خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ
٣٦
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ
٣٧
حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ
٣٨
وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
٣٩
أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٤٠
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ
٤١
أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ
٤٢
فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٤٣
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ
٤٤
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ
٤٥
-الزخرف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { يَعْشُ } أى: يعرض. يقال عشا فلان يعشو، كدعا يدعو، وعشى يعشى، كرضى يرضى، إذا ضعف بصره، ومنه قولهم: ناقة عشواء، إذا كانت لا تبصر إلا شيئا قليلا، والمراد هنا: عمى البصيرة وضعف إدراكها للخير. ومنه قولهم: ركب فلان العشواء، إذا خبط أمره على غير هدى أو بصيرة.
والمعنى: ومن يتعام عن ذكر الرحمن، ويعرض عن قرآنه، ويتجاهل هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } أى، نهيئ ونسبب له شيطانا رجيما يستولى عليه، ويستحوذ على قلبه وعقله.
{ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } أى: فذلك الشيطان يكون ملازما ومصاحبا لهذا الإِنسان الذى أعرض عن القرآن، ملازمة القرين لقرينه، والشئ لظله.
ومن الآيات التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } }. ثم بين - سبحانه - الآثار التى تترتب على مقارنة الشيطان للإِنسان فقال: { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }.
والضمير فى { وَإِنَّهُمْ } يعود إلى الشيطان باعتبار جنسه، وفى قوله - تعالى - { لَيَصُدُّونَهُمْ } يعود إلى { وَمَن } فى قوله { وَمَن يَعْشُ... } باعتبار معناها.
أى: ومن يعرض عن طاعة الله، نهيئ له شيطانا، فيكون ملازما له ملازمة تامة، وإن هؤلاء الشياطين وظيفتهم أنهم يصدون هؤلاء الفاسقين عن ذكر الله - تعالى -، وعن سبيله الحق وصراطه المستقيم.
{ وَيَحْسَبُونَ } أى: هؤلاء الكافرون { أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } إلى السبيل الحق. فالضمائر فى قوله { وَيَحْسَبُونَ } وما بعده يعود إلى الكافرين.
ويصح أن يكون الضمير فى قوله { وَيَحْسَبُونَ } يعود إلى الكفار، وفى قوله { أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } يعود إلى الشيطان، فيكون المعنى:
ويظن هؤلاء الكافرون أن الشياطين مهتدون إلى الحق، ولذلك اتبعوهم وأطاعوهم.
ثم بين - سبحانه - ما يكون بين هذا الإِنسان الكافر وبين قرينه من الشياطين يوم القيامة، فقال - تعالى -: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ }.
أى: لقد استمر هذا المعرض عن ذكر الله فى غيه. ومات على ذلك حتى إذا جاءنا يوم القيامة لحساب والجزاء، { قَالَ } لقرينه الذى صده عن طريق الحق..
{ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ } أى: أتمنى أن تكون المسافة التى بينى وبينك من البعد والمفارقة، كالمسافة التى بين المشرق والمغرب.
فالمراد بالمشرقين المشرق والمغرب فعبر - سبحانه - بالمشرقين على سبيل التغليب لأحدهما على الآخر.
{ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } أى: فبئس القرين أنت - أيها الشيطان - فالمخصوص بالذم محذوف.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما سيقال لهذا العاشى عن ذكر الله ولقرينه على سبيل التأنيب والتوبيخ فقال: { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ... }.
والضمير فى قوله: { يَنفَعَكُمُ } يعود إلى التمنى المذكور فى قوله: { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ.. } و { إِذ } ظرف لما مضى من الزمان، بدل من { ٱلْيَوْمَ }.
أى: ولن ينفعكم ندمكم وتمنيكم اليوم شيئا، بعد أن تبين لكم أنكم كنتم ظالمين فى الدنيا، ومصرين على الكفر والضلال.
وقوله: { أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } تعليل لما قبله، أى: ولن ينفعكم اليوم تمنيكم وندمكم لأنكم فى هذا اليوم أنتم وقرناؤكم مشتركون فى العذاب، كما كنتم فى الدنيا مشتركون فى سببه، وهو الكفر والضلال.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: قوله: { أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } فى محل الرفع على الفاعلية. يعنى: ولن ينفعكم كونكم مشتركين فى العذاب كما ينفع الواقعين فى الأمر الصعب اشتراكهم فيه لتعاونهم فى تحمل أعبائه. لأن كل واحد منكم، به من العذاب ما هو فوق طاقته..
ولك أن تجعل الفاعل التمنى فى قوله: { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ... } على معنى: ولن ينفعكم اليوم ما أنتم فيه من تمنى مباعدة القرين، وقوله: { أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } تعليل، أى: ولن ينفعكم تمنيكم، لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم فى العذاب... وتقويه قراءة من قرأ { إنكم } بالكسر.
وبعد هذا التوبيخ الشديد للمعرض عن ذكر الله ولشيطانه، يوجه الله - تعالى - خطابه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ليزيده تسلية وتثبيتا فيقول: { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }.
والاستفهام للنفى أى: أفأنت - أيها الرسول الكريم - تستطيع أن تسمع الصم صوتك، أو أن تهدى الذين انطمست بصائرهم إلى الطريق الحق. أو أن تخرج من كان فى الضلال الواضح إلى الهدى والرشاد؟
كلا إنك لن تستطيع ذلك، لأن الهداية والإِضلال، من الله - تعالى - وحده. وأنت - أيها الرسول الكريم - عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.
فالمقصود من الآية الكريمة تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونهيه من أن يضيق صدره بسبب إعراضهم المستمر عن دعوة الحق، وبيان أن الهداية والإِضلال بيد الله - تعالى - وحده.
وسماهم - سبحانه - صما وعميا، مع أنهم يسمعون ويبصرون، لأنهم بمنزلة الصم والعمى فى عدم انتفاعهم بالهدى والرشاد الذى جاءهم به - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله - تعالى -: { وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } معطوف على العمى والصم باعتبار تغاير الصفات.
أى: أنت - أيها الرسول الكريم - لن تستطيع هداية من كان أصم وأعمى، ومن كان مصرا على الضلال المبين وما دام الأمر كذلك فسر فى طريقك، دون أن تذهب نفسك عليهم حسرات..
وقوله - سبحانه -: { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } زيادة فى تسليته وتثبيته - صلى الله عليه وسلم -.
أى: أن أمرك - أيها الرسول الكريم - مع هؤلاء الظالمين لا يخلو عن حالين: إما أن نتوفينك قبل أن ترى نقمتنا منهم.. وفى هذه الحالة فسنتولى نحن عذابهم والانتقام منهم، حسب إرادتنا ومشيئتنا، وإما أن نبقى حياتك حتى ترى بعينيك العذاب الذى توعدناهم به، فإنا عليهم وعلى غيرهم مقتدرون على تنفيذ ما نتوعد به من دون أن يستطيع أحد الإِفلات من قبضتنا وقدرتنا.
قال ابن كثير: أى: نحن قادرون على هذا وعلى هذا. ولم يقبض الله - تعالى - رسوله، حتى أقر عينه من أعدائه، وحكمه فى نواصيهم، وملكه ما تضمنته صياصيهم.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } }. والفاء فى قوله - تعالى -: { فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ... } واقعة جوابا لشرط مقدر.
أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لك من أن أمرك مع هؤلاء المشركين لا يخلو عن حالين: فاستمسك - أيها الرسول الكريم - بما أوحينا إليك من هدايات وإرشادات { إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وطريق قويم لا عوج فيه ولا اضطراب.
{ وَإِنَّهُ } أى: هذا القرآن { لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أى: لشرف عظيم لك ولشرف عظيم لأهل مكة الذين بعثت فيهم بصفة خاصة، ولغيرهم ممن آمن بك بصفة عامة كما قال - تعالى -:
{ { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ... } أى: عزكم وشرفكم.
وقوله: { وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } تحذير من مخالفة ما اشتمل عليه هذا القرآن من أحكام وآداب وتشريعات.
أى: وسوف تسألون يوم القيامة عنه، وعن القيام بحقه، وعن مقدار تمسككم بأوامره ونواهيه وعن شكركم لله - تعالى - على منحكم لهذه النعمة.
ثم أضاف - سبحانه - إلى هذا التثبيت لنبيه - صلى الله عليه وسلم - تثبيتا آخر فقال: { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ }.
والمقصود من الآية الكريمة بيان أن الرسل جميعا، قد دعوا أقوامهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده، كما قال - سبحانه -:
{ { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلالَةُ } }. وكما قال - تعالى -: { { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } }. قال صاحب الكشاف ما ملخصه: ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لاستحالته، ولكنه مجاز عن النظر فى أديانهم، وأنهم ما جاءوا قط بعبادة الأوثان، وإنما جاءوا بالأمر بعبادة الله - تعالى - وحده..
وقيل: إن النبى - صلى الله عليه وسلم - جمع الله له الأنبياء، فى ليلة الإِسراء فى بيت المقدس، فصلى بهم إماما، وقيل له سلهم: فلم يتشكك ولم يسأل.
وقيل معناه، سل أمم من أرسلنا من قبلك، وهم أهل الكتابين: التوارة والإِنجيل فإذا سألهم فكأنما سأل - رسلهم - فالكلام على حذف مضاف.
فالآية الكريمة تقرر على كل الوجوب بأبلغ أسلوب، أن جميع الرسل قد جاءوا بعقيدة واحدة، وبدين واحد، هو عبادة الله - تعالى - ونبذ كل معبود سواه.
* * *
ثم تمضى السورة الكريمة فى تسليتها للرسول - صلى الله عليه وسلم - وفى تثبيتها للمؤمنين، فتذكر جانبا من قصة موسى - عليه السلام مع فرعون، وكيف أن فرعون خسر من دعوة موسى - عليه السلام - وتباهى على قومه بذلك، وكيف أنه استخف بهم فأطاعوه، فكانت عاقبته وعاقبتهم أن أغرقهم الله جميعا. قال - تعالى -: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ ... سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ }.