خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
٩٥
دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٩٦
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الآلوسى: قوله - تعالى - { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ }. شروع فى الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه، وليرغبوا عما يوجب خللا فيه. والمراد بالقاعدين: الذين أذن لهم فى القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم. وروى البخارى عن ابن عباس: هم القاعدون عن بدر وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل. وقال أبو حمزة: إنهم المتخلفون عن تبوك. وروى أن الآية نزلت فى كعب بن مالك من بنى سلمة ومرارة بن الربيع من بنى عمرو بن عوف. وهلال بن أمية من بنى واقف حين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم فى تلك الغزوة".
وقوله { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } جملة معترضة جئ بها لبيان أنهم غير مقصودين بعدم المساواة مع المجاهدين فى الأجر.
والضرر: مصد ضرِر مثل مرض. وهذه الزنة تجئ - غالبا - فى العاهات ونحوها، مثل عمى وحصر وعرج ورِمد.
والمراد بقوله { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } أى: غير أصحاب العلل والأمراض التى تحول بينهم وبين الجهاد فى سبيل الله من عمى أو عرج أو ضعف أو غير ذلك من الأعذار.
وقد روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } روايات منها ما أخرجه البخارى عن البراء قال: لما نزلت { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها جاء ابن أم مكتوب فشكا ضرارته. فأنزل الله: { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ }.
وقال القرطبى: روى الأئمة - واللفظ لأبى داود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى فما وجدت ثقل شئ أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سرى عنه فقال: "أكتب" فكتبت فى كتف - أى فى عظم عريض كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم - { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } .... الآية.
فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله السكينة فوقعت فخذه على فخذى. ووجدت من ثقلها فى المرة الثانية كما وجدت فى المرة الأولى ثم سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا زيد. فقرأت: { لا يستوى القاعدون من المؤمنين }. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } الاية كلها.
قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها. والذى نفسى بيده لكأنى أنظر إلى ملحقها عند صدع فى كتف.
والمعنى: لا يستوى عند الله - تعالى - الذين قعدوا عن الجهاد لإِعلاء كلمة الحق دون أن يكون عندهم من الأعذار ما يمنعهم من ذلك، لا يستوى هؤلاء مع الذين جاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. أما الذين قعدوا عن الجهاد لأعذار تمنعهم عن مباشرته، فإن نيتهم الصادقة سترفع منزلتهم عند الله - تعالى -، وستجعلهم فى مصاف المجاهدين بأموالهم وأنفسهم أو قريبين منهم.
ويشهد لذلك ما رواه البخارى وأبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو يسر إلى تبوك:
"إن بالمدينة أقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه. قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة قال: نعم حبسهم العذر" .
قال ابن كثير: وفى هذا المعنى قال الشاعر:

يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أوراحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر كمن راحا

وقوله: { لاَّ يَسْتَوِي } نفى لاستواء المجاهدين والقاعدين، والمقصود بهذا النفى التعريض بالمفضول لتفريطه وزهده فى الخير، وحض على الاقتداء بمن هو أفضل منه، إذ من المعروف أن القاعد عن الجهاد لا يساوى المجاهد فى الفضل والثواب. فتعين أن يكون المراد بهذا التعبير التعريض بالقاعدين ليتأسوا بالمجاهدين، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله:
فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان فما فائدة نفى الاستواء؟ قلت: معناه الإِذكار بما بينهما من التفاوت العظيم، والبون البعيد، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته. فيهتز للجهاد ويرغب فيه، وفى ارتفاع طبقته، ونحوه:
{ { هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } أريد به التحريك من الجهل إلى التعلم. ولينهض الشخص بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم.
وقوله { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من القاعدين.
وفائدة قوله: { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } الإِيذان من أول الأمر بأن قعودهم عن الجهاد لم يمنعهم عن الوصف بالإِيمان، لأن قعودهم عن الجهاد لم يكن عن نفاق أو عن ضعف فى دينهم، وإنما كان عن تراخ أو اشتغال ببعض الأمور الدنيوية.
قال الجمل وقوله: { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ }: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم { غَيْرُ } بالرفع: وقرأ الباقون بالنصب. وقرأ الأعمش بالجر.
فالرفع على وجهين:
أظهرهما أنه على البدل من { ٱلْقَاعِدُونَ }. وإنما كان هذا أظهر لأن الكلام نفى والبدل معه أرجح.
والثاني: أنه رفع على أنه صفة لقوله { ٱلْقَاعِدُونَ } لأنهم لما لم يكونوا أناساً بأعيانهم بل أريد بهم الجنس أشبهوا النكرة فوصفوا بها.
وأما النصب فعلى: الاستثناء من { ٱلْقَاعِدُونَ } وهو الأظهر، لأنه المحدث عنه. وأما الجر فعلى أنه صفة للمؤمنين.
وقوله: { فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } بيان لمزية المجاهدين على غيرهم.
والمراد بالقاعدين هنا - الذين قعدوا عن الجهاد لسبب مانع من مباشرته أى: فضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم من أجل إعزاز دينه، فضلهم درجة على القاعدين بأعذار، لأن المجاهدين قد عرضوا أنفسهم للمخاطر والأهوال، وبذلوا أرواحهم وأمولهم فى سبيل إعلاء كلمة الله.
والدرجة هنا مستعارة للعلو المعنوى أى أن المراد بها هو الفضل، ووفرة الأجر وزيادة الثواب. والتنوين فيها للتعظيم.
قال ابن جرير: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولى الضرر درجة واحدة، يعنى فضيلة واحدة. وذلك بفضل جهادهم بأنفسهم فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان".
وقوله { وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } جملة معترضة جئ بها تداركا لما عسى أن يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول.
أى: وكل واحد من فريقى المجاهدين والقاعدين من أهل الضرر وعده الله المثوبة الحسنى وهى الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم، وإنما التفاوت فى زيادة العمل المتقضى لمزيد الثواب.
وقوله { كُـلاًّ } مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإِفادة القصر تأكيدا للوعد وتنوينه عوض عن المضاف إليه. وقوله { ٱلْحُسْنَىٰ } مفعول ثان.
ثم بين - سبحانه - أنه قد فضل المجاهدين على القاعدين بغير عذر بدرجات عظيمة فقال { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً }.
أى: وفضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين دون أن يكون هناك عذر يمنعهم عن الجهاد، فضل الله المجاهدين على هؤلاء القاعدين بالأجر العظيم والثواب الجزيل، والمنزلة الرفيعة.
وقوله { أَجْراً عَظِيماً } منصوب على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع، لأن الأجر هو ذلك التفضيل. أو على نزع الخافض أى فضلهم بأجر عظيم. أو على أنه مفعول ثان بتضمين فضل معنى أعطى أى أعطاهم أجرا تفضلا منه.
ثم فصل - سبحانه - هذا الأجر العظيم فقال { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }.
أى فضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين عن الجهاد بغير عذر بالأجر العظيم؛ الذى يرفعهم عند الله - تعالى - درجات عالية ويقربهم من مقامات قدسه، ويغفر لهم ما فرط منهم، ويتغمدهم بسابغ رحمته وكان الله كثير الغفران لأوليائه واسع الرحمة بأهل طاعته.
وقوله { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ } بدل أو عطف بيان من قوله { أَجْراً عَظِيماً }. وقوله { مِّنْهُ } جار ومجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات.
ونكرت الدرجات للإِشعار بأنها درجات عظيمة لا يحدها الحصر، ولا يعينها المقدار، بل هى شرف عظيم لا يناله إلا المقربون الأبرار.
هذا، وما جرينا عليه من أن المجاهدين يمتازون عن القاعدين بعذر بدرجة، ويمتازون عن القاعدين بغير عذر بدرجات هو رأى كثير من المفسرين، وقد عبر عنه صاحب الكشاف بقوله: فإن قلت: قد ذكر الله - تعالى - مفضلين درجة ومفضلين درجات فمن هم؟ قلت: أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء. وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم فى التخلف اكتفاء بغيرهم، لأن الغزو فرض كفاية.
ومن المفسرين من يرى أن الذين فضل الله عليهم المجاهدين بدرجة وبدرجات هم صنف واحد، وهم الذين قعدوا عن الجهاد بدون عذر. أما الذين قعدوا بعذر فهم متساوون فى الأجر مع المجاهدين.
وعلى هذا الرأى سار الآلوسى فى تفسيره فقد قال ما ملخصه: { فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ } فى سبيله { بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ } من المؤمنين غير أولى الضرر { دَرَجَةً } لا يقادر قدرها. { وَكُـلاًّ } أى: كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ }. وقوله { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ } عطف على ما قبله { أَجْراً عَظِيماً }.
ثم قال: ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة. وتقييده تارة بدرجة وتارة بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه. إما لتنزيل الاختلاف العنوانى بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتى تمهيداً لسلوك طريق الإِبهام ثم التفسير... وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين والدرجة والدرجات.
وقد حكى الإِمام القرطبى هذين الوجهين فقال: قوله - تعالى - { فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } وقد قال بعد هذا: { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد.
وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر بدرجة واحدة. وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات.
والذى نراه أولى من هذين القولين قول من قال بأن الله - تعالى - فضل المجاهدين على القاعدين بعذر بدرجة، وفضل المجاهدين على القاعدين بغير عذر بدرجات، وذلك لأن هذا التفسير هو المأثور عن ابن عباس وغيره من الصحابة. فقد قال ابن عباس فى قوله - تعالى - { فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } أراد بالقاعدين هنا أولى الضرر ولأن القاعدين بعذر وإن كانوا لهم من حسن النية ما يرفع منزلتهم إلا أن المجاهدين الذين باشروا الجهاد وعرضوا أنفسهم لأخطار القتال يفوقونهم منزلة وأجراً.
وهذا ما يقتضيه منطق العقول البشرية، أما عطاء الله بعد ذلك لكل فريق فمرجعه إليه وحده على حسب ما تقتضيه حكمته وسعة رحمته.
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أن الجهاد من أفضل الأعمال وأن المجاهدين لهم عند الله - تعالى - منازل عالية. ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيله. بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة ومنه تتفجر أنهار الجنة" .
وبعد أن رفع - سبحانه - من شأن المجاهدين، وبين حال القاعدين عن الجهاد بعذر أو بغير عذر، أتبع ذلك ببيان حال القاعدين فى دار الكفر بدون هجرة إلى دار الإِسلام، ووعد المهاجرين فى سبيل الله بحسن العاقبة فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ...غَفُوراً رَّحِيماً }.