خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً
٨
لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
١٠
-الفتح

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله: { مُبَشِّراً } من التبشير، وهو الإِخبار بالأمر السار لمن لا علم له بهذا الأمر.
وقوله: { وَنَذِيراً } من الإِنذار، وهو الإِخبار بالأمر المخيف، لكى يجتنب ويحذر.
أى: { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ } - أيها الرسول الكريم - إلى الناس، لتكون { شَاهِداً } لمن آمن منهم بالإِيمان، ولمن كفر منهم بالكفر، بعد أن بلغتهم رسالة ربك تبليغا تاما كاملا.
ولتكون { مُبَشِّراً } للمؤمنين منهم برضا الله عنهم ومغفرته لهم { وَنَذِيراً } للكافرين وللعصاة بسوء المصير إذا ما استمروا على كفرهم وعصيانهم.
والحكمة فى جعله - صلى الله عليه وسلم - شاهدا مع أن الله - تعالى - لا يخفى عليه شئ: إظهار العدل الإِلهى للناس فى صورة جلية واضحة، وتكريم النبى - صلى الله عليه وسلم - بهذه الشهادة.
وجمع - سبحانه - بين كونه - صلى الله عليه وسلم - { مُبَشِّراً وَنَذِيراً } لأن من الناس من ينفعه الترغيب فى الثواب، ومنهم من لا يزجره إلى التخويف من العقاب. وانتصاب { شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } على الحال المقدرة.
وفى معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة، منها قوله - تعالى -:
{ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً... } }. وقوله - سبحانه - { { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ... } }. وقوله - عز وجل -: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } }. ثم بين - سبحانه - الحكمة من إرساله - صلى الله عليه وسلم - فقال: { لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }.
وقوله: { وَتُعَزِّرُوهُ } من التعزير بمعنى النصرة مع التعظيم والتفخيم.
وقوله: { وَتُوَقِّرُوهُ } أى: تعظموه وتقدروه.
وقوله: { وَتُسَبِّحُوهُ } من التسبيح بمعنى التنزيه. تقول: سبحت الله - تعالى - أى: نزهته عما لا يليق به، و { بُكْرَةً } أول النهار، و { أَصِيلاً } آخره، والمراد ظاهرهما، أو جميع أوقات النهار، كما يقال: شرقا وغربا لجميع الجهات.
والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأمته، كقوله - تعالى -:
{ { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ... } والقراءة بتاء الخطاب، هى قراءة الجمهور من القراء.
قال الآلوسى: وهو من باب التغليب، غلب فيه المخاطب على الغائب فيفيد أن النبى - صلى الله عليه وسلم - مخاطب بالإِيمان برسالته كأمته..
أى: أرسلناك - أيها الرسول الكريم - شاهدا ومبشرا ونذيرا، لتكون على رأس المؤمنين بما أرسلناك به، وليتبعك فى ذلك أصحابك ومن سيأتى بعدهم، بأن يؤمنوا بالله ورسوله إيمانا حقا، ولينصروك ويعظموك، وليسبحوا الله - تعالى - فى الصباح والمساء. وعلى هذا يكون الضمير فى قوله - تعالى -: { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } يعود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفى قوله { وَتُسَبِّحُوهُ } يعود إلى الله - تعالى -.
قال القرطبى ما ملخصه: قرأ ابن كثير وأبو عمرو { ليؤمنوا } وكذلك { يعزروه ويوقروه ويسبحوه } كله بالياء على الخبر..
وقرأ الباقون بالتاء فى الخطاب... والهاء فى قوله: { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } للنبى - صلى الله عليه وسلم - وهنا وقف تام. ثم تبتدئ بقوله: { وَتُسَبِّحُوهُ } أى: تسبحوا الله بكرة وأصيلا.
وقيل: الضمائر كلها لله - تعالى - فعلى هذا يكون تأويل: { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } أى: تثبتوا له صحة الربوبية، وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك..
ثم مدح - سبحانه - الذين عاهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووفوا بعهودهم أكمل وفاء، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ.. }.
وقوله - سبحانه -: { يُبَايِعُونَكَ } من المبايعة أو من البيعة، بمعنى المعاهدة أو العهد، وسميت المعاهدة مبايعة، لاشتمال كل واحد منهما على معنى المبادلة، وعلى وجوب الصدق والوفاء.
والمراد بهذه المبايعة، ما كان من المؤمنين فى صلح الحديبية، عندما عاهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الثبات وعلى مناجزة المشركين بعد أن أشيع أنهم قتلوا عثمان - رضى الله عنه -. أى: إن الذين يبايعونك على الموت أو على عدم الفرار عند لقاء المشركين، إنما يبايعون ويعاهدون الله - تعالى - على ذلك قبل أن يبايعوك أنت، لأن المقصود من هذه البيعة إنما هو طاعته - سبحانه - وامتثال أمره، كما قال - تعالى -:
{ { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } }. فالمقصود بقوله: { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } تأكيد وجوب الوفاء بما عاهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه من الثبات وعدم الفرار، والطاعة له فى كل ما يأمرهم به.
وقوله - سبحانه -: { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } زيادة فى تأكيد وجوب الوفاء.
ومذهب السلف فى هذه الآية وأمثالها من آيات الصفات: أنه يجب الإِيمان بها، وتفويض علم معناها المراد منها إلى الله - تعالى - وترك تأويلها مع تنزيهه - تعالى - عن حقيقتها، لاستحالة مشابهته - تعالى - بالحوادث، كما قال - سبحانه -:
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } }. أما الخلف فمذهبهم تأويل هذه الصفات على معنى يليق بجلاله، فيؤولون اليد هنا بالقوة أو القدرة. أى: قوة الله - تعالى - ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم، كما يقال: اليد فى هذه المسألة لفلان، أى: الغلبة والنصرة له.
أو المعنى: يد الله - تعالى - بالوفاء بما وعدهم من الخير والنصرة فوق أيديهم..
والمقصود بهذه الجملة - كما أشرنا - زيادة التأكيد على وجوب الوفاء والثبات.
قال صاحب الكشاف: لما قال - سبحانه -: { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } أكده تأكيداً على سبيل التمثيل، فقال: { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يريد أن يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التى تعلو أيدى المبايعين: هى يد الله، والله - تعالى - منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام..
وإنما المعنى: تقرير أن عقد الميثاق من الرسول - صلى الله عليه وسلم - كعقده مع الله - تعالى -.
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الناكثين فقال: { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } أى: فمن نقض العهد بعد إبرامه وتوثيقه، فإنما عاقبة نقضه يعود وبالها وشؤمها عليه.
فقوله { نَّكَثَ } مأخوذ من النَّكث - بكسر النون - وهو فك الخيوط المغزولة بعد غزلها، وقوله: { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } أى: ومن ثبت على الوفاء بما عاهد الله - تعالى - عليه فسيعطيه - سبحانه - من فضله أجرا عظيما على ذلك.
والهاء فى قوله: { عَلَيْهُ } قرأها حفص بالضم، توصلا إلى تفخيم لفظ الجلالة، الملائم لتفخيم أمر العهد المشعر به الكلام، وقرأها الجمهور بالكسر.
هذا، وقد وردت أحاديث متعددة، تصرح بأن الذين كانوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فى صلح الحديبية قد بايعوا جميعا النبى - صلى الله عليه وسلم - على الموت أو على الفرار، سوى جماعة من المنافقين، امتنعوا عن هذه البيعة، لمرض قلوبهم، وسوء طويتهم..
ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الشيخان عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة، قيل: على أى شئ؟ قال: على الموت.
وروى مسلم فى صحيح عن جابر بن عبد الله أنه سئل: كم كان عددكم يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، فبايعنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن لا نفر - سوى الجد بن قيس فإنه اختفى تحت بطن بعيره، ولم يسرع مع القوم..
وهكذا فاز المؤمنون الصادقون بشرف هذه البيعة وحرم منها المنافقون لمرض قلوبهم.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن المتخلفين، الذين لم يخرجوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى صلح الحديبية، فتحكى أعذارهم الزائفة، وتفضحهم على رءوس الأشهاد، وترد على أقوالهم الباطلة، وتأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بالإِعراض عنهم، وإهمال أمرهم، فهم قوم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله..