خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ
١٣
فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ
١٤
رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ ذُو ٱلْعَرْشِ يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ
١٥
يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ
١٦
ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
١٧
وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ
١٨
يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ
١٩
وَٱللَّهُ يَقْضِي بِٱلْحَقِّ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ
٢٠
أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي ٱلأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ
٢١
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢٢
-غافر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمقصود بآياته - عز وجل - فى قوله: { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ... } الدلائل الدالة على وحدانيته وقدرته، كخلقه للشمس والقمر والليل والنهار، والبحار والأنهار، والسماء والأرض، والمطر والرعد، والنجوم والرياح، والأشجار الكبيرة والصغيرة.. إلى غير ذلك من آياته التى لا تحصى فى هذا الوجود..
أى: هو - سبحانه - الذى يريكم آياته الدالة على وحدانيته وقدرته، لتزدادوا - أيها المؤمنون - إيمانا على إيمانكم، وثباتا على ثباتكم، ويقينا على يقينكم، بأن المستحق للعبادة والطاعة هو الله الواحد القهار.
وقد ساق - سبحانه - فى كتابه عشرات الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } وقوله عز وجل: { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ.. } وقوله - تعالى -: { إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } والمراد بالرزق فى قوله: { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً }.. الأمطار التى تنزل من السماء على الأرض، فتحييها بعد موتها، بأن تحولها من أرض جدباء يابسة، إلى أرض خضراء بشتى الزروع والثمار.
وأطلق - سبحانه - على المطر رزقا. لأنه سبب فيه، وأفرده بالذكر مع كونه من جملة الآيات التى يريها - تعالى - لعباده لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته، وجلائل نعمه، الموجبة لشكره - عز وجل -، ولوجوب إخلاص العبادة له.
وقوله - تعالى -: { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } بيان لمن هو أهل للانتفاع بهذه الآيات.
أى: وما يتذكر وينتفع بهذه الآيات إلا من يرجع عن المعصية إلى الطاعة وعن الكفر إلى الإِيمان، وعن العناد والجحود، إلى التفكر والتدبر بقلب سليم.
فقوله { يُنِيبُ } من الإِنابة، ومعناها الرجوع عن الكفر والمعاصى: إلى الإِيمان والطاعة.
والفاء فى قوله - تعالى -: { فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ... } للإِفصاح عن شرط مقدر. أى: إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن كل شئ فى هذا الوجود يدل على وحدانية الله - تعالى - فأخلصوا له العبادة والطاعة { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } منكم ذلك - أيها المؤمنون - فلا تلتفتوا إلى كراهيتهم، وامضوا فى طريق الحق، ودعوهم يموتوا بغيظهم..
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، وجوب إخلاص العبادة لله - تعالى - ووجوب الإِكثار من التضرع إليه بالدعاء.
ومن الأحاديث التى أوردها الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية، ما رواه الإِمام مسلم وأبو داود، والنسائى، وأحمد، عن أبى الزبير محمد بن مسلم المكى قال: كان عبد الله بن الزبير يقول فى دبر كل صلاة حين يسلم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة".
ثم يذكر - سبحانه - بعد ذلك من صفاته العظمى، ما يزيد المؤمنين فى إخلاص العبادة له، فيقول: { رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ ذُو ٱلْعَرْشِ.. } أى: هو - تعالى - وحده صاحب الرفعة والمقام العالى، وهو وحده صاحب العرش العظيم، الذى لا يعلم مقدار عظمته إلا هو..
قال الآلوسى قوله: { رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ } رفيع صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها من رُفِعَ الشئ إذا علا.. والدرجات: مصاعد الملائكة إلى أن يبلغوا العرش، أى: رفيع درجات ملائكته ومعارجهم إلى عرشه.. ويجوز أن يكون كناية عن رفعة شأنه وسلطانه - عز شأنه - كما أن قوله - تعالى -: { ذُو ٱلْعَرْشِ } كناية عن ملكه - جل جلاله -.
والمراد بالروح فى قوله - تعالى -: { يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ }: الوحى الذى يوحى به على أنبيائه، وأمين هذا الوحى جبريل - عليه السلام - .
أى: هو وحده - سبحانه - الذى يلقى الوحى. حالة كون هذا الوحى ناشئا من أمره وقضائه على من يختاره لهذا الإِلقاء من عباده الصالحين. فقوله { مِنْ أَمْرِهِ } متعلق بمحذوف حال من الروح.
وسمى الوحى روحا، لأن الأرواح تحيا به، كما أن الأجساد تحيا بالغذاء.
وقوله - تعالى -: { لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } بيان للوظيفة الخاصة بمن يختاره - سبحانه - من عباده لإِلقاء الوحى عليه.
والإِنذار: الإِعلام المقترن بالتخويف والتحذير، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً.
والمراد بيوم التلاق: يوم القيامة، وسمى بيوم التلاق لأنه يتلاقى فيه الأولون والآخرون والمؤمنون والكافرون، والظالمون والمظلومون.. الكل يتلاقى فى ساحة المحشر ليقضى الله - تعالى - فيهم بقضائه العادل.
أى: يلقى - سبحانه - بوحيه على أنبيائه، لينذروا الناس ويحذروهم من سوء العذاب يوم القيامة، إذا ما استمروا فى كفرهم وعصيانهم لخالقهم.
ثم صور - سبحانه - أحوال الناس فى هذا اليوم العصيب، فقال: { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ... }
وهذه الجملة الكريمة بدل من قوله { يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } أى: يلقى - سبحانه - على من يشاء من عباده، لكى ينذر الناس من أهوال ذلك اليوم الذى تلتقى فيه الخلائق، والذى يظهرون فيه ظهورا تاما، دون أن يخفى منهم شئ على الله - تعالى -.
والله - تعالى - لا يخفى عليه شئ من أمرهم لا فى هذا اليوم ولا فى غيره، ولكنه - سبحانه - ذكر بروزهم وعدم خفائهم عليه فى هذا اليوم، لأنهم - لجهلهم - كانوا يتوهمون فى الدنيا أنهم يستطيعون التستر عنه، كما أشار - سبحانه - إلى ذلك فى قوله - تعالى -
{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } ورحم الله صاحب الكشاف: فقد قال: قوله: { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } أى: ظاهرون لا يسترهم شئ من جبل أو أكمة أو بناء، لأن الأرض بارزة قاع صفصف، ولا عليهم ثياب، إنما هم عراة مكشوفون، كما جاء فى الحديث: "يحشرون عراة حفاة غرلا" { لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } أى: من أعمالهم وأحوالهم...
فإن قلت: قوله: { لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } بيان وتقرير لبروزهم، والله - تعالى - لا يخفى عليه منهم شئ برزوا أم لم يبرزوا، فما معناه؟
قلت: معناه أنهم كانوا يتوهمون فى الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب، أن الله لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه قال - تعالى -:
{ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ.. } وقوله - تعالى -: { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } السائل والمجيب هو الله - تعالى - .
أى: ينادى الله - تعالى - فى المخلوقات فى ذلك اليوم، لمن الملك فى هذا اليوم الهائل الشديد؟ ثم يجيب - سبحانه - على هذا السؤال بقوله: { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ }.
قال القرطبى ما ملخصه: قال الحسن: هو السائل - تعالى - وهو المجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه سبحانه فيقول: { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ }.
وعن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة، لم يعص الله - جل وعلا - عليها، فيأمر مناديا ينادى { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم: { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ }.
فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا، ويقوله الكافرون غما وانقيادا وخضوعا.
ثم قال: والقول الأول ظاهر جدا، لأن المقصود إظهار انفراده - تعالى - بالملك عند انقطاع دعاوى المدعين، وانتساب المنتسبين، إذ قد ذهب كل ملك وملكه.
وبعد أن قرر - سبحانه - أن الملك فى هذا اليوم له وحده. أتبع ذلك ببيان ما يحدث فى هذا اليوم فقال: { ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ... }.
أى: فى هذا اليوم الهائل الشديد تجازى كل نفس من النفوس المؤمنة والكافرة، والبارة والفاجرة. بما كسبت فى دنياها من خير أو شر، ومن طاعة أو معصية.
{ لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ } ولا جور ولا محاباة ولا وساطات.. وإنما تعطى كل نفس ما تستحقه من ثواب أو عقاب.
{ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } لأنه - سبحانه - لا يحتاج إلى تفكير عند محاسبته لخلقه، بل هو - سبحانه - قد أحاط بكل شئ علما، كما قال - تعالى -:
{ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ثم يوجه الله - تعالى أمره إلى النبى صلى الله عليه وسلم بأن يحذر كفار قريش من أهوال هذا اليوم فيقول: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ.. }.
والآزفة: القيامة. وأصل معنى الأزفة: القريبة، وسميت القيامة بذلك لقربها، يقال: أزف - بزنة فرح - يوم الرحيل: إذا دنا وقرب.
والحناجر: جمع حنجرة وهى الحلقوم.
وكاظمين: حال من أصحاب القلوب على المعنى. فإن ذكر القلوب يدل على ذكر أصحابها.
وأصل الكظم: الحبس والإِمساك للشئ. يقال: كظم القربة إذا ملأها بالماء، وسد فاها، حتى لا يخرج منها شئ من الماء.
والمعنى: وأنذر - أيها الرسول الكريم - الناس، وحذرهم من أهوال يوم عظيم قريب الوقوع، هذا اليوم تكون قلوبهم فيه مرتفعة عن مواضعها من صدورهم. ومتشبثة بحناجرهم، ويكونون كاظمين عليها وممسكين بها حتى لا تخرج مع أنفساهم. كما يمسك صاحب القربة فمها لكى لا يتسرب منها الماء.
فالآية الكريمة تصوير يديع لما يكون عليه الناس فى هذا اليوم من فزع شديد، وكرب عظيم. وخوف ليس بعده خوف.
والحديث عن قرب يوم القيامة قد جاء فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - :
{ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ.. } وقوله - سبحانه - { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } والظاهر أن قوله هنا { يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ } هو المفعول الثانى للإِنذار ليس ظرفا له. لأن الإِنذار والتخويف من أهوال يوم القيامة واقع فى دار الدنيا.
وقوله: { إِذِ ٱلْقُلُوب } بدل من يوم الآزفة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت "كاظمين" بم انتصب؟ قلت: هو حال من أصحاب القلوب على المعنى، لأن المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. ويجوز أن يكون حالا من القلوب، وأن القلوب، كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر.
وإنما جُمِع جَمْع السلامة، لأنه وصفها بالكظم الذى هو من أفعال العقلاء، كما قال - تعالى -:
{ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ... } وقوله - تعالى -: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } نفى لكون هؤلاء الظالمين يوجد فى هذا اليوم من ينفعهم أو يدافع عنهم.
والحميم: هو الإِنسان الذى يحبك ويشفق عليك ويهتم بأمرك، ومنه قيل لخاصة الرجل: حَامَّتهُ.
والشفيع: من الشفع، بمعنى الانضمام، يقال شفع فلان لفلان إذا انضم إليه ليدافع عنه.
أى: ليس للظالمين فى هذا اليوم قريب أو محب يعطف عليهم، ولا شفيع يطيعهم فى الشفاعة لهم، لأنهم فى هذا اليوم يكونون محل غضب الجميع ونقمتهم، بسبب ظلمهم وإصرارهم على كفرهم.
فالآية الكريمة نفت عنهم الصديق الذى يهتم بأمرهم، والشفيع الذى يشفع لهم، والإِنسان الذى تكون له أية كلمة تسمع فى شأنهم.
ثم أكد - سبحانه - شمول علمه لكل شئ فقال: { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ }.
والمراد بخائنة الأعين: النظرة الخائنة التى يتسلل بها المتسلل ليطلع على ما حرم الله الاطلاع عليه.
والجملة خبر لمبتدأ محذوف. والإِضافة فى قوله { خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ } على معنى من، وخائنة: نعت لمصدر محذوف.
أى: هو - سبحانه - يعلم النظرة الخائنة من الأعين، وهى التى يوجهها صاحبها فى تسلل وخفية إلى محارم الله - تعالى - كما يعلم - سبحانه - الأشياء التى يخفيها الناس فى صدورهم، وسيجازيهم على ذلك فى هذا اليوم بما يستحقون.
قال القرطبى:
"ولما جئ بعبد الله بن أبى سرح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما اطمأن أهل مكة، وطلب له الأمان عثمان بن عفان، صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، ثم قال: نعم.
فلما انصرف قال صلى الله عليه وسلم لمن حوله: ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه.
فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إليَّ يا رسول الله؟ فقال: إن النبي لا تكون له خائنة أعين"
.
ثم بين - سبحانه - أن القضاء الحق فى هذا اليوم مرده إليه وحده فقال: { وَٱللَّهُ يَقْضِي بِٱلْحَقِّ... }.
أى: والله - تعالى - يقضى بين عباده قضاء ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل.
{ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ.. } أى: والآلهة الذين يعبدهم الكفار من دون الله - تعالى - لا يقضون بشئ أصلا، لأنهم لا يعلمون شيئا، ولا يقدرون على شئ، وإذا فهم أعجز وأتفه من أن يلتفت إليهم.
{ إِنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لكل شئ { ٱلْبَصِيرُ } بكل شئ، لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء.
ثم وبخ - سبحانه - هؤلاء الظالمين على عدم اعتبارهم واتعاظهم بمن كان قبلهم فقال: { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي ٱلأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ }.
أى: أبلغت الجهالة والغفلة وانطماس البصيرة بهؤلاء المشركين من قومك - يا محمد - أنهم لم يعتبروا ولم يتعظوا بالظالمين السابقين الذين دمرناهم تدميرا.
إنهم يمرون عليهم مصبحين وبالليل، وإنهم ليشاهدون آثارهم ماثلة أمام أعينهم، يشاهدون آثار قوم صالح، ويشاهدون آثار غيرهم.
ولقد كان هؤلاء السابقون الظالمون، أشد من مشركى قريش فى القوة والبأس، وأشد منهم فى إقامة المبانى الفارهة، والحصون الحصينة..
فلما استمروا فى جحودهم وكفرهم، أخذهم الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر، بسبب ذنوبهم. وما كان لهم من دون الله - تعالى - من يدفع عنهم عذابه، أو يقيهم من بأسه.
{ ذَلِكَ } الأخذ من أسبابه { بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } أى: بالدلائل الواضحات على صدقهم فيما يبلغونهم عن ربهم.
{ فَكَفَرُواْ } أى: بالرسل وبما جاءوهم به { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ } أى: فأهلكهم - سبحانه - { إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أى: إنه - سبحانه - قوى لا يحول بين ما يريد أن يفعله حائل، شديد العقاب لمن كفر به، وأعرض عن دعوة رسله.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا أنواعا متعددة من مظاهر قدرة الله، ومن أهوال يوم القيامة، ومن علمه الشامل لكل شئ، ومن قضائه العادل ومن أخذه للظالمين أخذ عزيز مقتدر.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون. فذكرت جانبا من التهديدات التى وجهها فرعون إلى موسى وقومه، وكيف أن موسى - عليه السلام - رد عليه ردا قويا حكيما، فقال - تعالى - :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا... }