خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً
١٨
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٩
وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٢٠
وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
٢١
وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
٢٢
سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً
٢٣
وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
٢٤
-الفتح

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

واللام فى قوله - تعالى -: { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ... } هى الموطئة للقسم، وتسمى هذه البيعة بيعة الرضوان.
والشجرة: كانت بالحديبية، وقد جلس - صلى الله عليه وسلم - تحتها ليبايع أصحابه على الموت أو على عدم الفرار، فبايعوه على ذلك - ما عدا بعض المنافقين -، وقد كان الناس بعد ذلك يترددون على تلك الشجرة ويصلون تحتها، ويدعون الله - تعالى -.. فأمر عمر - رضى الله عنه - قطعها خشية الافتتان بها. أى: والله لقد رضى الله - تعالى - عن المؤمنين الذين بايعوك - أيها الرسول الكريم - تحت الشجرة، على الموت من أجل إعلاء كلمة ربهم.
وفى هذه الجملة أسمى وأعلى ما يتمناه إنسان، وهو رضا الله - تعالى - عنه ودخوله فى زمرة العباد الذين ظفروا بمغفرته - سبحانه - ورحمته.
قال الآلوسى -رحمه الله -: والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة هذه المبايعة. وقوله - سبحانه -: { تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } متعلق بيبايعونك.. وفى التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة فى النفوس. ولذا استوجبت رضا الله - تعالى - الذى لا يعادله شئ، ويستتبع ما لا يكاد يخطر على البال.
ويكفى فيما ترتب على ذلك ما أخرجه أحمد عن جابر، ومسلم عن أم بشر، عنه، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" .
. وصح برواية الشيخين وغيرهما فى أولئك المؤمنين من حديث جابر، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم "أنتم خير أهل الأرض.." .
وقوله - تعالى -: { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } بشارة أخرى لهؤلاء المؤمنين الصادقين.
أى: لقد رضى - سبحانه - عن الذين بايعوك تحت الشجرة - أيها الرسول الكريم - حيث علم ما فى قلوبهم من الصدق والإِخلاص وإيثار الآخرة على الأولى، فأنزل السكينة والطمأنينة والأمان عليهم، { وَأَثَابَهُمْ } أى: وأعطاهم منحهم فتحا قريبا، وهو فتح خيبر، الذى كان بعد صلح الحديبية بأقل من شهرين.
وقيل المراد به: فتح مكة، والأول أرجح، لأن فتح خيبر لم يكن فتح أقرب منه، ولأن المسلمين قد أصابوا من فتح خيبر غنائم كثيرة.
وقد أشار - سبحانه - بعد ذلك إلى تلك الغنائم فقال: { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا... }.
أى: وأثابكم مغانم كثيرة تأخذونها من خيبر. { وَكَان ٱللَّهُ } - تعالى - وما زال { عَزِيزاً } أى: غالبا { حَكِيماً } فى كل أفعاله وأحكامه.
{ وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا.. } أيها المؤمنون من أعدائكم فى مستقبل أيامكم.
وقد صدق الله - تعالى - وعده معهم، فلقد غنموا بعد ذلك من بلاد فارس والروم وغيرهما.
والإِشارة فى قوله { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ } تعود إلى مغانم خيبر، كما روى عن مجاهد - وعليه يكون المراد بالناس فى قوله: { وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ } أهل خيبر وحلفاءهم من بنى أسد وغطفان حين جاءوا لنصرة يهود خيبر، فألقى الله الخوف فى قلوبهم جميعا.
ويرى بعض المفسرين أن الإِشارة فى قوله: { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ } إلى صلح الحديبية وقد روى ذلك عن ابن عباس.
وعليه يكون المراد بالناس فى قوله: { وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ } مشركى قريش، أى: منعهم من حربكم، بأن قذف فى قلوبهم الرعب منكم.
ويبدو لنا أن هذا الرأى الذى قاله ابن عباس - رضى الله عنهما - هو الأقرب إلى الصواب، لأنه يتسق مع سياق الآيات، ولأنه يؤكد أن صلح الحديبية كان فتحا ومغنما، كان فتحا بدليل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن شك فى ذلك:
"أى والذى نفسى بيده إنه لفتح" وكان مغنما لأن المسلمين غنموا من ورائه انتشار الدعوة الإِسلامية فى آفاق الأرض.
واللام فى قوله: { وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } متعلقة بمحذوف، أى فعل ما فعل من التعجيل والكف لتكون تلك النعم والبشارات علامات للمؤمنين على رعاية الله - تعالى - لهم، ورضاه عنهم.
{ وَيَهْدِيَكُمْ } أيها المؤمنون { صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أى: طريقا واضحا قويما، به تصلون إلى ما تبغونه من عزة وأمان.
وقوله: { وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا... } معطوف على { هَـٰذِهِ }.
أى: فعجل لكم هذه المغانم، وعجل لكم مغانم أخرى، لم تقدروا على الحصول عليها قبل ذلك لبعدها عن أن تنالها أيديكم. وقد أحاط الله بها لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }.
وتختلف الأقوال فى هذه المغانم الأخرى فمنهم من يرى أنها فتح مكة، ومنهم من يرى أنها فتح خيبر. ومنهم من يرى أنها مغانم هوازن وثقيف، ومنهم من يرى أنها مغانم المسلمين من الفرس والروم.
ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال أولها، لأنه ترتب على هذا الصلح فى الحديبية أن فتحت مكة بعد سنتين منه، بسبب نقض المشركين له، وقد تم فتحا بدون قتال يذكر، بعد أن حدث ما حدث بين المسلمين وبين مشركى مكة من قتال انتصر فيه المسلمون تارة كغزوة بدر، وانتصر فيه المشركون أخرى كغزوة أحد...
فالمسلمون لم يقدروا على دخول مكة إلا فى عام الفتح، وبعد أن أحاط الله - تعالى بها - بقدرته التى لا يغلبها شئ، وبعد أن استعصت على المسلمين زمنا طويلا، وقد سلمها - سبحانه - لهم بأقل أنواع القتال { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }.
والذى يتأمل فى هذه الآيات الكريمة يرى الله - تعالى -، قد بشر المسلمين الذين شهدوا صلح الحديبية ببشارات متعددة.
بشرهم - أولا - برضاه عنهم - وهذه أسمى بشارة وأعلاها..
وبشرهم - ثانيا - بتفضله عليهم بمنحهم السكينة والطمأنينة التى تجعلهم فى ثبات وأمان..
وبشرهم - ثالثا - بفتوحات وغنائم منها القريب العاجل، ومنها الآجل المتحقق، الذى يكاد لتحققه أن يشاهدوه بأعينهم لأن الله - تعالى وعد به ووعده لا يتخلف.
ثم بشرهم - رابعا - بأنهم هم المنصورون لأن سنته قد اقتضت ذلك، فقال: { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ... } وتولية الأدبار كناية عن الهزيمة، لأن المنهزم يعطى ظهره لمن انتصر عليه. أى: ولو قاتلكم الذين كفروا وأنتم على تلك الحالة من قوة الإِيمان، وصدق العهد، وإخلاص النية، وحسن الاستعداد، ومباشرة الأسباب.. لولوا الأدبار أمامكم { ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً } يعينهم { وَلاَ نَصِيراً } لنصرهم.
وقوله { سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ.. } زيادة فى تثبيتهم وفى إدخال السرور على قلوبهم.. ولفظ { سُنَّةَ } منصوب على المصدرية بفعل محذوف. أى: سن الله انتصار أهل الحق على أهل الباطل سنة قديمة وممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
{ وَلَن تَجِدَ } أيها العاقل - { لِسُنَّةِ ٱللَّهِ } - تعالى - { تَبْدِيلاً } أو تغييرا أو تحويلا.
وفى هذا المعنى وردت آيات كثيرة، منها قوله - تعالى -:
{ { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } }. ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة من نعمه التى أنعمها عليهم فى رحلتهم هذه التى انتهت بصلح الحديبية فقال: { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ.. }.
والمراد ببطن مكة: الحديبية، وسميت بذلك لأنها قريبة من مكة. أى: وهو - سبحانه - الذى منع المشركين - بقدرته وحكمته من مهاجمتكم والاعتداء عليكم، ومنعكم من مهاجمتهم وقتالهم، فى هذا المكان القريب من مكة، وكان ذلك بعد أن نصركم عليهم، وجعلكم أعلى منهم فى القوة والحجة والثبات، وكان - سبحانه - وما زال { بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }.
وقد ذكروا فى هذا الظفر روايات منها ما أخرجه الإِمام مسلم وغيره عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ثمانون رجلا من أهل مكة فى السلاح، من قبل جبل التنعيم، يريدون غرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا عليهم، فأخذوا فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية".
فالآية الكريمة تذكير من الله - تعالى - لعباده المؤمنين، بجانب من نعمه عليهم، ورحمته بهم. وهو تذكير يتعلق بأمور شاهدوها بأعينهم، وعاشوا أحداثها، وعند ما يأتى التذكير بالأمور المشاهدة المحسوسة، يكون أدعى إلى الشكر لله - عز وجل -.
ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة أخرى من نعمه عليهم، وكشف لهم عن جانب من حكمته فى منع القتال بينهم وبين مشركى مكة، وفى هدايتهم إلى هذا الصلح فقال: { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ... بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }.