلالة بفتور أو تريث وإنما يطلبونها بشراهة ونهم ويدفعون فيها أغلى الأثمان وهو الهدى، ولا يكتفون بذلك بل يبتغون من المؤمنين أن يكونوا مثلهم فى الضلال.
وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى -
{ { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً } }. وذكر سبحانه - الشئ الذى اشتروه وهو الضلالة، وطوى ذكر المتروك وهو الهدى، للايذان بغاية ظهوره. وللاشعار بأنهم قوم يطلبون الضلالة فى ذاتها. وأن البعد عن الحق والهدى مطلب من مطالبهم يدفعون فيه الثمن عن رغبة، وذلك لأنهم قوم مردوا على الضلالة فغدوا لا يستمرئون سواها، ولا يركنون إلا إليها. وإن قوما هذا شأنهم لجديرون بالابتعاد عنهم، والتحقير من أمرهم. لأنك - كما يقول الفخر الرازى - لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذهين الأمرين: أعنى الضلال والإِضلال.
قال الآلوسى: وقوله: { يَشْتَرُونَ ٱلضَّلاَلَةَ }.. الخ استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجب المفهومين من صدر الكلام، مبنى على سؤال نشأ منه كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلونها بعد تمكنهم منه.... وذهب أبو البقاء إلى أن جملة { يَشْتَرُونَ } حالة مقدرة من ضمير { أُوتُواْ } أو حال من { ٱلَّذِينَ }.
وقوله { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } جملة معترضة للتأكيد والتحذير.
أى: والله - تعالى - أعلم أعدائكم منكم - أيها المؤمنون - وقد أخبركم بأحوالهم وبما يبيتون لكم من شرور فاحذروهم ولا تلتفتوا إلى أقوالهم وأعدوا العدة لتأديبهم دفاعا عن دينكم وعقيدتكم.
وقوله { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً } تذييل قصد به غرس الطمأنينة فى نفوس المؤمنين بأن العاقبة لهم.
أى: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولى أموركم، ويصلح بالكم، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً } يدفع عنكم مكرهم وشرورهم؛ وما دام الأمر كذلك فاكتفوا بولايته ونصرته. واعتصموا بحبله، وأطيعوا أمره، ولا تكونوا فى ضيق من مكر أعدائكم فإن الله ناصركم عليهم بفضله وإحسانه.
وقوله { وَكَفَىٰ } فعل ماض. ولفظ الجلالة فاعل والباء مزيدة فيه لتأكيد الكافية. ووليا ونصيرا منصوبان على التمييز. وقيل على الحال.
وكرر - سبحانه - الفعل كفى لإِلقاء الطمأنينة فى قلوب المؤمنين، لأن التكرار فى مثل هذا المقام يكون أكثر تأثيرا فى القلب، وأشد مبالغة فيما سيق الكلام من أجله.
فكأنه - سبحانه - يقول لهم: اكتفوا بولاية الله ونصرته، وكفاكم الله الولاية والنصرة والمعونة. ومن كان الله كافيه نصره على عدوه فاطمئنوا ولا تخافوا.
ثم ذكر - سبحانه - ألوانا من الأقوال والأعمال القبيحة التى كان اليهود يقولونها ويفعلونها للإِساءة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فقال: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ }.
وتحريف الشئ إمالته وتغييره. ومنه قولهم: طاعون يحرف القلوب، أى يميلها ويجعلها على حرف، أى جانب وطرف. وأصله من الحرف يقال: حرف الشئ عن وجهه، صرفه عنه.
والجملة الكريمة بيان للوصول وهو قوله - تعالى - { ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ }.
ويجوز أن يكون قوله { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } خبر لمبتدأ محذوف. وقوله { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } صفة له.
أى من الذين هادوا قوم أو فريق من صفاتهم أنهم يحرفون الكلم من مواضعه أى يميلونه عن مواضعه، ويجعلون مكانه غيره، ويفسرونه تفسيرا سقيما بعيدا عن الحق والصواب.
قال الفخر الرازى: فى كيفية التحريف وجوه:
أحدها: أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر. مثل تحريفهم اسم "ربعة" عن موضعه فى التوراة بوضعهم "آدم طويل"، وكتحريفهم الرجم بوضعهم الجلد بدله.
الثانى: أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه من الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة فى زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم. وهذا هو الأصح.
الثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبى صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه".
والذى نراه أولى أن تحريف هؤلاء اليهود للكلم عن مواضعه يتناول كل ذلك، لأنهم لم يتركوا وسيلة من وسائل التحريف الباطل إلا فعلوها، أملا منهم فى صرف الناس عن الدعوة الإِسلامية، ولكن الله - تعالى - خيب آمالهم.
قال الزمخشرى: فإن قلت: كيف قيل ههنا { عَن مَّوَاضِعِهِ } وفى المائدة
{ { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } }. قلت: "أما عن مواضعه" فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التى أوجبت حكمة الله وضعه فيها، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه.
وأما
{ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فالمعنى أنه كانت له مواضع فمن بأن يكون فيها. فحين حرفوه تركوه كالغريب الذى لا موضع له بعد مواضعه ومقاره. والمعنيان متقاربان".
ثم حكى - سبحانه - لونا ثانياً من ضلالتهم فقال: { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أى. ويقولون للنبى صلى الله عليه وسلم إذا ما أمرهم بشئ: سمعنا قولك وعصينا أمرك فنحن مع فهمنا لما تقول لا نطيعك لأننا متمسكون باليهودية.
ثم حكى - سبحانه - لونا ثالثا من مكرهم فقال: { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وداخلة تحت القول السابق.
أى: ويقولون ذلك فى أثناء مخاطبتهم للنبى صلى الله عليه وسلم وهو كلام ذو وجهين وجه محتمل للشر. بأن يحمل على معنى "اسمع" حال كونك غير مسمع كلاما ترضاه. ووجه محتمل للخير. بأن يحمل على معنى اسمع منا غير مسمع كلاما تكرهه.
فأنت تراهم - لعنهم الله - أنهم كانوا يخاطبون النبى صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام المحتمل للشر والخير موهمين غيرهم أنهم يريدون الخير، مع أنهم لا يريدون إلا الشر، بسبب ما طفحت به نفوسهم من حسد للنبى صلى الله عليه وسلم وللمسلمين.
ثم حكى - سبحانه - لونا رابعا من خبثهم فقال: { وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ } وهو كلام معطوف على ما قبله وداخل تحت القول السابق.
وكلمة { رَاعِنَا } كلمة ذات وجهين - أيضاً - فهى محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وأمهلنا أو انتظرنا نكلمك. ومحتملة للشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها. أو على السب بالرعونة أى الحمق.
قال الراغب: قوله: - تعالى - { وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ } كان ذلك قولا يقولونه للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم يقصدون به رميه بالرعونة، ويوهمون أنهم يقولون: راعنا أى: أحفظنا. من قولهم: رعن الرجل يرعن رعنا فهو رعن". أى أحمق.
وأصل كلمة { لَيّاً } لوياً لأنه من لويت، فأدغمت الواو فى الياء لسبقها بالسكون. واللى: الانحراف والالتفات والانعطاف.
والمراد أنهم كانوا يلوون ألسنتهم بالكلمة أو بالكلام ليكون اللفظ فى السمع مشبها لفظا آخر هم يردونه لأنه يدل على معنى ذميم.
أى أنهم كانوا يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء { وَرَاعِنَا } ويقصدون بهذا القول الإِساءة إليه صلى الله عليه وسلم وينطقون بهذه الكلمة وما يشابهها نطقاً ملتويا منحرفا ليصرفوها عن جانب احتمالها للخير إلى جانب إحتمالها للشر. ولذا فقد نهى الله - تعالى - المؤمنين عن مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الألفاظ.
قال ابن كثير: عند تفسيره لقوله - تعالى -
{ { يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا } }: نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتشبهوا بالكافرين فى مقالهم وفعالهم. وذلك أن اليهود كانوا يعلنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص - عليهم لعائن الله -: فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا: يقولون راعنا، ويورون بالرعونة: وكذلك جاءت الأحاديث بالإِخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون. السام عليكم. والسام هو الموت. ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بوعليكم. وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا. والغرض أن الله - تعالى - نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا".
وقوله { وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ } أى يقولون ذلك من أجل القدح فى الدين؛ والاستهزاء بتعاليمه، وبنبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم بين - سبحانه - ما كان بحب عليهم أن يقولوه لو كانوا يعقلون فقال: تعالى - { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ }.
أى: ولو أنهم قالوا عند سماعهم لما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من حق وخير، { سَمِعْنَا } قولك سماع قبول وإستجابة، وأطعنا أمرك بدل قولهم سمعنا وعصينا.
ولو أنهم قالوا عند مخاطبتهم له صلى الله عليه وسلم { وَٱسْمَعْ } إجابتنا لدعوه الحق { وَٱنْظُرْنَا } حتى نفهم عنك ما تريده منا بدل قولهم { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } لو أنهم فعلوا ذلك لكان قولهم هذا خيراً لهم وأعدل من اقوالهم السابقة الباطلة التى حكاها القرآن عنهم.
ولكنهم لسوء طباعهم لم يفعلوا ذلك فحقت عليهم اللعنة فى الدنيا والآخرة وقد صرح القرآن بذلك فقال: { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }. أى: ولكنهم لم يقولوا ما هو خير لهم وأقوم بل قالوا ما هو شر وباطل، فاستحقوا اللعنة من الله بسبب كفرهم وسوء أفعالهم:
ولفظ { قَلِيلاً } فى قوله { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } منصوب على الاستثناء من قوله { لَّعَنَهُمُ } أى: ولكن لعنهم الله إلا فريقا منهم آمنوا فلم يعلنوا: أو منصوب على الوصفية لمصدر محذوف أى: ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا أى ضعيفا ركيكا لا يعبأ به، ولا يغنى عنهم من عذاب الله شيئا؛ لأنه إيمان غير صحيح بسبب تفريقهم بين رسل الله فى التصديق والطاعة.
قال - تعالى -{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }. ثم وجه - سبحانه - نداء إلى اليهود أمرهم فيه باتباع طريق الحق، وأنذرهم بسوء المصير إذا لم يستمعوا إلى هذا النداء فقال - تعالى -: { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال:
"كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود. منهم عبدالله بن صوريا، وكعب بن أسد فقال لهم: يا معشر يهود: اتقوا الله وأسلموا. فوالله إنكم لتعلمون أن الذى جئتكم به الحق. فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر. فأنزل الله فيهم: { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ }" الآية.
وفى ندائهم بقولهم { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ } تحريض لهم على الإِيمان، لأن اعطاءهم علم الكتاب من شأنه أن يحملهم على المسارعة إلى تلبية دعوة النبى صلى الله عليه وسلم وألا تأخذهم العصبية الدينية كما أخذت أهل مكة العصبية الجاهلية، ولأن هذا الإِيمان الذى يدعون إليه هو التصديق بما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن، إذ هو يطابق - فى جوهره - ما أنزله سبحانه - على الأنبياء السابقين الذين يزعم أهل الكتاب أنهم يؤمنون بهم. إذاً فوحدة المنزل توجب عليهم أن يؤمنوا بجميع ما أنزله الله.
ووصفهم هنا بأنهم أوتوا الكتاب، مع أنه وصفهم قبل ذلك بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، لأن وصفهم هنا بذلك المقصود منه حضهم على الإِيمان وترغيبهم فيه؛ واثارة هممهم للانقياد لتعاليم كتابهم الذى بشرهم بمبعث النبى صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالإِيمان به. أما وصفهم فيما سبق بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب فالمقصود منه التعجيب من أحوالهم، والتهوين من شأنهم.
والمعنى: يا معشر اليهود الذين آتاهم الله التوراة لتكون هداية لهم، آمنوا ايمانا حقا { بِمَا نَزَّلْنَا } من قرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فإن هذا القرآن قد نزل { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } وموافقا للتوراة التى بين أيديكم فى الدعوة إلى وحدانيه الله - تعالى - وإلى مكارم الأخلاق، وفى النهى عن الفواحش والمعاصى، ومؤيدا لها فيما ذكرته من صفات تتعلق بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن آيات تدعو إلى تصديقه والإِيمان به.
وعبر عن القرآن بقوله: { بِمَا نَزَّلْنَا }؛ لأن فى هذا التعبير تذكير بعظم شأن القرآن وأنه منزل بأمر الله وحفظه.
وعبر عن التوراة بقوله { لِّمَا مَعَكُمْ } لأن فى هذا التعبير تسجيلا عليهم بأن التوراة كتاب مستصحب عندهم وقريب من أيديهم، وشهادته بصدق النبى صلى الله عليه وسلم ظاهرة جلية، فإذا ما تركوا شهادته مع وضوحها ومع استصحابهم له كان مثلهم
{ { كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } }. ثم أنذرهم - سبحانه - بعد ذلك بسوء العاقبة إذا ما أعرضوا عن الإِيمان بدعوة الإِسلام فقال - تعالى - { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }.
والطمس إزالة الأثر بالمحو. قال الله - تعالى -
{ { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } أى: زالت ومحيت. ويقال: طمست الريح الأثر إذا محته وأزلته. وللمفسرين فى المراد من معنى الطمس هنا اتجاهان:
أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه حمل اللفظ على حقيقته بمعنى إزالة ما فى الوجه من أعضاء ومحو أثرها.
فيكون المعنى: { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } أى نمحو تخطيط صورها من عين وأنف وفم وحاجب { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ } أى فنجعلها على هيئة أدبارها وهى الأقفاء بحيث تكون الوجوه مطموسة مثل الأقفاء. وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة وغيرهما.
قال الإِمام الرازى: وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه فى الخلقة والمثلة والفضيحة؛ لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة....".
ومن المفسرين الذين رجحوا حمل اللفظ على حقيقته الإِمام ابن جرير لقد قال: "وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب" قول من قال: معنى قوله { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } من قبل أن نطمس أبصارها، ونمحو آثارها، فنسويها كالأقفاء. فنردها على أدبارها، فنجعل أبصارها فى أدبارها، يعنى بذلك: فنجعل الوجوه فى أدبار الوجوه. فيكون معناه: فنحول الوجوه أقفاء، والأقفاء، وجوها، فيمشوا القهقرى، كما قال ابن عباس ومن قال بذلك".
وأصحاب هذا الاتجاه منهم من يرى أن هذه العقوبة تكون فى آخر الزمان ومنهم من يرى هذه العقوبة تكون فى الآخرة. ومنهم من قال بأن هذه العقوبة مقيدة بعدم إيمان أحد منهم، وقد آمن بعضهم كعبد الله بن سلام وغيره.
وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه حمل اللفظ على مجازه، بمعنى أن المراد بالطمس الطمس المعنوى.
فيكون المعنى: آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن تقسوا قلوبكم، ونطبع عليها بسبب تمسكها بالضلال، وتماديها فى العناد.
قال ابن كثير مؤيدا هذا الاتجاه: هذا مثل ضربه الله لهم فى صرفهم عن الحق وردهم، إلى الباطل، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلال يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم. وهذا كما قال بعضهم فى قوله - تعالى -
{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاًً } أى هذا مثل سوء ضربه الله لهم فى ضلالهم ومنعهم عن الهدى.
قال مجاهد: من قبل أن نطمس وجوها أى عن صراط الحق: فنردها على أدبارها أى فى الضلال. وقال السدى: معناه: فنعميها عن الحق ونرجعها كفارا...".
وقال الفخرى الرازى - بعد أن بين معنى الآية على القول الأول -: أما القول الثانى: فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ثم ذكروا فيه وجوها.
الأول: قال الحسن: نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها أى على ضلالتها والمقصود بيان إلقائها فى أنواع الخذلان وظلمات الضلالات.
الثاني: يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير. وبالوجوه: رؤساؤهم ووجهاؤهم.
والمعنى: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الإِقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والإِدبار والمذلة.
الثالث: قال عبد الرحمن بن زيد: هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى. وتأول ذلك فى إجلاء قريظة والنضير إلى الشام، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام.. فيكون المراد بطمس الوجوه على هذا الرأى: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها".
وقد مال الفخرى الرازى إلى القول الثانى ووصفه بأنه لا إشكال معه البتة...".
وقال بعض العلماء: إن الذى يبدو لنا من ظاهر النص وهو قوله - تعالى - { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ }: أنه يراد به سحقهم فى القتال، وحملهم على أن يولوا الأدبار، فتكون وجوههم غير بادية بصورها، بعد أن كانوا مقبلين بها، فأزالها السيف والخوف، وجعل صورتها مختفية، وأقفيتهم هى البادية الواضحة، فكأن صورة الوجوه قد زالت وحلت محلها صورة الأدبار.
وعلى ذلك يكون المعنى: إنكم استرسلتم فى غيكم وضلالكم. ومع ذلك نطالبكم بالهداية والإِيمان قبل أن ينزل بكم غضب الله - تعالى - فى الدنيا وذلك بتسليط المؤمنين بالحق عليكم، فيذيقون بأس القتال فتفرون، وتختفى وجوهكم...".
هذه بعض الوجوه التى قالها من يرى أن المراد بالطمس الطمس المعنوى وأن اللفظ محمول على المجاز، ولعل هذا الاتجاه أقرب إلى الصواب لسلامته من الاعتراضات والإِشكالات التى أوردها بعض المفسرين - كالرازى والآلوسى - عند تفسيرهما للآية الكريمة.
وقوله { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ } بيان لعقوبة أخرى سوى العقوبة السابقة. واللعن: هو الطرد من رحمة الله - تعالى -.
فالآية دعوة لليهود إلى الإِيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من قبل أن يطبع الله - تعالى - على قلوبهم ويذهب بنورها فلا تتجه إلى الحق ولا تميل إليه. أو من قبل أن يلعنهم ويطردهم من رحمته ويجعلهم عبرة للمعتبرين.
وأصحاب السبت هم قوم من اليهود حرم الله عليهم الصيد فى يوم السبت، فتحايلوا على استحلال ما حرمه الله بحيل قبيحة، فأنزل الله عليهم عذابه، ومسخهم قردة...
وقد ذكر الله قصتهم بشئ من التفصيل فى سورة الأعراف.
وكلمة "أو" فى الآية الكريمة لمنع الخلو. فجوز أن يعاقب الله طائفة منهم بعقوبة من هاتين العقوبتين، ويعاقب طائفة أخرى منهم بالعقوبة الثانية إن هم استمروا فى ضلالهم وطغيانهم.
والضمير المنصوب فى قوله "نلعنهم" يعود لأصحاب الوجوه. أو للذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات.
وقوله { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } أى كان وما زال جميع ما أمر الله به وقضاه ونافذا لا محالة؛ لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء:
والجملة الكريمة تذييل قصد به تهديد هؤلاء الضالين المعاندين حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويدخلوا فى صفوف المؤمنين.
وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ }. استئناف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد، ولتأكيد وجوب امتثال الأمر بالإِيمان، لأنه لا مغفرة إذا انتفى الإِيمان.
والمراد بالشرك هنا: مطلق الكفر؛ فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا.
والمعنى: إن الله لا يغفر لكافر مات على كفره، ويغفر ما دون الكفر من الذنوب والمعاصى لمن يشاء أن يغفر له إذا مات من غير توبة. فمن مات من المسلمين بدون توبة من الذنوب التى اقترفها فأمره مفوض إلى الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة.
وقوله { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً } استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك، وزيادة فى تشنيع حال المشرك.
أى. ومن يشرك بالله فى عبادته غيره من خلقه، فقد ارتكب من الآثام ما لا تتعلق به المغفرة، لأنه بهذا الإِشراك قد افترى الكذب العظيم على الله، واقترف الإِفك المبين، فعل أعظم ذنب فى الوجود:
قال القرطبى: قوله - تعالى -: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } روى
"أن النبى صلى الله عليه وسلم تلا { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } فقال له رجل: يا رسول الله والشرك!! فنزل: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ }" . الآية. وهذا من المحكم المتفق عليه الذى لا اختلاف فيه بين الأمة.
وقوله { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } من المتشابه الذى قد تكلم العلماء فيه.
فقال ابن جرير الطبرى: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة فهو فى مشيئة الله إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله - تعالى -".
وقد أورد ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ثلاثة عشر حديثا تتعلق بها.
ومن هذه الأحاديث ما رواه الحافظ أبو يعلى فى مسنده عن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع فى الحجاب قيل يا نبى الله وما الحجاب؟ قال: الإِشراك بالله. ثم قرأ: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ }" . الآية.
وروى ابن أبى حاتم وابن جرير عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم لا نشك فى قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } وفى رواية لابن أبى حاتم: فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله - تعالى -".
وقال الآلوسى: ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة - الذين يسوون بين الإِشراك بالله وبين ارتكاب الكبيرة بدون توبة - يرد بها أيضا - على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه مخلد فى النار. وذكر الجلال أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين: إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون.
وأخرج ابن الضريس وابن عدى بسند صحيح عن ابن عمر قال:
"كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم قوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } وقال: إنى ادخرت دعوتى وشفاعتى لأهل الكبائر من أمتى فأمسكنا عن كثير مما كان فى أنفسنا ثم نطقنا ورجونا" . وقد استبشر الصحابة بهذه الآية حتى قال على بن أبى طالب: أحب آية إلى فى القرآن { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ }.
ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من قبائح اليهود فقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً }.
روى المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين
"أن رجالا من اليهود أتوا النبى صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم. ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار" .
ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم قالوا { { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } }. وحكى عنهم أنهم كانوا { { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } }. وحكى عنهم وعن النصارى أنهم قالوا: { { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } }. والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ } للتعجب من أحوالهم، والتهوين من شأنهم حيث بالغوا فى مدح أنفسهم مع أنهم كاذبون فى ذلك.
وقوله { يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } من التزكية بمعنى التطهير والتنزيه عن القبيح. والمراد بهذا التعبير هنا: أنهم يصفون أنفسهم بالأفعال الحسنة، ويمدحونها مدحا كثيرا، مع أنهم لا يستحقون إلا الذم بسبب سوء أقوالهم وأفعالهم.
والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد إلى حال هؤلاء اليهود الذين يمدحون أنفسهم ويثنون عليها مختالين متفاخرين مع ما هم عليه من الكفر وسوء الأخلاق؟ إن كنت لم تعلم أحوالهم أو لم تنظر إليهم فها نحن نكشف لك عن خباياهم لتتعجب من سوء أعمالهم وليتعجب منهم كل عاقل.
وقوله { بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } إبطال لمعتقدهم بإثبات ضده، وهو أن التزكية شهادة من الله ولا ينفع أحدا أن يزكى نفسه، وإعلام منه - سبحانه - بأن تزكيته هى التى يعتد بها لا تزكية غيره، فإنه هو العالم بما ينطوى عليه الإِنسان من حسن وقبح، وخير وشر.
وقوله { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } بيان لكمال عدله - سبحانه - وأنه لا يظلم أحدا من خلقه لا قليلا ولا كثيرا.
والفتيل: هو الخيط الذى يكون فى شق النواة. وكثيرا ما يضرب به المثل فى القلة والحقارة. أى أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم بغير حق يعاقبون على هذا الكذب بما يستحقون من عقاب عادل لا ظلم معه؛ لأنه - سبحانه - لا يظلم أحدا من عباده شيئا بل يجازى كل إنسان بما هو أهل له من خير أو شر.
ثم أكد - سبحانه - التعجب من أحوالهم فقال: { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ... }.
أى: انظر أيها العاقل كيف يفترى هؤلاء اليهود على الله الكذب فى تزكيتهم لأنفسهم مع كفرهم وعنادهم وارتكابهم الأفعال القبيحة التى تجعلهم أهلا لكل مذمة وسوء عاقبة.
وقد جعل - سبحانه - افتراءهم الكذب لشدة تحقق وقوعه، كأنه أمر مرئى يراه الناس بأعينهم، ويشاهدونه بأبصارهم.
وقوله { وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } أى: وكفى بافترائهم الكذب على الله إثما ظاهرا بينا يستحقون يسيبه أشد العقوبات، وأغلظ الإِهانات.
قال القرطى ما ملخصه: قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } يقتضى الغض من المزكى لنفسه بلسانه، والإِعلان بأن الزاكى المزكى من حسنت أفعاله، وزكاه الله - تعالى -، فلا عبرة بتزكية الإِنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له.
وأما تزكية الغير ومدحه له ففى البخارى من حديث أبى بكرة أن رجلا ذكر عند النبى صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا فقال النبى صلى الله عليه وسلم:
"ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مراراً - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسبه الله ولا يزكى على الله أحداً" . فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط فى مدح الرجل بما ليس فيه.. فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "ويحك قطعت عنق صاحبك" .
ومدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له فى أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به فى أشباهه ليس مدحا مذموماً.
وقد مدح النبى صلى الله عليه وسلم فى الشعر والخطب والمخاطبة. ومدح صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال:
"إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع" .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك لونا آخر من رذائلهم وقبائحهم التى تدعو إلى مزيد من التعجيب من أحوالهم. والتحقير من شأنهم فقال - تعالى -: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً }.
روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها: ما جاء عن ابن عباس أن حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف خرجا إلى مكة فى جمع من اليهود ليخالفوا قريشا على حرب النبى صلى الله عليه وسلم. فنزل كعب على أبى سفيان فأحسن مثواه. ونزلت اليهود فى دور قريش. فقال أهل مكة لليهود: إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم. فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما ففعلوا. ثم قال كعب: يا أهل مكة ليجئ منا ثلاثون ومنكم ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت على قتال محمد صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك. فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا على دينكم.
فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكرماء، ونسقيهم اللبن، ونقرى الضيف، ونفك العانى، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد صلى الله عليه وسلم فارق دين أبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث.
فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية.
والجبت فى الأصل: اسم صنم ثم استعمل فى كل معبود سوى الله - تعالى -.
والطاغوت: يطلق على كل باطل وعلى كل ما عبد من دون الله، أو كل من دعا إلى ضلالة. أى: يصدقون بأنهما آلهة ويشركونهما فى العبادة مع الله - تعالى -. أو يطيعونهما فى الباطل.
قال ابن جرير: والصواب من القول فى تأويل { يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّاغُوتِ } أن يقال: يصدقون بمعبودين من دون الله، ويتخذونها إلهين، وذلك أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان".
وقوله { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } بيان لما نطقوا به من زور وبهتان. أى: ويقولون ارضاء للذين كفروا وهم مشركو مكة. هؤلاء فى شركهم وعبادتهم للجبت والطاغوت، { أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } أى أقوم طريقا، وأحسن دينا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
واللام فى قوله { لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } لام العلة. أى: يقولون لأجل الذين كفروا..
والإِشارة بقوله { هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ } إلى الذين كفروا.
وإيراد النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعنوان الإِيمان، ليس من قبل القائلين، بل من جهة الله تعالى، تعريفا لهم بالوصف الجميل، وتحقيرا لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح الصفات.
ثم بين - سبحانه - مصيرهم السئ بسبب انحرافهم عن الحق فقال - تعالى - { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ }.
أى: أولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان، فأيدوا المشركين بالقول والعمل وسجدوا لأصنامهم، وزكوا أفعالهم... أولئك الذين هذه صفاتهم { لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } أى: أبعدهم عن رحمته وطردهم وأخزاهم بسبب كذبهم فى حقدهم وإيثارهم عبادة الشيطان على طاعة الرحمن.
{ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } أى ومن يلعنه الله ويبعده عن رحمته فلن تجد له ناصرا ينصره، أو شفيعا يشفع له.
واسم الإِشارة { أُوْلَـٰئِكَ } مبتدأ. والموصول وصلته خبر. والجملة مستأنفة لبيان حالهم. وإظهار سوء مآلهم.
والإِتيان باسم الإِشارة هنا فى نهاية البلاغة، لأن من بلغ وصف حاله هذا المبلغ صار جديراً بأن يشار إليه بكل ازدراء واحتقار.
وفى قوله { وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } بيان لحرمانهم ثمرة استنصارهم بمشركى قريش، وإيماء إلى وعد المؤمنين بأنهم المنصورون، لأنهم هم المقربون عند الله، ومن يقربه الله فلن تجد له خاذلا.
هذا، وتحالف أولئك اليهود مع المشركين، وتفضيلهم إياهم على المؤمنين - كما حكته الآية الكريمة - قد شهد بقبحه واحد من اليهود هو الدكتور إسرائيل ولفنسون. فقد قال فى كتابه "تاريخ اليهود فى جزيرة العرب" معلقا على هذه القصة:
وكان من واجب هؤلاء اليهود ألا يتورطوا فى هذا الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإِسلامى ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم، لأن بنى إسرائيل الذين كانوا لمدة قرون حاملى راية التوحيد فى العالم بين الأمم الوثنية باسم الأباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد فى عصور شتى من الأدوار التاريخية... كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز عليهم فى سبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الأوثان، إنما كانوا يحاربون أنفسهم، ويناقضون تعاليم التوراة التى توصيهم بالنفور من عبدة الأصنام، والوقوف منهم موقف الخصومة.
ثم انتقل - سبحانه - من توبيخهم على تزكيتهم لأنفسهم بالباطل وعلى تفضيلهم عبادة الأوثان على عبادة الرحمن. إلى توبيخهم على البخل والأثرة فقال - تعالى -: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً }.
و { أَمْ } هنا منقطعة بمعنى بل فهى للاضراب والانتقال، والهمزة للاستفهام الإِنكارى أى: لإِنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، وإبطال زعمهم من أن الملك يعود إليهم فى آخر الزمان. والفاء فى قوله { فَإِذاً } للسببية الجزائية لشرط محذوف.
والنقير: النكتة التى تكون فى ظهر النواة ويضرب به المثل فى القلة والحقارة.
والمعنى: إن هؤلاء اليهود ليس لهم نصيب من الملك ألبتة. لأنهم لا يستحقونه، ولأنهم لو أتوا نصيبا منه على سبيل الفرض فإنهم لشدة حرصهم وبخلهم وأثرتهم لا يعطون أحدا غيرهم منه أقل القليل. وقد كنى عن أقل القليل هذا بالنقير.
فأنت ترى أن الآية الكريمة ترد على ما يزعمه اليهود من أن الملك لهم، وأنهم لا يليق بهم أن يتبعوا غيرهم، وتصفهم بأنهم أبخل الناس وأبعدهم عن العدل والقسط ومن كان هذه صفاته، فقد اقتضت حكمة الله أن يحرمه نعمة الملك والسلطان.
ثم انتقل - سبحانه - من تبكيتهم على البخل وغيره مما سبق إلى تقريعهم على رذيلة الحسد التى استولت عليهم فأضلتهم وجعلتهم يتألمون لما يصيب الناس من خير ويتمنون زواله فقال - تعالى: { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ }.
و { أَمْ } هنا منقطعة أيضا كسابقتها، والاستفهام المقدر بعدها لإِنكار الواقع وهو حسدهم لغيرهم.
والمراد من الناس: النبى صلى الله عليه وسلم أو هو والمؤمنون معه. وقيل المقصود من الناس: العرب عامة.
قال الفخر الرازى: والمراد من الناس - عند الأكثرين - أنه محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد؛ لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا فى الجمع العظيم أو المراد بهم: الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين؛ لأن لفظ الناس جمع فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد. وحسن لفظ إطلاق الناس عليهم لأنهم القائمون بالعبودية الحق لله - تعالى - فكأنهم كل الناس...".
والمراد بالفضل فى قوله { عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } النبوة والهدى والإِيمان.
والمعنى: إن هؤلاء اليهود ليسوا بخلاء فقط بل إن فيهم من الصفات ما هو أقبح من البخل وهو الحسد فقد حسدوا النبى صلى الله عليه وسلم لأن الله منحه النبوة وهو رجل عربى ليس منهم، وحدسوا أتباعه لأنهم آمنوا به وصدقوه والتفوا من حوله يؤازرونه ويفتدونه بأرواحهم وأموالهم.
وقوله { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } توبيخ لهم على حسدهم، وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم.
والمعنى: إنكم بحسدكم للنبى صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله، تكونون قد ظللتم وسرتم فى طريق الشيطان، لأنكم لو كنتم عقلاء لما فعلتم ذلك، إذ أنتم تعلمون علم اليقين أن الله - تعالى - قد أعطى { آلَ إِبْرَاهِيمَ } أى: قرابته القريبة من ذريته كإسماعيل - وهو جد العرب - وإسحاق ويعقوب وغيرهم.. أعطاهم { ٱلْكِتَابَ } أى: جنس الكتب السماوية فيشمل ذلك التوارة والإِنجيل والزبور وغيرها. وأعطاهم { وَٱلْحِكْمَةَ } أى العلم النافع مع العمل به. وأعطاهم { مُّلْكاً عَظِيماً } أى سلطانا واسعا وبسطه فى الأرض.
ومع ذلك فأنتم لم تحسدوا هؤلاء على ما أعطاهم الله من كتاب وحكمة وملك عظيم، فلماذا تحسدون محمدا صلى الله عليه وسلم على ما أتاه الله من فضله مع أنه من نسل إبراهيم - عليه السلام -؟.
فالجملة الكريمة توبيخ لهم على أنانيتهم وحسدهم، وإلزام لهم بما يعرفونه من واقع كتبهم، وكشف للناس عن أن أحقادهم مرجعها إلى انطماس بصيرتهم، وخبث نفوسهم.
ثم بين - سبحانه - عاقبة كل من المحسن والمسئ فقال: { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً }.
أى: فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن وصدق بما أعطاه الله لآل إبراهيم من كتاب وحكمه، ومنهم من كفر به وأعرض عنه وسعى فى صد الناس عنه. فالضمير فى { بِهِ } و { عَنْهُ } يعود إلى ما أوتى آل إبراهيم.
ويرى بعضهم أن الضمير يعود إلى إبراهيم - عليه السلام. فيكون المعنى:
فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومن أعرض عنه ولم يتبع تعاليمه.
وفى هذه الآية الكريمة تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم عما لقيه من اليهود من أذى.
فكأنه - سبحانه - يقول له: إن هؤلاء الحاسدين لك قد اختلفوا على من هم منهم، وأنت يا محمد لست منهم، فكيف تنتظر منهم أن يسالموك أو يتبعوك؟
وقوله { وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } بيان لما أعده - سبحانه - للكافرين من عذاب.
أى: وكفى بجهنم نارا مسعرة أى: موقدة إيقادا شديداً يعذبون بها على كفرهم وعنادهم وصدودهم عن الحق. يقال: سعر النار - كمنع - وسعرها وأسعرها أى: أوقدها.
وكفى فعل ماض. وقوله { بِجَهَنَّمَ } فاعله على زيادة الباء فيه. وقوله { سَعِيراً } تمييز أو حال.
وبهذا نرى أن هذه الآيات الكريمة من قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ } إلى قوله: { وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } قد وبخت اليهود على بيعهم دينهم بدنياهم، وتحريفهم الكلم عن مواضعه واستهزائهم بدعوة الحق، وتزكيتهم لأنفسهم بالباطل، وافترائهم على الله الكذب، وتفضيلهم عبادة الأوثان على عبادة الله، وعلى بخلهم وحسدهم للنبى صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله.
وقد توعدتهم على هذه الصفات الذميمة، والمسالك الخبيثة بأشد أنواع العذاب، وحذرت المؤمنين من شرورهم ومفاسدهم.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء عاقبة كل كافر، وحسن عاقبة كل مؤمن، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ....ظَلِيلاً }.