خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١٠٩
إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
١١٠
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى: اعلم أن عادة الله تعالى - جارية فى هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام، أتبعها إما بالإِلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر - فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع، أتبعها بوصف أحوال القيامة.
ثم قال وفى هذه الآية قولان:
أحدهما: أنها متصلة بما قبلها والتقدير: واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل - فيكون قوله: { يَوْمَ يَجْمَعُ } بدل اشتمال من قوله فى الآية السابقة
{ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ } والقول الثانى: أنها منقطعة عما قبلها والتقدير:
اذكروا { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ }.
والمعنى: لقد سقنا لكم - أيها الناس - ما سقنا من الترغيب والترهيب وبينا لكم ما بينا من الأحكام والآداب، فمن الواجب عليكم أن تتقوا الله وأن تحذروا عقابه، وأن تذكروا ذلك اليوم الهائل الشديد يوم يجمع الله الرسل الذين أرسلهم إلى مختلف الأقوام. فى شتى الأمكنة والأزمان فيقول لهم: ماذا أجبتم من أقوامكم؟
أى: ما الإِجابة التى أجابكم بها أقوامكم؟
وخص - سبحانه - الرسل بالذكر - مع أن الرسل وغيرهم سيجمعون للحساب يوم القيامة - لإِظهار شرفهم وللإِيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم من الأقوام لأن هؤلاء الأقوام إنما هم تبع لهم.
وقال - سبحانه - { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } ولم يقل - مثلا - "هل بلغتم رسالتى أولا"؟ للإِشعار بأن الرسل الكرام قد بلغوا رسالة الله على أكمل وجه وأن الذين خالفوهم من أقوامهم سيتحملون وزر مخالفتهم يوم القيامة.
وقوله: { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } حكاية لاجابة الرسل فإن قيل: لماذا نفوا عن أنفسهم العلم مع أن عندهم بعض العلم؟ فالجواب على ذلك أن هذا من باب التأدب مع الله - تعالى - فكأنهم يقولون: لا علم لنا يذكر بجانب علمك المحيط بكل شىء، ونحن وإن كنا قد عرفنا ما أجابنا به أقوامنا، إلا أن معرفتنا هذه لا تتعدى الظواهر، أما علمك أنت - يا ربنا - فشامل للظواهر والبواطن، أو أنهم قالوا ذلك إظهارا للتشكى والالتجاء إلى الله ليحكم بينهم وبين أقوامهم الذين كذبوهم. أو أن مرادهم لا علم لنا بما كان منهم بعد أن فارقناهم وفارقنا من جاء بعدنا من الناس، لأن علمنا مقصور على حال من شاهدناهم وعاصرناهم.
ورحم الله صاحب الكشاف قد حكى هذه الأقوال وغيرها بأسلوبه البليغ فقال:
فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم. كما كان سؤال الموءودة توبيخا للوائد. فإن قلت: كيف يقولون: "لا علم لنا وقد علموا بما أجيبوا؟".
قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم - أى: بما ابتلوا به منهم -، وكابدوا من سوء إجابتهم، إظهارا للتشكى واللجأ إلى ربهم فى الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة، وأفت فى أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم فى أيديهم، إذا اجتمع توبيخ الله لهم وتشكى أنبيائه منهم. ومثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه. فجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجى؟ - وهو عالم بما فعل به - يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بى، تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه، وإظهارا للشكاية وتعظيما لما حل به منه - ولله المثل الأعلى - وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم.
وقيل معناه: علمنا ساقط مع علمك ومغمور، لأنك علام الغيوب، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التى فيها إجابة الأمم لرسلهم.
وقيل معناه: "لا علم لنا بما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة، وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجه موبخين".
ثم ذكر - سبحانه - بعض النعم التى أنعم بها على عيسى وأمه فقال: { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ }.
وقوله: { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } بدل من قوله: { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } وقد نصب بإضمار اذكر.
والمعنى: اذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ يوم يجمع الله الرسل فيقول لهم ماذا أجبتم؟. واذكر - أيضاً - زيادة فى العبرة والعظة قوله - سبحانه - { يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } تذكر يا عيسى نعمى المتعددة عليك وعلى والدتك - وعبر بالماضى فى قوله : { إذ قال الله } مع أن هذا القول سيكون فى الآخرة، للدلالة على تحقيق الوقوع، وأن هذا القول سيحصل بلا أدنى ريب يوم القيامة.
قال أبو السعود: قوله - تعالى: { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } شروع فى بيان ما جرى بينه - تعالى - وبين واحد من الرسل المجموعين، من المفاوضة على التفصيل، إثر بيان ما جرى بينه - تعالى - وبين الكل على وجه الإِجمال ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص شأن عيسى بالبيان، لما أن شأنه - عليه السلام - متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعت عليهم هذه السورة جناياتهم. فتفصيل شأنه يكون أعظم عليهم، وأجلب لحسراتهم، وأدخل فى صرفهم عن غيهم وعنادهم".
والمراد بالنعمة فى قوله { ٱذْكُرْ نِعْمَتِي } النعم المتعددة التى أنعم بها - سبحانه - على عيسى وعلى والدته مريم حيث طهرها من كل ريبة، واصطفاها على نساء العالمين. وفى ندائه - سبحانه - لعيسى بقوله { يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } إشارة إلى أنه ابن لها وليس ابنا لأحد سواها، فقد ولد من غير أب، ومن كان شأنه كذلك لا يصلح أن يكون إلها، لأن الإِله الحق لا يمكن أن يكون مولودا أو محدثا.
وقوله: { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } تعديد للنعم التى أنعم الله - تعالى - بها على عيسى.
وقوله { أيدتك } أى قويتك من التأييد بمعنى التقوية.
والمراد بروح القدس: جبريل - عليه السلام - فإن من وظيفته أن يؤيد الله به رسله بالتعليم الإلهى، وبالتثبيت فى المواطن التى من شأن البشر أن يضعفوا فيها.
وقيل: المراد { بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } روح عيسى حيث أيده - سبحانه - بطبيعة روحانية مطهرة فى وقت سادت فيه المادية وسيطرت.
أى: أيدتك بروح الطهارة والنزاهة والكمال، فكنت متسما بهذه الروح الطاهرة من كل سوء.
والمهد: سن الطفولة والصبا - والكهولة: السن التى يكون فى أعقاب سن الشباب.
والمعنى: اذكر يا عيسى نعمتى عليك وعلى والدتك، وقت أن قويتك بروح القدس الذى تقوم به حجتك، ووقت أن جعلتك تكلم الناس فى طفولتك بكلام حكيم لا يختلف عن كلامك معهم فى حال كهولتك واكتمال رجولتك.
وقوله: { إِذْ أَيَّدتُّكَ } ظرف لنعمتى. أى: اذكر إنعامى عليكما وقت تأييدى لك. وذكر - سبحانه - كلامه فى حال الكهولة - مع أن الكلام فى هذه الحالة معهود فى الناس - للإِيذان بأن كلامه فى هاتين الحالتين - المهد والكهولة - كان على نسق واحد بديع صادر عن كمال العقل والتدبير، دون أن يكون هناك فرق بين حالة الضعف وحالة القوة. قال الرازى: وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده.
وقال ابن كثير: قوله { ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } أى فى خلقى إياك من أم بلا ذكر، وجعلى إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتى { وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ } حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة و { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } وهو جبريل، وجعلتك نبيا داعيا إلى الله فى صغرك وكبرك. فأنطقتك فى المهد صغيراً: فشهدت ببراءة أمك من كل عيب. واعترفت لى بالعبودية. وأخبرت عن رسالتى إياك ودعوتك إلى عبادتى ولهذا قال: { تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } أى: تدعو إلى الله الناس فى صغرك وكبرك. وضمّن { تكلم } معنى تدعو، لأن كلامه الناس فى كهولته ليس بأمر عجيب".
وقوله: { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } بيان لنعمة أخرى من النعم التى أنعم بها - سبحانه - على عيسى.
والمراد بالكتاب: الكتابة. أى أن عيسى - عليه السلام - لم يكن أميا بل كان قارئا وكاتبا وقيل المراد به ما سبقه من كتب النبيين كزبور داود، وصحف إبراهيم، وأخبار الأنبياء الذين جاءوا من قبله.
والمراد بالحكمة: الفهم العميق للعلوم مع العمل بما فهمه وإرشاد الغير إليه.
أى: واذكر وقت أن علمتك الكتابة حتى تستطيع أن تتحدى من يعرفونها من قومك. ووقت أن علمتك { الحكمة } بحيث تفهم أسرار العلوم فهما سليما تفوق به غيرك، كما علمتك أحكام الكتاب الذى انزلته على أخيك موسى وهو التوراة وأحكام الكتاب الذى أنزلته عليك وهو الإنجيل.
ثم ذكر - سبحانه - بعض معجزات عيسى، بعد أن بين بعض ما منحه من علم ومعرفة، فقال: { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } أى: واذكر وقت أن وفقتك لأن تخلق أى تصور من الطين صورة مماثلة لهيئة الطير { فتنفخ فيها } أى فى تلك الهيئة المصورة { فتكون } أى فتصير تلك الهيئة المصورة { طَيْراً بِإِذْنِي } أى: تصير كذلك بقدرتى وإرادتى وأمرى.
ثم قال - تعالى: { وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ } وهو الذى يولد أعمى؛ وتبرئ كذلك { وَٱلأَبْرَصَ } وهو المريض بهذا المرض العضال { بِإِذْنِي }.
وقوله: { وتبرئ } معطوف على { تخلق }.
وقوله:{ وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ } معطوف على قوله: { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ }.
أى: واذكر وقت أن جعلت من معجزاتك أن تخرج الموتى من القبور أحياء ينطقون ويتحركون. وكل ذلك بإذنى ومشيئتى وإرادتى.
وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء، وكان دعاؤه يا حى يا قيوم، وذكروا من بين من أحياهم سام بن نوح.
وبعد أن ذكر - سبحانه - بعض المعجزات التى أعطاها لعيسى لكى ينفع بها الناس، أتبعها بذكر ما دفعه عنه من مضار فقال: { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ }.
أى: واذكر نعمتى عليك وقت أن صرفت عنك اليهود الذين أرادوا السوء، وسعوا فى قتلك وصلبك مع أنك قد بشرتهم وأنذرتهم وجئتهم بالمعجزات الواضحات التى تشهد بصدقك فى نبوتك.
وقوله { فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } تذييل قصد به ذمهم وتسجيل الحقد والجحود عليهم.
أى: لقد أعطيناك يا عيسى ما أعطيناك من النعم والمعجزات لتكون دليلا ناطقا بصدقك، وشاهداً يحمل الناس على الإِيمان بنبوتك، ولكن الكافرين من بنى إسرائيل الذين أرسلت إليهم لم يصدقوا ما جئتهم به من معجزات واضحات، بل سارعوا إلى كذيبك قائلين: ما هذا الذى جئتنا به يا عيسى إلا سحر ظاهر، وتخبيل بين .
وهكذا نرى أن الكافرين من بنى إسرائيل، لم تزدهم البينات التى جاء بها عيسى إلا جحوداً وعناداً.
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله الحواريون لعيسى، وما طلبوه منه، مما يدل على إكرام الله - تعالى - لنبيه عيسى فقال:
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ... }