خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّـهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ
٥٦
لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٥٧
وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَلاَ ٱلْمُسِيۤءُ قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ
٥٨
إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَـةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
٥٩
وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
٦٠
-غافر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بالمجادلة فى قوله - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ... } المجادلة بالباطل بدون حجة أو دليل، أما المجادلة لإِحقاق الحق والكشف عنه.. فهى محمودة، لأنها تهدى إلى الخير والصلاح..
قال صاحب الكشاف: فأما الجدال فى آيات الله، لإيضاح ملتبسها، وحل مشكلها ومقادحة أهل العلم فى استنباط معانيها ورد أهل الزيغ عنها، فأعظم جهاد فى سبيل الله.
وجملة { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ } خبر إن، والكبر بمعنى التكبر والتعالى والتعاظم على الغير.
والمعنى: إن الذين يجادلون فى آيات الله - تعالى - الدالة على وحدانيته وصدق رسله، وليس عندهم دليل أو برهان على صحة دعواهم..
هؤلاء المجادلون بالباطل ما حملهم على ذلك إلا التكبر والتعاظم والتطلع إلى الرياسة وإلى أن تكون النبوة فيهم أو فيمن يميلون إليهم.. وهم جميعا لن يصلوا إلى شئ من ذلك، ولن يبلغوا ما تتوق إليه نفوسهم المريضة، لأن العطاء والمنع بيد الله - تعالى - وحده.
وصدق الله إذ يقول:
{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } فالآية الكريمة تبين أن على رأس الأسباب التى حملت هؤلاء المجادلين بالباطل على جدالهم. هو حبهم للتكبر والتعالى..
قال الآلوسى: قوله: { بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ.. }أى: بغير حجة فى ذلك أتتهم من جهته - تعالى - وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة إتيان الحجة، للإِيذان بأن المتكلم فى أمر الدين، لابد من استناده إلى حجة واضحة وبرهان مبين، وهذا عام فى كل مجادل مبطل..
وقوله: { مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ } صفة لقوله { كِبْرٌ } أى ما هم ببالغى موجب الكبر ومقتضيه، وهو متعلق إرادتهم من دفع الآيات أو من الرياسة أو النبوة..
وقوله - سبحانه -: { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّـهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } إرشاد منه - تعالى - إلى ما يقى من شرور هؤلاء المجادلين بالباطل.
أى: هذا هو حال المجادلين بالباطل وهذا هو الدافع إلى جدالهم، وما دام هذا هو حالهم، فالتجئ إلى الله - تعالى - أيها الرسول الكريم - لكى يحفظك من شرورهم وكيدهم، إنه - تعالى - هو السميع لكل شئ، البصير بما ظهر وخفى من شئون عباده.
ثم بين - سبحانه - للناس من طريق المشاهدة صغر حجمهم بالنسبة إلى بعض خلقه - تعالى - فيقول: { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }.
أى: لخلق السموات والأرض ابتداء وبدون مثال سابق، أكبر وأعظم من خلق الناس. ومما لا شك فيه أن من قدر على خلق الأعظم، فهو على خلق ما هو أقل منه أقدر وأقدر، ولكن أكثر الناس لاستيلاء الغفلة والهوى عليهم، لا يعلمون هذه الحقيقة الجلية.
وقوله - تعالى - { أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } إنما هو من باب تقريب الأشياء إلى الفهم. فمن المعروف بين الناس أن معالجة الشئ الكبير أشد من معالجة الشئ الصغير. وإن كان الأمر بالنسبة إلى الله - تعالى - لا تفاوت بين خلق الكبير وخلق الصغير، إذ كل شئ خاضع لإرادته كما قال - سبحانه -:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف اتصل قوله { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ... } بما قبله؟
قلت: إن مجادلتهم فى آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث. وهو أصل المجادلة ومدارها، فَحُجُّوا بخلق السموات والأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقهم، وبأنهما خلق عظيم لا يقادر قدره، وخلق الناس بالقياس إلى خلقهما شئ قليل، فمن قدر على خلقهما مع عظمهما. كان على خلق الإِنسان مع ضآلته أقدر..
وقوله - تعالى - { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَلاَ ٱلْمُسِيۤءُ... } نفى لعدم المساواة بين الأخيار والأشرار. والمتقين والفجار..
أى: كما أنه لا يصح فى عرف أى عاقل المساواة بين الأعمى والبصير. كذلك لا تصح المساواة بين المؤمنين الذين قدموا فى دنياهم العمل الصالح، وبين الكافرين والفاسقين الذين لطخوا حياتهم بالعمل السيئ، والفعل القبيح..
ولفظ "قليلا" فى قوله - تعالى - { قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } مفعول مطلق، وهو صفة لموصوف محذوف، و "ما" مزيدة للتأكيد. أى. تذكرا قليلا تتذكرون.
ثم أكد - سبحانه - مجئ الساعة فى الوقت الذى يختاره - تعالى - فقال: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَـةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } أى: لا ريب ولا شك فى مجيئها فى الوقت الذى يشاؤه - عز وجل - { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } بذلك لغفلتهم وقصور نظرهم، واستحواذ الشيطان عليهم..
ثم أمر - سبحانه - عباده المؤمنين أن يكثروا من التضرع إليه بالدعاء فقال: { وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ... }.
أى: وقال ربكم - أيها المؤمنون - تضرعوا إلى بالدعاء، وتقربوا إلى بالطاعات، أستجب لكم، ولا أخيب لكم رجاء.
ولا تنافى بين تفسير الدعاء هنا بالسؤال والتضرع إلى الله - تعالى -، وبين تفسيره بالعبادة، لأن الدعاء هو لون من العبادة، بل هو مخها كما جاء فى الحديث الشريف.
والإِنسان الذى التزم فى دعائه الآداب والشروط المطلوبة، كان دعاؤه جديرا بالإِجابة، فقد حكى لنا القرآن الكريم فى آيات كثيرة، أن الأنبياء والصالحين، عندما دعوا الله - تعالى - أجاب لهم دعاءهم، ومن ذلك قوله - تعالى -
{ وَنُوحاً إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الذين يتكبرون عن طاعة الله وعن دعائه فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أى: إن الذين يستكبرون عن طاعتى، وعن التقرب إلى بما يرضينى، سيدخلون يوم القيامة نار جهنم حالة كونهم أذلاء صاغرين.
فقوله: { دَاخِرِينَ } من الدخور بمعنى الانقياد والخضوع يقال: دخر فلان يدخر دخورا إذا ذل وهان.
هذا، وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث التى تتصل بموضوع الدعاء فارجع إليه إن شئت.
وبعد أن بين - سبحانه - مصير الذين يستكبرون عن عبادته، أتبع ذلك ببيان ألوان من النعم التى أنعم بها على عباده، كنعمة السماء والأرض، ونعمة خلق الإِنسان ورزقه من الطيبات، ونعمة الليل والنهار.. فقال - تعالى -:
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ... }.