خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢١
تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٢٢
ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
٢٣
أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ وَيُحِقُّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٢٤
-الشورى

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى: قوله - تعالى -: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ } أى: ألهم، والميم صلة الهمزة للتقريع.
وهذا متصل بقوله:
{ { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } وقوله - تعالى -: { { ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ } }. كانوا لا يؤمنون به، فهل لهم آلهة شرعوا لهم الشرك الذى لم يأذن به الله؟ وإذا استحال هذا فالله لم يشرع الشرك، فمن أين يدينون به.
فالآية الكريمة تنكر عليهم شركهم بأبلغ أسلوب، وتؤنبهم على جهالتهم حيث أشركوا بالله - تعالى -: دون أن يكون عندهم دليل أو ما يشبه الدليل على صحة ما وقعوا فيه من باطل.
والمراد بكلمة الفصل فى قوله - تعالى -: { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ما تفضل به - سبحانه - من تأخير العذاب الماحق عنهم.
أى: ولولا حكمنا بتأخير العذاب عنهم - فضلا منا وكرما - لقضى الأمر بين هؤلاء الكافرين وبين المؤمنين، بأن أهلكنا الكافرين واستأصلنا شأفتهم فى الدنيا، ولكن شاء ربك أن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة.
{ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فى الآخرة، بسبب إصرارهم على ظلمهم وموتهم على الكفر والشرك.
ثم صور - سبحانه - أحوالهم السيئة يوم القيامة تصويرا مؤثرا فقال: { تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ }.
أى: ترى - أيها العاقل - هؤلاء الظالمين يوم القيامة { مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ } أى خائفين خوفا شديدا، بسبب ما اكتسبوه فى الدنيا من سيئات على رأسها الكفر، وهذا الذعر الشديد لن ينفعهم، فإن العذاب واقع بهم لا محالة، سواء أخافوا أم لم يخافوا.
وقوله - تعالى -: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ.. } بيان للثواب العظيم الذى أعده الله - تعالى - لعباده المؤمنين.
والروضات: جمع روضة، وهو أشرف بقاع الجنة وأطيبها وأعلاها.
أى: هذا هو مصير الظالمين يوم القيامة، أما الذين آمنوا وعملوا فى دنياهم الأعمال الصالحات، فهم يوم القيامة يكونون فى أشرف بقاع الجنات وأطيبها وأسماها منزلة، حالة كونهم لهم ما يشاءون من خيرات عند ربهم.
{ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } أى: الذى أعطيناه للمؤمنين من خيرات، هو الفضل الكبير. الذى لا يعادله فضل، ولا يماثله كرم.
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى -: { ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }.
أى: ذلك الفضل الكبير، هو البشارة العظمى؛ والعطاء الجزيل، الذى يمنحه الله - تعالى - يوم القيامة لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
قال الآلوسى قوله: { ذَلِكَ } أى: الفضل الكبير، أو الثواب المفهوم من السياق، هو { ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أى: يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول، كما هو عادتهم فى التدريج فى الحذف ولا مانع من حذفهما دفعة. وجوز كون { ذَلِكَ } إشارة إلى التبشير المفهوم من "يبشر". أى: ذلك التبشير يبشره الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم - أن يؤكد لأولئك المشركين من قومه، أنه لا يسألهم أجرا على دعوته، وإنما يسألهم المودة والمعاملة الحسنة لقرابته منهم فقال: { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ }.
والضمير المجرور فى { عَلَيْهِ } يعود إلى التبليغ والتبشير والإِنذار الذى يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - معهم { ٱلْقُرْبَىٰ } مصدر كالقرابة والخطاب لكفار قريش.
وللعلماء فى تفسير هذه الآية أقوال: أولها: أن المراد بالقربى: الصلة والقرابة التى تربط بين الرسول وبين كفار قريش.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الكافرين إنى لا أسألكم على التبليغ أجرا، لكن أسألكم أن تودونى لقرابتى فيكم، فتكفوا عنى أذاكم، وتمنعوا عنى أذى غيركم، وتستجيبوا لدعوتى، فإن صلة القرابة والرحم التى بينى وبينكم توجب عليكم ذلك.
فالقربى هنا: بمعنى القرابة وصلة الرحم. و { فِي } للسببية بمعنى لام التعليل كما جاء فى الحديث الشريف:
"دخلت امرأة النار فى هرة" .
ولا شك أن منع أذاهم عنه - صلى الله عليه وسلم - بسبب قرابته فيهم ليس أجرا.
وثانيها: أن المراد بالقربى هنا: أقاربه وعشيرته وعترته فيكون المعنى لا أسألكم أجرا على دعوتى لكم إلى الخير والحق، ولكن أسألكم أن تحفظونى فى قرابتى وأهل بيتى، بأن تحسنوا إليهم ولا تؤذوهم بأى نوع من الأذى.
ولا شك - أيضا - أن إحسانهم إلى أقاربه، ليس أجرا منهم له على ذلك لأن الإِحسان إلى الناس، شئ قررته جميع الشرائع وتقتضيه مكارم الأخلاق.
وثالثها: أن المراد بالقربى هنا: التقرب إلى الله - تعالى - بالإِيمان والعمل الصالح.
أى: لا أسألكم على التبليغ أجرا، ولكن أسألكم أن تتقربوا إلى الله - تعالى - بما يرضيه بأن تتركوا الكفر والفسوق والعصيان، وتدخلوا فى الإِيمان والطاعة لله - تعالى -.
وهذا الذى طلبه منهم، ليس أجرا على التبليغ، لأن التقرب إلى الله بالطاعات فرض عليهم. وقد رجح العلماء القول الأول، واستدلوا على هذا الترجيح بأحاديث منها: ما رواه البخارى عن ابن عباس أن سئل عن معنى قوله - تعالى - { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ }، فقال سعيد بن جبير: "قربى آل محمد" فقال ابن عباس: عَجِلت. إن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: إلا أن تصلوا ما بينى وبينكم من القرابة.
وقال ابن كثير بعد أن ساق هذا الحديث وغيره، وبهذا الرأى قال مجاهد وعكرمة، وقتادة، والسدى، وأبو مالك، وعبد الرحمن بن زيد، وغيرهم.
وقال الإِمام ابن جرير - بعد أن ساق هذه الأقوال - وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب، وأشبهها بظاهر التنزيل، قول من قال معناه: لا أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش، إلا أن تودونى فى قرابتى منكم، وتصلوا الرحم التى بينى وبينكم.
وإنما قلت هذا التأويل أولى بتأويل الآية، لدخول { فِي } فى قوله: { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ }.
ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال إلا أن تودوا قرابتى، أو تتقربوا إلى الله، لم يكن لدخول { فِي } فى الكلام فى هذا الموضع وجه معروف ولكان التنزيل إلا مودة القربى، إن عنى به الأمر بمودة قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إلا المودة بالقربى إن عنى به الأمر بالتودد والتقرب إلى الله - تعالى -.
وفى دخول { فِي } فى الكلام أوضح الدليل على أن معناه إلا مودتى فى قرابتى منكم.
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال: { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ }.
وقوله { يَقْتَرِفْ } من القرف بفتح القاف وإسكان الراء. بمعنى الكسب، يقال: فلان يقرف لعياله، أى: يكسب لهم ما يكفيهم لأمور معاشهم.
ومن يكتسب حسنة يبغى بها التقرب إلى الله تعالى، نضاعف له - بفضلنا وإحساننا - ثوابها، إن الله تعالى واسع المغفرة لعباده. كثير الشكر للطائعين بأن يعطيهم من فضله أكثر مما يستحقون ويرجون.
ثم عادت السورة إلى توبيخ الكافرين على كذبهم وعنادهم، فقال تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }.
أى: بل أيقولون إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد افترى على الله - تعالى - كذبا فيما يدعونا إليه، وفيما يتلوه علينا من قرآن؟
ثم أجاب - سبحانه - عن افترائهم هذا بقوله: { فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ } أى: فإن يشأ الله - تعالى - يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفترى عليه الكذب، لأن افتراء الكذب على الله لا يكون إلا ممن طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، وأنت أيها الرسول الكريم مبرأ ومنزه عن ذلك.
فالمقصود من الجملة الكريمة تنزيه ساحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما قاله المشركون فى شأنه، وإثبات أن افتراء الكذب. إنما هو من شأنهم لا من شأنه - صلى الله عليه وسلم -.
قال صاحب الكشاف: قوله: { فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ } أى: فإن يشأ الله - تعالى - يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفترى عليه الكذب، فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان فى مثل حالهم.
وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله، وأنه فى البعد مثل الشرك بالله، والدخول فى جملة المختوم على قلوبهم ومثال هذا: أن يُخوَّن بعض الأمناء فيقول: لعل الله خذلنى، لعل الله أعمى قلبى، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب، وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم.
وقوله - سبحانه -: { وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ وَيُحِقُّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }: كلام مستأنف غير داخل فى جواب الشرط، لأنه - تعالى - يمحو الباطل مطلقا، وسقطت الواو من الفعل { يَمْحُ } لفظا لالتقاء الساكنين، وخطا حملا له على اللفظ، كما كتبوا
{ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } فهو مرفوع لا محزوم، ويؤيد عطف { وَيُحِقُّ } المرفوع عليه.
أى: من شأن الله - تعالى - أن يمحو الباطل، وأن يثبت الحق بكلماته الفاصلة، وقضائه العادل، كما قال - تعالى -:
{ { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } }. { إِنَّهُ } سبحانه - { عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أى: مطلع على ما تخفيه الصدور من أسرار ونوايا، لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.
ثم تحدثت السورة الكريمة عن دلائل الإِيمان فى الأنفس والآفاق، وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس، وفيما يتعلق بحياتهم ومعاشهم، وفيما يتعلق بمظاهر لطفه بهم، وفضله عليهم، فقال - تعالى -: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ... وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }.