خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١٩
للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٢٠
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الآلوسى: { قَالَ ٱللَّهُ } كلام مستأنف ختم به - سبحانه - حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل. وأشير إلى نتيجته ومآله. والمراد بقول الله - تعالى - عقيب جواب عيسى الإِشارة إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو فى زمرتهم.
والمراد باليوم فى قوله { هَـٰذَا يَوْمُ } يوم القيامة الذى تجازى فيه كل نفس بما كسبت وقد قرأ الجمهور برفع { يوم } من غير تنوين على أنه خبر لاسم الإِشارة أى: قال الله - تعالى - : إن هذا اليوم هو اليوم الذى ينتفع الصادقون فيه بصدقهم فى إيمانهم وأعمالهم، لأنه يوم الجزاء والعطاء على ما قدموا من خيرات فى دنياهم.
أى أن صدقهم فى الدنيا ينفعهم يوم القيامة، بخلاف صدق الكفار يوم القيامة فإنه لا ينفعهم، لأنهم لم يكونوا مؤمنين فى دنياهم.
وقرأ نافع (يوم) بالنصب من غير تنوين على أنه ظرف لقال. أى: قال الله - تعالى - هذا القول لعيسى يوم ينفع الصادقين صدقهم.
وقوله: { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } جملة مستأنفه لبيان مظاهر النفع الذى ظفر به الصادقون فى هذا اليوم.
أى: أن هؤلاء الصادقين فى دنياهم قد نالوا فى آخرتهم جنات تجرى من تحت أشجارها وسررها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى: مقيمين فيها إقامة دائمة لا يعتريها انقطاع وقوله: { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } أى: رضى الله عنهم فأعطاهم بسبب إيمانهم الصادق وعملهم الصالح عطاء هو نهاية الآمال والأمانى. ورضوا عنه بسبب هذا العطاء الجزيل الذى لا تحيط العبارة بوصفه.
واسم الإشارة فى قوله: { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } يعود إلى ما انتفع به الصادقون من جنات تجرى من تحتها الأنهار. ومن رضا الله عنهم. أى: إلى النعيم الجثمانى المتمثل فى الجنات وما يتبعها من عيشة هنيئة، وإلى النعيم الروحانى المتمثل فى رضا الله عنهم.
قال الفخر الرازى: اعلم أنه - تعالى - لما أخبر أن صدق الصادقين فى الدنيا ينفعهم فى القيامة شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب. وحقيقة الثواب: أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله: { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم، وقوله { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } إشارة إلى الدوام. واعتبر هذه الدقيقة: فإنه أينما ذكر الثواب قال { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } وأينما ذكر العقاب للفساق من أهل الإِيمان، ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأييد، وأما قوله: { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } فتحته أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها".
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية الدالة على شمول ملكه لكل شىء فى هذا الكون فقال: { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
أى: لله - تعالى - وحده دون أحد سواه الملك الكامل للسموات وللأرض ولما فيهن من كل كائن وهو - سبحانه - على كل شىء قدير لا يعجزه أمر أراده، ومن زعم أن له شريكا - سواء أكان هذا الشريك عيسى أو أمه أو غيرهما - فقد أعظم الفرية وتسربل بالجهل، وكان مستحقا لخزى الدنيا، وعذاب الآخرة.
وقال - سبحانه - { وَمَا فِيهِنَّ } فغلب غير العقلاء، للإِشارة إلى أن كل المخلوقات مسخرة فى قبضة قهره وقدرته وقضائه وقدره وهم فى ذلك التسخير كالجمادات التى لا قدرة لها. إذ أن قدرة سائر المخلوقات بالنسبة لقدرة الله كلا قدرة.
وإن هذه الآية الكريمة، لمتسقة كل الاتساق مع الآية التى قبلها، لأنه - سبحانه - بعد أن بين جزاء الصادقين فى دنياهم عقبه ببيان سعة ملكه، وشمول قدرته الدالين على أن هذا الجزاء لا يقدر عليه أحد سواه - سبحانه -.
وإن هذه الآية الكريمة - أيضاً - لمتسقة كل الاتساق لأن تكون خاتمة لهذه السورة التى ساقت ما ساقت من تشريعات وأحكام وآداب وهدايات ومن حجج حكيمة، وأدلة ساطعة دحضت بها الأقوال الباطلة التى افتراها أهل الكتاب - وخصوصا النصارى - على عيسى وأمه مريم، وبرهنت على أن عيسى وأمه ما هما إلا عبدان من عباد الله، يدينان له بالعبادة والطاعة والخضوع، ويأمران غيرهما بأن ينهج نهجهما فى ذلك.
ثم أما بعد: فهذا ما وفقنى الله - تعالى - لكتابته فى تفسير سورة المائدة، تلك السورة التى اشتملت - من بين ما اشتملت - على كثير من التشريعات التى تتعلق بالحلال والحرام وبالعبادات والحدود والقصاص والأيمان. كما اشتملت على كثير من الآيات التى تتعلق بأهل الكتاب فذكرت حكم أطعمتهم وحكم الزواج بالمحصنات من نسائهم، كما ذكرت أقوالهم الباطلة فى شأن عيسى وأمه وردت على مزاعمهم بما يدحض مفترياتهم فى هذا الشأن وفى غيره.
والله أسأل أن يجعل ما كتبناه خالصا لوجهه، ونافعا وشفيعاً لنا يوم نلقاه
{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ. إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ).