خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ
٣٧
وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٣٨
وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ
٣٩
وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ
٤٠
وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ
٤١
إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤٢
وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ
٤٣
-الشورى

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك: { { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أو بدل منه.
وكبائر الإِثم: هى الذنوب الكبيرة التى يترتب عليها إقامة الحد على فاعلها أو الوعيد الشديد من الله - تعالى - لمرتكبها، كقتل النفس، وتعاطى الربا، وما يشبه ذلك من الكبائر.
والفواحش: جمع فاحشة، وهى من جملة كبائر الإِثم، إلا أن الله - تعالى - خصها بالذكر من باب عطف الخاص على العام، اهتماما وأكثر ما تطلق الفواحش على جريمة الزنا.
كما قال - تعالى -:
{ { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } }. والمعنى: وما عند الله - تعالى - من ثواب فى الآخرة خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وللذين يجتنبون ارتكاب كبائر الآثام، كقتل النفس، وأكل أموال الناس بالباطل، ويجتنبون كذلك ما فحش وعظم قبحه من الذنوب، كالزنا والبخل بما آتاهم الله من فضله..
وليس المراد من هذه الآية الكريمة فتح الباب لارتكاب صغائر الآثام والذنوب، بل المراد بيان فضل الله - تعالى - على عباده، ورحمته بهم، وبيان أن اجتناب كبائر الإِثم والفواحش، يؤدى - بفضل الله وكرمه - إلى غفران صغائر الذنوب، كما قال - تعالى -:
{ { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } }. وقوله - سبحانه -: { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } صفة أخرى من صفاتهم الكريمة.
أى: ما عند الله خير وأبقى، للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وللذين يجتنبون كبائر الإِثم والفواحش وللذين من صفاتهم - أيضا - أنهم يتجاوزون عن الشخص الذى أغضبهم، ويصفحون عنه، ويحلمون عليه.
وخص حالة غضبهم بالغفران، لأن هذه الحالة لا يقدر عليها إلا أصحاب العزائم القوية، إذ من المعروف أن الإِنسان فى حالة غضبه، كثيرا ما يفقد صوابه، ويغلب عليه عدم السيطرة على مشاعره، فإذا ما استطاع أن يكظم غيظه فى حالة غضبه، كان ذلك دليلا على قوة إيمانه وعلى ملكه لنوازع نفسه.
قال صاحب الكشاف: "هم يغفرون" أى: هم الأخصاء بالغفران فى حال الغضب، لا يغول الغضب أحلامهم كما يقول حلوم الناس. والمجئ بلفظ "هم" وإيقاعه مبتدأ وإسناد "يغفرون" إليه، لهذه الفائدة، ومثله "هم ينتصرون".
ثم ذكر - سبحانه - صفات كريمة لهم فقال: { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } أى: أطاعوه فى كل ما أمرهم به، أو نهاهم عنه..
{ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } أى: حافظوا عليها، وأدوها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين.
{ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } أى: شأنهم أنهم إذا حدث بينهم أمر هام يحتاج إلى المراجعة والمناقشة، تجمعوا وتشاوروا فيما هو أنفع وأصلح.
قال القرطبى ما ملخصه: "قوله - تعالى -: { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } أى: يتشاورون فى الأمور.
والشورى مصدر شاورته - والتشاور: استخراج الرأى من الغير..
قال الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم.
وقال ابن العربى: الشورى: ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب.
وقد قال الشاعر الحكيم:

إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن برأى لبيب أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة فإن الخوافى قوة للقوادم

وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستشير أصحابه فى الأمور التى تتعلق بالحروب وما يشببها من الأمور الدنيوية، ولم يكن يشاورهم فى الأحكام لأنها منزلة من عند الله - تعالى -.
فأما الصحابة فكانوا يتشاورون فى الأحكام، ويستنطبونها من الكتاب والسنة، فقد تشاوروا فى الخلافة بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفى ميراث الجد، وفى حروب المرتدين.
وقوله { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أى ومن صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين - أيضا - أنهم مما أعطيناهم من الرزق، يتصدقون على غيرهم من المحتاجين.
{ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } أى: أن من صفاتهم كذلك أنهم إذا بغى عليهم باغ، أو ظلمهم ظالم، أو اعتدى على كرامتهم أو على دينهم معتد، فإنهم لا يخضعون له، ولا يذلون أمامه، وإنما هم ينتصرون لدينهم ولكرامتهم، بأن يقابلوا بغيه وعدوانه، بما يردعه ويجعله يخشى إصابتهم بأذى.
وقوله - تعالى -: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا.. } بيان لوجوب عدم تجاوز الحد عنه دفع الظلم.
أى: أن الله - تعالى - يأمركم أنكم إذا أردتم الانتصار من الباغى فعليكم أن تقابلوا بغيه وظلمه وعدوانه بمثله بدون زيادة منكم على ذلك، كما قال - تعالى - فى آية أخرى:
{ { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } }. قال الشوكانى: "ذكر - سبحانه - المغفرة عند الغضب فى معرض المدح فقال: { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } كما ذكر الانتصار على الباغى فى معرض المدح - أيضا - لأنه التذلل لمن بغى، ليس من صفات من جعل الله له العزة، حيث قال - سبحانه - { { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ } }. فالانتصار عند البغى فضيلة، كما أن العفو عند الغضب فضيلة.
قال النخعى: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء.
ولكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله - تعالى - له، وعدم مجاوزته، كما بينه - سبحانه - عقب ذلك بقوله: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } فبين - سبحانه - أن العدل فى الانتصار، هو الاقتصار على المساواة.."
ثم بين - سبحانه - ما هو أسمى من مقابلة السيئة بمثلها فقال: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ }.
أى: فمن عفا عمن أساء إليه، وأصلح فيما بينه وبين غيره فأجره كائن على الله - تعالى - وحده، وسيعطيه - سبحانه - من الثواب ما لا يعلمه إلا هو - عز وجل -.
إنه - تعالى - لا يحب الظالمين بأى لون من ألوان الظلم.
وفى الحديث القدسى:
"يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" .
ثم أكد - سبحانه - ما سبق أن بينه من أن دفع بغى الباغى أمر محمود، فقال تعالى { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ }.
واللام فى قوله { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ } هى لام الابتداء، وقوله { بَعْدَ ظُلْمِهِ } مصدر مضاف لمفعوله و "من" شرطية، وجوابها { فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } والمراد بالسبيل: المؤاخذة والحرج..
أى: أن من انتصر لدينه وعرضه بعد ظلم الظالم له، فأولئك الذين يفعلون ذلك، لا يؤاخذون من أحد، ولا يلامون من غيرهم، لأنهم باشروا حقهم الذى شرعه الله - تعالى - لهم، وهو مقابلة السيئة بمثلها.
ثم بين - سبحانه - على من تقع المؤاخذة والمعاقبة فقال: { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }.
أى: إنما المؤاخذة والمعاقبة كائنة على الذين يظلمون غيرهم من الناس، ويتكبرون ويتجاوزون حدودهم فى الأرض بغير الحق.
وقيد - سبحانه - البغى فى الأرض بكونه بغير الحق، لبيان أنه لا يكون إلا كذلك، إذ معناه فى اللغة تجاوز الحد. يقال: بغى الجرح، إذ تجاوز الحد فى فساده، فهذا القيد إنما هو لبيان الواقع، وللتنفير منه.
{ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أى: أولئك الذين من صفاتهم الظلم والبغى لهم عذاب أليم، بسبب ما اجترحوه من ظلم وبغى.
ثم ختم - سبحانه - هذه الصفات الكريمة للمؤمنين فقال: { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ }.
أى: وللإِنسان الصابر على الأذى الذى يصفح عمن أساء إليه، الثواب الجزيل، والعاقبة الحسنة، لأن ذلك الصبر والمغفرة منه، لمن الأمور التى تدل على الهمة، وقوة العزيمة..
هذا، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة، يراها قد مدحت المؤمنين الصادقين بجملة من الصفات الحميدة، التى تعتبر على رأس الصفات الأساسية، لكل أمة تريد أن تنال الظفر والسعادة فى دنياها وآخرتها.
وبعد هذا الحديث عن المؤمنين وعن صفاتهم الكريمة وعما أعده سبحانه لهم من ثواب، جاء الحديث عن الظالمين وما أعد لهم من عقاب، وأمرهم - سبحانه - بالاستجابة لدعوة الحق من قبل أن يأتى يوم الحساب، الذى لا ينفعهم فيه شفيع أو نصير، فقال - تعالى -: { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا... فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ }.