خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ
٦٧
يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
٦٨
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ
٦٩
ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ
٧٠
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٧١
وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٧٢
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ
٧٣
إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
٧٤
لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ
٧٥
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ
٧٦
وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ
٧٧
لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
٧٨
أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ
٧٩
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ
٨٠
-الزخرف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى -: { ٱلأَخِلاَّءُ } جمع خليل بمعنى صديق. وسمى الأصدقاء أخلاء، لأن المودة التى بينهم تخللت قلوبهم واختلطت بنفوسهم.
أى: الأصدقاء فى الدنيا، يصير بعضهم لبعض يوم القيامة أعداء، لأنهم كانوا يجتمعون على الشرور والآثام فى الدنيا، وكانوا يتواصون بالبقاء على الكفر والفسوق والعصيان فلما جاء يوم القيامة، وانكشفت الحقائق.. انقلبت صداقتهم إلى عداوة.
{ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } فإن صداقتهم فى الدنيا تنفعهم فى الآخرة، لأنهم أقاموها على الإِيمان والعمل الصالح والطاعة لله رب العالمين.
فالآية الكريمة إنذار للكافرين الذين كانت صداقاتهم فى الدنيا تقوم على محاربة الحق، ومناصرة الباطل... وبشارة عظيمة للمتقين الذين بنوا صداقتهم فى الدنيا على طاعة الله - عالى - ونصرة دينه، والعمل بشريعته.
ثم بشر الله - تعالى - عباده بجملة من البشارات الكريمة، فقال - تعالى -: { يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ }.
والخوف معناه: توقع ما يخشاه ويغتم له الإِنسان فى المستقبل. والحزن معناه: غم يلحق الإِنسان من أجل شئ مضى.
وقوله: { تُحْبَرُونَ } أى: تفرحون وتسرون سرورا عظيما يظهر حباره - بفتح الحاء وكسرها - أى: أثره الحسن على وجوهكم وأفئدتكم، فهو من الحبَر - بفتح الحاء والباء - بمعنى الأثر. ويصح أن يكون من الحَبْر - بسكون الباء - بمعنى الزينة وحسن الهيئة.
وبهذا ترى الآيات الكريمة قد نفت عنهم الخوف والحزن، وفتحت لهم أبواب الجنة، وأعلمتهم بأنهم سيكونون هم وأزواجهم فى سرور دائم.
أى: يقول الله - تعالى - لعباده من المؤمنين يوم القيامة: يا عباد الذين شرفتكم بالإِضافة إلى ذاتى، لا خوف عليكم اليوم من أمر المستقبل، ولا أنتم تحزنون على أمر مضى.
وقوله: { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } فى محل نصب، صفة لقوله "يا عباد" أى: يا عباد الذين آمنوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وعلى صدق نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وكانوا فى الدنيا مخلصين وجوههم لنا، وجاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا..
{ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } أى: ونساؤكم المؤمنات { تُحْبَرُونَ } أى: تسرون وتتلذذون بتلك النعم التى أنعم بها - سبحانه - عليكم.
فالمراد بأزواجهم هنا: نساؤهم، لأن فى هذه الصحبة تلذذا أكثر، ونعيما أكبر.
والإِضافة فى قوله { أَزْوَاجُكُمْ } للاختصاص التام، فتخرج الأزواج غير المؤمنات.
ومنهم من يرى أن المراد بقوله { وَأَزْوَاجُكُمْ }: نظراؤكم وأشباهكم فى الطاعة لله - تعالى -.
أى: ادخلوا الجنة أنتم وأشباهكم فى الإِيمان والطاعة، دخولا لا تنالون معه إلا الفرح الدائم، والسرور الذى لا انقطاع له.
وشبيه بهذ الآية قوله - تعالى -:
{ { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ } }. ثم بين - سبحانه - مظاهر أخرى لتكريمه لهؤلاء العباد فقال: { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ... }.
والصحاف: جمع صحفة، وهى الآنية الواسعة الكبيرة التى توضع فيها الأطعمة.
والأكواب: جمع كوب وهو ما يوضع فيه الشراب.
وفى الكلام حذف يعرف من السياق، والتقدير: يقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون، فإذا ما دخلوها واستقروا فيها، يطاف عليهم بأطعمة وأشربة فى أوان من ذهب.
ولم تذكر الأطعمة والأشربة للعلم بها، إذ لا معنى للطواف بالصحاف والأكواب وهى فارغة..
{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } أى: وفى الجنة التى دخلوها كل ما تشتهيه الأنفس من أنواع المشتهيات، وكل ما تتلذذ بين الأعين وتسر برؤيته.
{ وَأَنتُمْ } أيها المؤمنون { فِيهَا خَالِدُونَ } خلودا أبديا لا نهاية له.
ثم ختم - سبحانه - هذا التكريم لعباده بقوله: { وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ }.
واسم الإِشارة { تِلْكَ } مبتدأ وخبره { ٱلْجَنَّةُ } وما بعدهما صفة الجنة.. وفى الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب على سبيل التشريف.
وقال - سبحانه - { وَتِلْكَ } بالإِفراد، للإِشعار بأن الخطاب لكل واحد من أهل الجنة، على سبيل العناية به، والإِعلاء من شأنه.
أى: ويقال لهم يوم القيامة على سبيل التشريف: وهذه الجنة التى أورثتموها بسبب أعمالكم الصالحة فى الدنيا، لكم فيها فاكهة كثيرة، وثمار شهية لذيذة، منها تأكلون أكلا هنيئا مريئا.
وعبر بقوله - تعالى - { أُورِثْتُمُوهَا } للإِشعار بأنها قد صارت إليهم بفضل الله وكرمه، كما يصير الميراث إلى الوارث.
وقوله { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بيان للأسباب التى أوصلتهم إلى هذه المنازل العالية، فإن أعمالهم الطيبة التى تقبلها الله - تعالى - منهم، جعلتهم - بفضله وإحسانه - فى أعلى الدرجات وأسماها.
وكعادة القرآن الكريم فى المقارنة بين الأخيار والأشرار جاء الحديث عن سوء عاقبة الكافرين بعد الحديث عن حسن عاقبة المؤمنين، فقال - تعالى - { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ }.
أى: إن الكافرين بالحق، الراسخين فى الإِجرام، الكاملين فيه، سيكونون يوم القيامة، فى عذاب جهنم خالدين فيه خلودا أبديا.
{ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } أى: لا يخفف عنهم العذاب، فقوله { يُفَتَّرُ } مأخوذ من الفتور بمعنى الهدوء والسكون، يقال: فترت الحمى، إذا خفت حدتها، وفتر المرض إذا سكن قليلا.
{ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أى: وهم فى هذا العذاب فى أقصى درجات الحزن والذلة واليأس يقال: أبلس فلان إبلاسا، إذا سكت عن الكلام سكوتا مصحوبا بالحزن وانقطاع الحجة.
ثم بين - سبحانه - أن ما نزل بهؤلاء المجرمين من عذاب كان بسبب كفرهم فقال - تعالى -: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ }.
أى: نحن ما ظلمنا هؤلاء الكافرين بإنزال هذا العذاب المهين الدائم بهم، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم، باستحبابهم العمى على الهدى، وإيثارهم الغى على الرشد.
ثم حكى - سبحانه - بعض أقوالهم بعد نزول العذاب بهم فقال: { وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ }.
والمراد بذلك سؤال خازن النار واللام فى قوله { لِيَقْضِ } لام الدعاء.
أى: وبعد أن طال العذاب على هؤلاء الكافرين، نادوا فى ذلة واستجداء قائلين لخازن النار: يا مالك ادع لنا ربك كى يقضى علينا، بأن يميتنا حتى نستريح من هذا العذاب.
فالمراد بالقضاء هنا: الإِهلاك والإِماتة، ومنه قوله - تعالى -: { فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ... } أى: فأهلكه.
وفى هذا النداء ما فيه من الكرب والضيق، حتى إنهم ليتمنون الموت لكى يستريحوا مما هم فيه من عذاب.
وهنا يجيئهم الرد بما يزيدهم غما على غمهم، وهو قوله - تعالى -: { قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } أى: قال مالك فى الرد عليهم: إنكم ماكثون فيه بدون موت يريحكم من عذابها، وبدون حياة تجدون معها الراحة والأمان.
وقوله - سبحانه -: { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } تأكيد منه - تعالى - وتقرير لرد مالك عليهم، ومبين لسبب مكثهم فيها..
أى: لقد جئناكم - أيها الكافرون - بالحق على ألسنة رسلنا الذين لم يتركوا وسيلة من الوسائل إلا وسلكوها معكم فى الإِرشاد إلى طريق الهدى، ولكن أكثرهم كان كارها للحق والهدى، معرضا عنهما إعراضا كليا، مصرا على كفره وشركه.
وعبر - سبحانه - بالأكثر لأن قلة منهم لم تكن كارهة للحق، ولكنها كانت منقادة لأمر سادتها وكبرائها.. أما الذين كانوا يعرفون الحق ولكن يكرهونه، فهم الزعماء والكبراء، لأنهم يرون فى اتباعه انتقاصا من شهواتهم وتصادما مع أهوائهم.
ثم وبخهم - سبحانه - على مكرهم، وبين أنه مكر بائر خائب فقال: { أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ }.
و { أَمْ } هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة، والجملة الكريمة كلام مستأنف مسوق لتأنيب المشركين على ما دبروه من كيد للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين. والإِبرام: الإِتقان للشئ والإِحكام له، وأصله الفتل المحكم. يقال: أبرم فلان الحبل، إذا أتقن فتله.
أى: بل أحكموا كيدهم للنبى - صلى الله عليه - وسلم - ولأصحابه؟ إن كانوا يظنون ذلك فقد خاب ظنهم، لأن مكرنا أعظم من مكرهم، وكيدنا يزهق كيدهم..
فالمقصود بالآية الكريمة الانتقال من عدم إجابة ندائهم، إلى تأنيبهم على ما كان منهم فى الدنيا من مكر بالحق وأهله، وكيف أن هذا المكر السئ كانت نتيجته الخسران لهم.
وقوله - سبحانه -: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم... } توبيخ آخر لهم على جهلهم وانطماس بصائرهم.
والمراد بالسر هنا: حديثهم مع أنفسهم، والمراد بنجواهم: ما تكلم به بعضهم مع بعض دون أن يطلعوا عليه أحدا غيرهم.
أى: بل أيظن هؤلاء الجاهلون أننا لا نعلم ما يتحدثون به مع أنفسهم، وما يتحدثون به مع غيرهم فى خفية واستتار.
وقوله - سبحانه -: { بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } أى: إذا كانوا يظنون ذلك فقد خابوا وخسروا، فإننا نعلم سرهم ونجواهم. ورسلنا الذين يحفظون عليهم أعمالهم، ملازمون لهم، ويسجلون عليهم كل صغيرة وكبيرة.
وبعد هذا التهديد والوعيد لأولئك الكافرين.. تأخذ السورة الكريمة فى تلقين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحجة التى يجابههم بها، وفى تسليته عما أصابه منهم، وفى الثناء على الله - تعالى - بما هو أهله من تمجيد وتعظيم، ثم تختتم بهذا النداء الخاشع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخالقه - عز وجل - فتقول: { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ... سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }.